الثورات العربية.. وتكلفتها الاقتصادية

هروب رؤوس أموال بمئات ملايين الدولارات والقطاع السياحي من الأكثر تضررا

رجل ينظف أحد شوارع القاهرة بعد يوم من المظاهرات (نيويورك تايمز)
TT

يختلف المحللون الاقتصاديون حول الأثر الاقتصادي البعيد المدى للثورات العربية، ولكنهم يتفقون على التكلفة الباهظة التي تدفعها البلدان التي تعيش انتفاضات شعبية في الوقت الحالي.

وزير المالية الأردني محمد أبو حمور تحدث قبل نحو أسبوعين في مؤتمر مصرفي عربي في روما، عن هروب رؤوس أموال تصل إلى حد 500 مليون دولار أميركي، أسبوعيا، في أنحاء العالم العربي. وقبله بأيام، حذر الرئيس السوري بشار الأسد في آخر كلمة عامة ألقاها من جامعة دمشق، من «خطر انهيار اقتصادي». وفي اليمن، حذر الاتحاد العام للغرف التجارية والصناعية اليمنية، منتصف الشهر الماضي، من انهيار الاقتصاد في البلد إذا استمرت الأزمة السياسية الراهنة دون حل. وفي مصر، كشف تقرير للمجلس الأعلى للقوات المسلحة في منتصف أبريل (نيسان) الماضي، أن الوضع الاقتصادي في مصر «مخيف ومقلق».

وفي تونس، قال محافظ البنك المركزي التونسي مصطفى كمال النابلي في مطلع شهر مايو (أيار) الماضي، إن الوضع الاقتصادي في بلاده «صعب» جراء تداعيات «الزلزال السياسي» الذي أحدثته ثورة 14 يناير (كانون الثاني) والأزمة في ليبيا. أما ليبيا التي تعتمد في اقتصادها بشكل أساسي على مردود النفط الذي يشكل 95 في المائة من صادراتها، و80 في المائة من عائدات الحكومة، فقد دخلت في ما يشبه حالة الشلل.. نستعرض في هذا التقرير الأثر الاقتصادي حتى الآن على البلدان الخمسة التي لفتها وتلفها الاحتجاجات.

في سوريا، تتباين التحليلات في تقدير التداعيات الاقتصادية لموجات الاحتجاجات. وعلى رغم محدودية الآثار المترتبة، حتى الآن، على الدعوات لسحب الودائع من البنوك والتخلي عن الليرة كعملة ادخار، وإحراق فواتير الماء والكهرباء، فإن الاقتصاديين والخبراء صنفوها كمؤشر قياس مهم لمدى انخراط الشرائح الاجتماعية في إجراءات من هذا النوع، ومدى استعدادها لخطوات مماثلة تندرج كلها تحت عنوان العصيان المدني، حيث يمكن لتوسع هذا التحرك أن يصيب المالية العامة للدولة بأضرار مباشرة وفقا لحجم الاستجابة وشمولها وزمانها.

ويقر المراقبون بأن الاقتصاد السوري تكبد خسائر فعلية في الربع الثاني من العام الحالي الذي تصاعدت فيه التحركات الاحتجاجية. وثمة ترقب داخلي وخارجي واسع النطاق لما سيصدر من أرقام وإحصاءات مالية واقتصادية لحصيلة هذا الربع، بعدما أظهرت عمليات سوق المال والأسهم المدرجة في البورصة تدهورا لامس القيمة الاسمية لمجمل الأسهم المدرجة وسط زيادات مطردة في عمليات العرض يقابلها تناقص متنامٍ في حركة الطلب.

وحاولت هيئة الأوراق والأسواق المالية السورية أخيرا «فرملة» التراجع الحاد عبر تعديل الحدود السعرية لتصبح 5% صعودا و2% فقط هبوطا، لكن لم تحقق الاستجابة المأمولة من السوق التي واصلت الأداء السلبي مع استمرار البيع وغياب الشراء، مما يعكس تحول القلق إلى موجة خوف سيما وأن بلوغ الأسعار أدنى مستوياتها حافز مهم لتكوين رغبة حقيقية للشراء وتحقيق أرباح مجزية، وفق القاعدة السوقية التي تصنف فترة «الهبوط النفسي» بأنها الوقت المثالي للدخول والاستثمار، وحيازة أسهم لمؤسسات وبنوك ليست معرضة لمخاطر حقيقية، وتملك مركزا ماليا قويا وملاءة عالية سواء بذاتها أو من خلال المؤسسات التي تملكها وتديرها.

وبعد تراجع الودائع في المصارف الخاصة نحو مليار دولار في الربع الأول الذي شهد أسبوعين فقط من الاحتجاجات، تكتسب الإحصاءات المصرفية للربع الثاني أهمية بالغة واستثنائية. فهذه الإحصاءات ستدل من جهة على مدى استجابة المودعين لدعوات سحب المدخرات والتخلي عن العملة الوطنية، كما ستدل من جهة مقابلة على اتجاهات المستثمرين والمودعين الكبار، فضلا عن قياس حقيقة وحجم هروب جزء من الودائع إلى الخارج.

ومع هذه المتابعة، بدأت ترتفع موجة القلق لدى المصارف العاملة ومالكيها من الخارج في ظل تنامي العقوبات التي تفرضها كل من أميركا وأوروبا على شخصيات ومؤسسات سوريا. ومصدر القلق أن يتجاوز مفعول هذه العقوبات نطاق تجميد أصول أو ودائع في المصارف الأميركية والأوروبية، وهذه مشكوك بوجودها أصلا، إلى منع ومراقبة أي أعمال مالية للمعاقبين ضمن النظام المصرفي العالمي. وهذا يعني عمليا التضييق على أي مصارف سورية أو غير سورية تقوم بهذا النوع من العمليات.

وإلى جانب الوضع المالي والمصرفي، يحتل القطاع السياحي الأكثر تضررا وحساسية صدارة في متابعات المراقبين والمحللين كونه أولا يستقطب نحو 11 في المائة من إجمالي اليد العاملة، وهو من المصادر الأهم لدخول العملات الصعبة ودعم ميزان المدفوعات خصوصا بعدما تم ضخ استثمارات تفوق 6 مليارات دولار في هذا القطاع خلال السنوات الأخيرة بهدف مواكبة النمو القوي المتمثل ببلوغ سقف 6 ملايين سائح وزائر ومغترب سنويا. كذلك تبدو الخطط الموضوعة لمشاريع تنموية مهددة وفق ما نقل عن خبير اقتصادي أشار إلى أن خطة تنموية خمسية تكلفتها نحو مليار دولار قد تتعرض لضربة قاسية في حال استمرار الاضطرابات. كذلك تلقت المشاريع الاستثمارية ضربة قوية بسبب الأزمة، حيث إن العديد من المستثمرين يعيدون النظر في خططهم ومشاريعهم.

وفي اليمن، دفعت الثورة التي لا تزال مستمرة، باقتصاد البلاد إلى نفق مظلم، حيث شهدت أسعار صرف العملة اليمنية أعلى معدلات تراجعها خلال السنوات الخمس الماضية. وخسر الريال نحو 20 في المائة من قيمته أمام الدولار ليصل إلى 240 ريالا للدولار الواحد، كما تراجعت احتياطات البلاد من العملات الأجنبية من 8.3 مليار دولار نهاية عام 2010، إلى 4.1 مليار دولار نهاية مايو (أيار) الماضي. ونجم عن توقف صادرات اليمن من النفط على محدوديتها منذ أبريل (نيسان) الماضي بسبب تفجير أنبوب نقل الخام من حقول الإنتاج في محافظة مأرب على يد عناصر قبلية مسلحة، فقدان الاقتصاد اليمني لنحو عشرة ملايين دولار يوميا. وقدر إجمالي المبالغ التي فقدت جراء توقف صادرات النفط بأكثر من مليار دولار. ويشكل توقف صادرات النفط صدمة كارثية للاقتصاد اليمني الذي يعتبر اقتصادا نفطيا بالأساس، إذ تمثل صادرات النفط 92 في المائة من إجمالي حجم الصادرات، ونحو 70 في المائة من الموارد العامة للدولة و32 في المائة من الناتج المحلى الإجمالي. كما أن تراجع عائدات اليمن من العملات الأجنبية بسبب توقف صادرات النفط يفاقم من العجز في الموازنة العامة للدولة للعام الحالي، والذي قدرته مؤسسة كارينغي للسلام الدولي بنحو 3.75 مليار دولار.

وشملت مؤشرات تراجع الأداء الاقتصادي في اليمن في اليمن بسبب الثورة الشبابية وتداعياتها السياسية تراجع الإيرادات العامة للدولة بنحو 70 في المائة وتوقفت حركة السياحة الداخلية والخارجية بنسبة 100 في المائة. وقدرت فاطمة الحريبي المدير التنفيذي لمجلس الترويج السياحي خسائر هذا القطاع بأكثر من 100 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليوني دولار نتيجة الاعتداء على منشآت سياحية.

وفي ذات السياق تكبد قطاع العقارات خسائر غير مسبوقة إثر تراجع الطلب على السكن في المدن الرئيسية بنسبة 50 في المائة عقب نزوح آلاف الأسر اليمنية إلى المناطق الريفية هربا من العنف والمواجهات. كما دفعت الأوضاع السياسية والأمنية المضطربة عددا من الشركات العقارية إلى وقف العمل في مشاريع عقارية ضخمة.

ومع ارتفاع أسعار النفط، ارتفعت معظم السلع والخدمات داخل اليمن، حيث ارتفعت أسعار النقل المواصلات بنسبة 40 في المائة. كما تسببت أزمة المحروقات في تذبذب خدمات الكهرباء والمياه، وأدت إلى انقطاع التيار الكهربائي إلى 16 ساعة يوميا في صنعاء وإلى عدة أيام في مدن أخرى، فنحو 60 في المائة من الطاقة الكهربائية المنتجة تعتمد على مادة الديزل.

ونتج عن تدهور خدمات الكهرباء أوضاع إنسانية مأساوية، بعد أن أصيبت الحياة بالشلل التام، فانقطاع الكهرباء المستمر طوال اليوم تسبب في موت العشرات في المستشفيات نتيجة توقف الأجهزة الطبية، وأدى إلى تعفن الجثث في ثلاجات المستشفيات فضلا عن أن غياب الكهرباء يستمر مع انطلاق اختبارات الشهادتين الأساسية والثانوية العامة مطلع هذا الأسبوع مسببا المزيد من الضغوط النفسية للطلاب وأسرهم.

في المقابل كشف بيان صادر عن الغرفة التجارية الصناعية بأمانة العاصمة عن تراجع حركة التجارة بنحو 60 في المائة نتيجة تراجع الطلب على السلع والخدمات بسبب ارتفاع أسعارها من ناحية وانخفاض القدرة الشرائية للمستهلك من ناحية أخرى. وقد دفع هذا الأمر بشركات القطاع الخاص إلى تسريح 60 في المائة من موظفيها إلى حين انتهاء الأزمة الحالية مما يعنى تفاقم الأوضاع المعيشية والاقتصادية في بلد تقدر نسبة البطالة فيه بأكثر من 25 في المائة من إجمالي قوة العمل في البلاد ويعيش نحو 43 من سكانه البالغ تعدادهم 24 مليون نسمه تحت خط الفقر العام.

وفي مصر، ذكرت دراسة حديثة أعدها معهد التخطيط القومي نشرت في مطلع شهر مايو (أيار) الماضي أن الخسائر الإجمالية للاقتصاد المصري منذ بداية أحداث الثورة حتى منتصف مارس (آذار)، تقدر بنحو 37 مليار جنيه، بسبب توقف عدد كبير من الشركات المصرية المنتجة والمصانع الكبرى بالمدن الصناعية وتخص تحويلات المصريين بالخارج والتي تمثل 8% من الناتج القومي المصري وانخفاض الصادرات السلعية نحو 6% في الشهر الأول من الأزمة ووصل إلى 40% حاليا غير سقوط قيمة الجنيه المصري أمام الدولار واليورو والين الياباني وغيرها.

ورصدت الدراسة خسائر كل قطاع على حدة حيث أكدت أن خسائر قطاع السياحة وصلت إلى 3 مليارات دولار حتى الآن ما يعادل 18 مليار جنيه مصري نظرا لتناقص عدد السياح والسياحة العالمية بعد ثورة 25 يناير، والجدير بالذكر أن قطاع السياحة يمثل 31% من الناتج القومي الإجمالي ويعمل به نحو (3.5) مليون عامل مصري.

ومنذ بدء الاحتجاجات واندلاع ثورة 25 يناير (كانون الثاني) الماضي، تسلل الخوف داخل نفوس المستثمرين مما قد تسفر عنه هذه الاضطرابات من هبوط للاقتصاد المصري مع العلم بأن مستوى التضخم الأساسي ارتفع في ديسمبر (كانون الأول) 2010 ليصل إلى 9.6% وهي أعلى من المستويات المطمئنة للبنك المركزي. وبناء على بيانات حديثة للبنك المركزي انخفض معدل التضخم الأساسي ليصل إلى 8.54% خلال شهر مارس الماضي مقابل 9.51% خلال شهر فبراير (شباط) الماضي. وأضافت الأحداث الليبية التي نشبت في 17 فبراير الماضي إلى مجمل الضغوط على الاقتصاد المصري إذ تم إجلاء قرابة 300 ألف مصري من الأراضي الليبية خلال الأشهر الماضية ومثلت العمالة المصرية الفارة من ليبيا بسبب الاحتجاجات الدامية هناك ضغطا جديدا على الاقتصاد المصري.

وفيما يتعلق بقطاع الطيران فقد تأثر بخسائر تبلغ نحو 700 مليون جنيه وانخفاض في نسبة الركاب يصل إلى 56% بسبب تراجع نسب الحجز والسفر والرحلات الخارجية على الخطوط المصرية لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر.

وفي ليبيا، أثرت الاضطرابات السياسية التي تشهدها البلاد سلبا على قطاعات مهمة في الاقتصاد، في مقدمتها الصناعات التحويلية في الوقت نفسه دمرت البنية التحتية في ليبيا بشكل كبير. وأدت تلك الاضطرابات إلى خفض قيمة الاستثمارات الليبية في الخارج كما قامت شركات نفط عالمية كبرى بتعليق أعمالها وإجلاء موظفيها وتعرض الاستثمار الأجنبي المباشر في ليبيا إلى خسائر فادحة. فقد خسرت تركيا على سبيل المثال، استثمارات قدرت بـ15 مليار دولار. وانخفضت الواردات الليبية خلال الربع الأول من العام الحالي بنسبة 35% عن العام الماضي كما انخفضت الصادرات الليبية بنسبة 26.5% عن العام السابق.

أما في تونس التي انطلقت منها الثورات، فقد تأثرت نسبة النمو الاقتصادي فيها بشكل ملحوظ بعد توقف عجلة الإنتاج لمدة فاقت لغاية الآن، الستة أشهر. وقد تأثرت الاستثمارات المختلفة وتراجعت مؤشرات القطاع السياحي ومردودية مؤسسات الإنتاج المختلفة، مما جعل حديث الاقتصاديين يتحدثون عن تونس «المريضة اقتصاديا» ولهم في مؤشرات اقتصادية عديدة ما يبرر ذاك الوصف.

ففي المجال السياحي، قال الحبيب عمار المدير العام للديوان الوطني للسياحة التونسية إن السياحة تمر بأكبر أزمة منذ انطلاقها في تونس. وأعلن منذ مدة عن مرور السياحة في تونس بـ«أزمة» غير مسبوقة عقب الثورة التونسية التي اندلعت في ديسمبر الماضي، حيث تراجعت الحركة السياحية بنسبة 54% في مستوى العدد الإجمالي للسياح الوافدين. كما سجلت العائدات من العملة الصعبة نقصا بنحو 50%، وقد بلغت خلال الفترة من 1 يناير إلى 10 مايو نحو 410 ملايين دينار تونسي (نحو 292 مليون دولار أميركي)، مقابل 850 مليون دينار تونسي خلال نفس الفترة من سنة 2010. علما أن القطاع السياحي يمثل 7% من إجمالي الناتج الوطني التونسي ويؤمن قرابة 400 ألف وظيفة.

وحول تضرر المؤسسات الاقتصادية، صرح ماهر الفقي المدير المركزي للشؤون الاقتصادية بالاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية لـ«الشرق الأوسط»، بأن منظمة الأعراف ومنذ ثورة 14 يناير الماضي، أعدت تعدادا لنحو 600 مؤسسة متضررة من جراء الثورة، وقد تعرض البعض منها للحرق والبعض الآخر للسلب والنهب.

واعتبر المتحدث أن التعويضات الجملية للتجارة الصغرى والمؤسسات قدرت بنحو مليون دينار تونسي. أما التعويضات التي تتطلبها المؤسسات المتوسطة والصغرى والكبرى فتقدر بـ150 مليون دينار تونسي (نحو 100 مليون دولار أميركي). وقدرت القيمة الجملية للأضرار المسجلة منذ ذاك الحين بما بين 140 و150 مليون دينار تونسي. وصنفت المنظمة الخسائر التي تقل عن 10 آلاف دينار تونسي (قرابة 7 آلاف دولار أميركي)، وتم إحصاء 250 مؤسسة وستتمتع بتعويضات كاملة. ويصل عدد المؤسسات المتضررة، التي فاقت خسائرها قيمة 10 آلاف دينار تونسي، إلى 350 مؤسسة.