المرأة الأوسع نفوذا في العالم

لاغارد بطلة السباحة السابقة.. لقّبها الفرنسيون بـ«مدام لاماركيز».. تقود أهم مؤسسة مالية عالمية

TT

في الـ13 من الشهر الحالي سيصدر في باريس عن دار «ميشال لافون» كتاب تحت عنوان: «كريستين لاغارد.. المرأة الأوسع نفوذا في العالم»، لمؤلفيه سيريل لاشيفر وماري فيزو. الأول يشغل وظيفة رئيس قسم الاقتصاد في جريدة «لو فيغارو» حيث تعمل الثانية أيضا. وبالطبع لم يكن يحلم المؤلفان بحملة ترويجية لكتابهما أفضل من تلك التي قامت بها كريستين لاغارد نفسها بأن نجحت بدعم من قصر الإليزيه والدبلوماسية الفرنسية من أن تتربع على عرش صندوق النقد الدولي، خليفة لفرنسي آخر هو دومينيك ستروس - كان بطل قضية التحرش الجنسي ذات يوم سبت في فندق نيويوركي، والتي ما زالت فصولها لم تكتمل بعد مع إطلاقه بعد اكتشاف أن المدعية عليه لم تقدم إفادات صادقة.

ولكن ليس ثمة الكثير الذي يجمع ما بين الخلف والسلف لا في الطبع ولا في طريقة الحياة. الأول، يحب الأضواء والنساء وحياة البذخ وإفهام القاصي والداني أنه غني وعازم على التمتع بثروته. والثانية، ما زالت متأثرة بتربيتها الكاثوليكية المحافظة. قليلون يعرفون تفاصيل حياتها العائلية والشخصية. لكن ابنة مدينة لو هافر، في منطقة نورمانديا، من معدن مصقول. فبطلة السباحة السابقة تعرف قيمة الجهد والعمل وتعول عليهما تقيدا بنصيحة والدها الذي فقدته في سن السابعة عشرة من عمرها والذي درج على القول: «ليست لديك حقوق بقدر ما يترتب عليك واجبات». أما والدتها فكانت تردد على مسامعها دوما: «عليك أن تنهي العمل الذي بدأته».

تقول ماري فيزو متحدثة عن كريستين لاغارد وكاشفة عن بعض ملامحها: «إنها تقرأ الأناجيل بشكل دوري وتتصرف وفق قاعدة مفادها أن الأشخاص الموجودين أمامها ليسوا فقط مجرد أفراد يؤدون وظائف معينة، بل هم كائنات إنسانية يجب التعاطي معها بهذه الصفة».

دومينيك ستروس - كان وكريستين لاغارد كلاهما جلس في مقعد مدير عام أقوى مؤسسة مالية عالمية وشغلا منصب وزير الاقتصاد في فرنسا. الأول، الأستاذ الجامعي والأكاديمي دخل السياسة من بوابة اليسار الاشتراكي الساعي إلى التوفيق بين الاشتراكية واقتصاد السوق ونجح وزيرا ومديرا عاما لصندوق النقد. والثانية، تنتمي إلى اليمين المعتدل المؤمن بقوة بالليبرالية كمحرك للاقتصاد. اختارت المحاماة مهنة حرة والولايات المتحدة مكانا لإبراز مواهبها التي تفتقت لدرجة أنها اختيرت في عام 1999 رئيسة للجنة التنفيذية لمكتب المحاماة الشهير «بيكر وماكنزي» الذي انضمت إليه في عام 1981 في باريس بعد حصولها على شهادة الدراسات العليا في القانون وتخرجها من معهد العلوم السياسية في مدينة أكس أوبروفنس. وكانت أول امرأة تحتل هذا المنصب في مكتب المحاماة الذي بقيت فيه إلى أن استدعاها رئيس الوزراء السابق دومينيك دو فيلبان عام 2005 وسماها وزيرة التجارة الخارجية في حكومته التي دامت عامين. ثم عقب انتخاب نيكولا ساركوزي رئيسا للجمهورية في ربيع عام 2007 وقع اختياره عليها بداية وزيرة للزراعة والصيد البحري (لشهر واحد) ثم عينها وزيرة للاقتصاد والمال والعمل وهو المنصب الحكومي الأبرز لأنه يعود لصاحبه أن يترك بصماته على الإصلاحات الاقتصادية التي تربط بها دينامية الدورة الاقتصادية والنمو والبطالة والمالية. وكما أنها كانت أول امرأة تدير مكتب «بيكر وماكنزي»، فإنها كانت أيضا أول امرأة في فرنسا تسند إليها وزارة الاقتصاد والمال. ورغم التعديلات والتغييرات الوزارية فإن لاغارد بقيت في منصبها طيلة أربع سنوات، ما يعكس ثقة الرئيس ساركوزي بها وتعويله عليها.

غير أن كريستين لاغارد عرفت في بداياتها بعض الكبوات، فما بين رئيس جمهورية يريد أن يقرر بنفسه كل شيء وإدارة مركزية لها عاداتها وعصبياتها الداخلية، لم تجد لاغارد طريقها بسهولة. كما أنها ارتكبت بعض الهفوات التي أصبحت موضع تندر من النواب والطبقة السياسية إلى درجة تساءل معها قصر الإليزيه عن الحاجة لاستبدالها. ومما اقترحته يوما على الفرنسيين لمقاومة ارتفاع أسعار المشتقات النفطية أن يستخدموا دراجاتهم الهوائية بدل سياراتهم، الأمر الذي أثار السخرية والاستهجان. كذلك فإنها درجت على الحديث عن اقتراب خروج الاقتصاد الفرنسي من نفقه المظلم وعودة النمو والانتعاش الاقتصاديين بينما الناس في الشوارع تتظاهر دفاعا عن قدراتها الشرائية ومطالبة بتوفير فرص العمل.

في هذه الفترة أخذ السياسيون والإعلاميون يطلقون على كريستين لاغارد تهكما لقب «مدام لاماركيز»، مستعيرين هذا اللقب من أغنية فرنسية شعبية تقول في بعض: «كل شيء على ما يرام مدام لاماركيز...».

ولم تكن تستطيع كريستين لاغارد، ذات اللغة الإنجليزية الأنيقة التي تتحدث بها بلهجة أميركية، عدم اللجوء إلى بعض جملها خصوصا في مداخلاتها أمام النواب أو في المؤتمرات الصحافية. وأفضى التكرار إلى «نقزة» من هذه السيدة التي «تتشاوف» على الآخرين بلغة أجنبية.

كان يمكن أن تبقى كريستين لاغارد وزيرة عادية في وزارة أساسية لولا أن جاءت الأزمة المصرفية والمالية ومعها الأزمة الاقتصادية عام 2008 التي منحتها الفرصة لتكبر وتكشف عن مواهبها وكفاءاتها رغم أنها ليست خبيرة مال أو اقتصاد. فهذه المرأة النحيفة، الممشوقة القامة، ذات الشعر الفضي، الأنيقة التي تهوى ارتداء ملابس دار الأزياء «شانيل»، وجدت نفسها في الخطوط الأمامية حيث كانت فرنسا ترأس الاتحاد الأوروبي ما جعلها وزيرة اقتصاد 27 بلدا أوروبيا. وبما أن الرئيس ساركوزي فهم أهمية الأزمة والرافعة التي يمكن أن تشكلها له إذا عرف اتخاذ المبادرات الواجبة لمواجهة الأزمة والمحافظة على النظام النقدي والمالي الدولي مع تطويره وتحاشي أن يعرف هزات لاحقة، فإن دور كريستين لاغارد تمثل في البحث عن القواسم المشتركة ومعرفة التفاوض وتقديم المقترحات التي من شأنها أن تلقى إجماع القوى المالية والاقتصادية الأساسية متمثلة في الولايات المتحدة واليابان وألمانيا والاتحاد الأوروبي وباقي دول مجموعة الثمانية فضلا عن الدول الرئيسية الناشئة ومجموعة العشرين.

وفي هذه المرحلة سافرت كريستين لاغارد كثيرا متنقلة بين عواصم العالم وعقدت مئات الاجتماعات ودافعت عن مقترحات فرنسا في القمم واللقاءات العالمية التي نظمت لمواجهة الأزمة، الأمر الذي وفر لها فرصة توسيع دائرة معارفها الدولية التي تبين أنها مفيدة للغاية عندما شجعها الرئيس ساركوزي على الترشح لمنصب مديرة عام صندوق النقد الدولي. ومع الوقت وبفضل بقائها في منصبها طيلة أربع سنوات، وهي مدة استثنائية في العرف الفرنسي، فإن كريستين لاغارد اكتسبت شرعيتها إلى درجة أن انتخابها بشبه إجماع في 28 يونيو (حزيران) الفائت مديرة جديدة للصندوق استقبل بعاصفة من التصفيق تحت قبة البرلمان الفرنسي أكثرية ومعارضة على السواء. وواضح من طريقة تعاطي الرئيس ساركوزي مع لاغارد أنها تحولت مع الأيام إلى ركن أساسي صلب من أركان حكمه يمكن الارتكان إليه في قيادة السياسة الاقتصادية لفرنسا والدفاع عن مصالحها في المحافل الدولية. ورأى ساركوزي أن انتخاب لاغارد يشكل «انتصارا جميلا لفرنسا وللنساء على السواء»، مضيفا أنها ستكون «مديرة ناجحة» لصندوق النقد.

يشكل انتقال كريستين لاغارد من باريس إلى واشنطن لتسلم منصبها الجديد ثالث «هجرة» لها إلى الولايات المتحدة الأميركية التي أقامت فيها للمرة الأولى وهي في بداية دراستها الجامعية، بينما الثانية أخذتها إلى شيكاغو عندما كانت تمارس مهنة المحاماة. وتجد لاغارد نفسها في واشنطن على رأس مؤسسة ينتمي إليها 187 بلدا ومحاطة بمجلس إداري من 24 شخصا سيسهرون على طريقة إدارتها لهذه «الشركة» الكبرى التي يعمل فيها 2500 موظف ينتمون إلى 160 بلدا. وستكون أولى مهمات لاغارد إعادة ترميم صورة صندوق النقد التي أصابتها مغامرات المدير السابق في الصميم رغم أن إدارته لها خلال السنوات الثلاث الماضية كانت مفيدة وناجحة وساهمت في تحديثها وفتحها أمام الدول الناشئة ودول العالم النامي.

ومنذ وصولها إلى واشنطن وجدت لاغارد ملف اليونان وأزمتها المالية بانتظارها ومعه ملف البرتغال التي عمدت وكالة «موديز» لخدمات المستثمرين إلى تخفيض تصنيفها الائتماني إلى درجة متدنية جدا بسبب أزمة مديونيتها، مؤكدة أنها تحتاج إلى حزمة مالية ثانية قبل أن تستطيع التوجه مجددا إلى الأسواق الدولية لتمويل مديونيتها. ويضاف إلى هذين البلدين آيرلندا ودول أخرى يتعين على صندوق النقد مراقبتها عن قرب، ما يعني أن المديرة الجديدة لن تجد فسحة لالتقاط أنفاسها والتعرف على الملفات الساخنة.

وإزاء هذه المسؤوليات فإن المرتب الذي ستحصل عليه لاغارد في وظيفتها الجديدة والبالغ 551 ألف دولار أميركي معفيا من الضرائب باعتبارها موظفة دولية يتناسب مع حجم وخطورة المهمات المطلوب تنفيذها.

غير أن طريق المديرة الجديدة لا تحفها الورود وحدها، فوزيرة الاقتصاد السابقة تجر وراءها فضيحة قد تنفجر بوجهها سريعا جدا هي نتاج قضية معقدة تواجه لسنوات بموجبها رجل الأعمال والوزير السابق برنار تابي والدولة، المالك السابق لبنك كريدي ليونيه.

وعرفت القضية تطورا سيئا بالنسبة للوزيرة السابقة عندما أصدر مدعي عام محكمة التمييز جان لوي نادال في العاشر من مايو (أيار) الماضي قرارا أحال بموجبه القضية إلى محكمة عدل الجمهورية المولج محاكمة الوزراء والنواب، طالبا منه النظر في سوء استغلال لاغارد لصلاحياتها في قضية برنار تابي. وسيعرف يوم 8 يوليو (تموز) ما إذا كان المجلس سيطلب فتح تحقيق في هذا الموضوع. وفي حال قررت المحكمة السير بالتحقيق فسيكون وضع لاغارد حرجا منذ بداية ولايتها على رأس صندوق النقد.

وخلال الأسابيع التي سبق تعيينها أثير الموضوع مرارا مع الوزيرة السابقة التي سئلت عنه بإلحاح وكان جوابها واحدا لا يتغير: «لم أرتكب أي عمل غير قانوني وقمت بتطبيق القوانين النافذة». والحال أن مدعي عام محكمة التمييز معروف عنه كفاءته وتمسكه بأهداب القانون ولا يريد أن يقال إنه تصرف بخفة أو افتراء على الوزيرة السابقة. وفي تقرير مفند أخذ مجلس التفتيش المركزي على كريستين لاغارد خيارها تعيين هيئة تحكيمية خاصة للفصل في الخلاف الناشب بين برنار تابي والدولة والابتعاد عن المسلك الطبيعي الذي هو القضاء العادي. والحال أن الهيئة التحكيمية أفتت بتعويض تابي مبلغ 385 مليون يورو دفعت من الخزينة العامة. والرأي السائد أن لاغارد نفذت توجيهات الإليزيه الذي تربطه برجل الأعمال السابق علاقة صداقة، متجاهلة القواعد القانونية وأصول التعاطي في القضايا الخلافية، خصوصا أن أحكاما سابقة لم تعطِ تابي سوى النذر القليل قياسا لما أمرت به الهيئة التحكيمية.

غير أن ترشح لاغارد وموافقة دول أساسية مثل الولايات المتحدة البلدان الأوروبية والصين والهند على دعمها وتسهيل وصولها إلى إدارة صندوق النقد رغم معرفتها بقضية تابي وبالإشكالية القانونية المرتبطة باسم كريستين لاغارد يعنيان أن المسألة ليست خطيرة أو يمكن ترتيبها. ورغم اعتراف المرشح الرئاسي السابق فرنسوا بايرو بأن اختيار لاغارد لمنصبها الجديد «انتصار لفرنسا» ونجاح «دبلوماسي» للرئيس ساركوزي، فإنه استمر في إبراز اعتراضه على تزكية اسمها أساسا. وبحسب بايرو فإن هناك «مخاطر» مرتبطة باسم بايرو ويمكن أن تكون «مسيئة» لها ولفرنسا. واعتبر المرشح السابق أنه في حال استدعت محكمة عدل الجمهورية كريستين لاغارد للمثول أمامها فإن ذلك سيرخي «غشاوة» على اسم فرنسا في المحافل الدولية. ويرى معلقون آخرون أن احتمالا كهذا يأتي عقب اضطرار مدير فرنسي سابق لصندوق النقد للاستقالة (دومينيك ستروس - كان) بسبب فضائح جنسية من شأنه الحط من اسم ومكانة فرنسا على الصعيد العالمي.

وما بين وعد بالنجاح وتخوف من تدابير قضائية تعيق بداياتها في واشنطن، تعكف كريستين لاغارد، والدة أولاد ثلاثة، على دراسة ملفاتها الملحة آملة بأن تعطي المؤسسة المالية الدولية دفعا جديدا.

في عام 1999 صنفت مجلة «فوربس» الأميركية كريستين لاغارد على أنها المرأة الـ76 الأكثر نفوذا في العالم. وكان ذلك قبل أن تحتل منصب وزيرة الاقتصاد في فرنسا، أما الآن وقد أمسكت بقياد المؤسسة المالية الأشهر في العالم فإنه يتعين على «فوربس» أن تعيد التصنيف وأن تدفع بالوزيرة السابقة إلى المواقع الأولى بين الرجال والنساء على السواء.