ميناء مبارك.. يعيد إشعال «أم المعارك» بين العراق والكويت

السفير الكويتي في بغداد: قضيته ليست وليدة الساعة * مدير في دائرة الموانئ العراقية: بناؤه سينهي عمل 3 موانئ عراقية

مشروع بناء ميناء مبارك يهدد بتعكير العلاقات بين العراق والكويت
TT

فرحت الكويت كثيرا ليلة سقوط بغداد عام 2003. كان لفرحها ما يبرره من وجهة نظرها. فقبل 13 عاما من ذلك العام كان الكويتيون قد استيقظوا عند الفجر على وقع الدبابات العراقية التي زحفت على بلدهم الصغير في الثاني من أغسطس (آب) عام 1990، لتمحو دولة من خارطة العالم وعضوية الأمم المتحدة والجامعة العربية ومنظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، وتجعلها محافظة تحمل الرقم الـ19 في تسلسل المحافظات العراقية. كان ذلك القرار الذي وصف لدى السياسيين والدبلوماسيين وقادة الدول بشتى النعوت والأوصاف، قد اختزله الرئيس الأميركي آنذاك بوش الأب بإيماءة واحدة تمثلت برسم خط على الرمال بدأ معه العد التنازلي لكل شيء.. لإعادة التحرير من الاحتلال، وهو ما تم بعد نحو 9 شهور، ونهاية شهر عسل العلاقات العراقية - الكويتية الذي كان ربما شهر العسل الأطول في التاريخ حيث استمر عقدا كاملا من السنوات أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (1980 - 1988).

لكن العلاقات العراقية - الكويتية كانت على مدى القرن الماضي ضحية مزدوجة للتاريخ والجغرافية معا. فمرة يجري النظر إليها على مستوى حقائق التاريخ وأسانيده لدى الطرفين، ومرة يجري اختزالها على مستوى الجغرافيا التي كثيرا ما كانت تتماهى مع التاريخ لتخلق على الدوام إشكالية العلاقة الملتبسة منذ زمن الملك غازي فنوري السعيد وعبد الكريم قاسم، وأخيرا ولا أحد يعرف إن كان هناك آخِرا أم لا، على عهد صدام حسين الذي قضى على الأخضر واليابس في العلاقات الثنائية، ليس مع الكويت فقط بل مع كل دول الجوار الجغرافي للعراق.

لكن بعد عام 2003، سارت سفينة العلاقات العراقية مع دول الجوار مرة في رمال متحركة ومرة على سكك ثابتة لأسباب متباينة سياسية وغير سياسية، أحيانا تاريخية وأحيانا أخرى دينية مذهبية. فمع الكويت، قدر لها أن تظل هائمة في بحر العرب والخليج العربي، وفي خور عبد الله حتى رست مؤخرا عند ميناء مبارك لتبدأ «أم معارك» من نوع آخر بين بلدين كانا من أكثر البلدان التي أحرقها لهيب «أم معارك» صدام حسين، وقبلها «قادسيته»، وانتهاء بـ«أم حواسمه» التي اختلطت فيها الحرائق مع السرقات التي لم يسلم منها حتى مؤسس بغداد أبو جعفر المنصور، وأشهر رئيس وزراء عند بدء تشكيل الدولة العراقية الحديثة أوائل القرن الماضي عبد المحسن السعدون.

وبعيدا عن «خط التالوك» السياسي الذي هو أعمق نقطة في الممرات الدولية التي تحكم علاقات الدول المتشاطئة، بدأت قصة ميناء مبارك الكويتي الكبير لتعزف لحنا هو الأكثر نشازا في تاريخ ملتبس لعلاقة رجراجة بين دولتين تتداخل فيهما الحقائق بالعواطف إلى حد كبير. وعلى الرغم من أن القصة قديمة، فإن القشة التي قصمت ظهر الجمل فيها هي عندما وضعت الكويت حجر الأساس لبناء ميناء «مبارك الكبير» في جزيرة بوبيان التي تقع في أقصى شمال غربي الخليج العربي، وتعد ثاني أكبر جزيرة في الخليج (890 كلم مربعا) بعد جزيرة قشم الإيرانية.

العراق اعتبر أن هذا الميناء سيؤدي إلى «خنق» المنفذ البحري الوحيد للعراق، لأنه سيتسبب في جعل الساحل الكويتي ممتدا على مسافة 500 كيلومتر، بينما يكون الساحل العراقي محصورا في مساحة 50 كيلومترا، وهذا ما أكده لـ«الشرق الأوسط» أنمار الصافي مدير عام العلاقات في دائرة الموانئ العراقية في مدينة البصرة (550 كم جنوب العراق). وقال الصافي إن «ميناء مبارك الكويتي سيكون بمثابة عامل خنق وعرقلة لميناءي أم قصر الشمالي والجنوبي وخور الزبير العراقية بالإضافة إلى أنه سيعرقل القناعات الملاحية وحركة البواخر الداخلة والخارجة وكذلك الخدمات البحرية من خلال حفر القناة ومن خلال انتشار الغوارق، حيث إن هذا هو المنفذ الوحيد للعراق وبالتالي فإن إقامة هذا الميناء تعني من الناحية العملية نهاية 3 موانئ عراقية مرة واحدة».

وأضاف الصافي «كما أن لهذا الميناء تأثيرا واضحا على الاقتصاد العراقي حيث أن هناك آلاف العوائل تعيش على مواد هذا الميناء والأعمال الخدمية والإدارية فيه»، مشيرا إلى قضية أخرى يراها الخبراء ذات أهمية بالغة، وهي تأثر «التيارات البحرية وعملية المد والجزر وكمية المياه المتحركة داخل القناة الملاحية بالإضافة إلى أنه سيسبب حفرا في الجرف العراقية والشاطئ العراقي وهو ما يعني مستقبلا تأثيره على الخارطة الجغرافية للعراق، علما أن هذا الميناء هو في عمق القناة الملاحية، وهو ما يعني أن العراق سيعتمد على المد فقط».

ولكن السفير الكويتي علي المؤمن الذي كان قد غادر العراق قبل أيام، لقضاء إجازته الصيفية في لبنان، نفى في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» كل ما يتم تداوله من أحاديث وتصريحات لمسؤولين عراقيين سواء كانوا سياسيين أم فنيين أم خبراء ورجال قانون، قائلا «إن قضية ميناء مبارك ليست وليدة الساعة لكي يجري تداولها وكأنها حصلت هذه الأيام». وقال: «الموضوع قديم ومدروس بعناية، والأهم من ذلك أن الأرض التي يقام عليها هي أرض كويتية والقرار تبعا لذلك قرار سيادي، وأن عملية بنائه تمت بناء على الاحتياجات الكويتية التنموية كما أنه لا يختلف عن أي ميناء موجود في الخليج. وهناك أراض كويتية شاسعة تحتاج إلى من يستثمرها من منطلق الحاجة الكويتية على أراض هي 100 في المائة أراض كويتية والتعميق سوف يحصل عند المياه الضحلة ولم تتعرض إلى المياه العميقة في خور عبد الله».

وفي الوقت الذي بدأ فيه كلام المؤمن يناقض ما قاله مدير عام علاقات الموانئ العراقية الذي أكد أنها في المياه العميقة، فإن المؤمن أضاف موضحا أن «العمل سيتم من خلال حفر قناة تمر بالحدود الكويتية مما يسهل ويمنح الاطمئنان للسفن التجارية إلى قبالة ميناء مبارك على خور عبد الله أو شمال الخليج». وقال: «نحن في هذا ننظر إلى مصلحة جارنا من الشمال العراق»، مشيرا إلى أن «الكويت التزمت بقانون البحار والأمم المتحدة من حيث أصول الملاحة في الممرات المائية وأن الميناء سوف يبنى وفقا لأعلى تكنولوجيا من حيث الأبراج ووسائل الاتصالات وغيرها من المستلزمات التي يمكن أن يستفيد منها الجميع».

وعند سؤاله عن الكيفية التي يمكن للكويت بموجبها تأمين مخاوف العراق، قال: «أستطيع أن أؤكد لك أن موقفنا في الكويت يتمثل في أن مصلحة العراق تهمنا جدا جدا جدا. وبالتالي فلا حاجة إلى كل هذه الضجة لأننا لم نفعل شيئا مخالفا لا للقانون الدولي ولا لقواعد الجيرة والعلاقات الحسنة والتاريخية مع العراق». وحول الأسباب التي جعلته يغادر العراق الآن في عز هذه الأزمة بين البلدين، قال المؤمن «نحن لم نغادر العراق وقد سبق أن أوضحت الأسباب، ولا بأس أن أؤكدها هنا أن العملية لا تتعلق بالعلاقة مع العراق، وبالتالي لا تحمل أي خلفية سياسية، بل إن كل ما في الأمر أن مستوى المعيشة داخل المبنى الذي نسكنه داخل المنطقة الخضراء لا يتلاءم مع شهر رمضان لأسباب كثيرة، فضلا عن عدم وجود أمان هناك ومع أننا تعودنا على الخطر إلا أن الخطر هذه المرة وصل إلى العظم، وحين بحثنا عن مكان مناسب لم نجد الآن، وكل ما وجدناه مبنى سوف يتم إخلاؤه خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، لذلك قررنا أن نقضي رمضان والعيد في الكويت ولدينا مقر للسفارة في الكويت. كما أن مقرنا في بغداد مفتوح مع موظفينا المحليين ويمكن لي العودة إلى العراق في أي وقت عندما تستدعي الحاجة ذلك».

السؤال الوحيد الذي اعتذر السفير الكويتي عن الإجابة عنه، هو ما أعلنه مكتب رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من أن قضية ميناء مبارك لم تطرح خلال المباحثات التي جرت في بغداد خلال زيارة نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الكويتي الشيخ محمد ناصر الصباح خلال لقائه المالكي، حيث اكتفى السفير بالقول: «أعتذر عن الإجابة لأن الأمر يتعلق باثنين من المسؤولين القادة في كل من العراق والكويت وهما رئيس الوزراء العراقي وسمو الشيخ نائب رئيس الوزراء الكويتي حيث ربما لديهما رؤية للأمر أكبر مما يمكن أن أقرره أنا».

وكان المالكي نفى أن تكون الكويت أطلعت بغداد خلال محادثات ثنائية على مشروع بناء ميناء «مبارك الكبير» الذي يطالب العراق بإيقافه. وقال المالكي طبقا لبيان نشر على موقعه الرسمي: «إننا ننفي طرح موضوع ميناء مبارك في هذه المناقشات لا من قريب ولا من بعيد». وأضاف أن «الجانب الكويتي لم يطرح المشروع طيلة المباحثات التي جرت حتى مع اللجان الوزارية والفنية المكلفة بحل الملفات العالقة بين البلدين».

ولدى سؤال «الشرق الأوسط» للمستشار الإعلامي للمالكي علي الموسوي بشأن هذا الموقف الملتبس بين التأكيد الكويتي والنفي الرسمي العراقي، قال «ليس لدي ما أقوله سوى البيان الصادر عن رئيس الوزراء الذي أوضح طبيعة الموقف العراقي بجلاء من هذه القضية». وكان البيان العراقي أكد أن «ما ورد في جانب من هذه التصريحات من الشرح المفصل للأمور المتعلقة بالملاحة في خور عبد الله كونه ممرا مائيا مشتركا لكلا البلدين ويدار بصورة مشتركة ولا ميزة فيه لأي جانب على الجانب الآخر». وشدد على أن العراق لم يطلع على مشروع ميناء مبارك «إلا من طرف ثالث» دون أن يفصح عن هذا الطرف الثالث.

لكن القيادي البارز في دولة القانون والنائب في البرلمان العراقي سامي العسكري أوضح لـ«الشرق الأوسط» أنه «ليس لدى العراق اعتراض من حيث المبدأ على هذا الموضوع لكن المشكلة أن اختيار هذا الموقع يحلق ضررا بالعراق»، مشيرا إلى «أن القرار الدولي 833 الذي قام بترسيم الحدود بين العراق والكويت أتاح للعراق والكويت ممرا حرا في منطقة خور عبد الله». وأضاف «إلا أن رؤية الخبراء بالموانئ العراقية أن هذا الموقع سيلحق ضررا كبيرا بالعراق، ولعل السؤال الذي المهم هنا هو لماذا اختارت الكويت أضيق نقطة لكي تقيم عليها هذا الميناء»، معتبرا أن «هذا الموقف غير ودي وموقف استفزازي، وهو شبيه تماما بإقامة مفاعل نووي على أراضي دولة أخرى».

وحول أفضل الطرق لإيجاد حل لهذه القضية العالقة بين البلدين، قال العسكري «إننا حريصون على أن تحل هذه القضية بطريقة هادئة لأننا لا نريد أن تتكرر نفس المآسي السابقة، ولكن الأهم من ذلك هو أن إحساس الآخرين بأن العراق ضعيف اليوم أمر يمكن أن يخلق مرارة في الوجدان العراقي، وليس في صالح أحد، وفي المقدمة الكويت، حيث إنه بمقدور العراق في يوم ما خنق هذا الممر البحري بينما لو اختارت الكويت منطقة أخرى لإقامة هذا الميناء عليها فإنها يمكن أن تكون منطقة تواصل بينها وبين العراق».

وتطبيقا لهذه الرؤية التي يذهب إليها القيادي في دولة القانون سامي العسكري على صعيد خنق العراق عبر هذا الميناء، فإن الخبراء العراقيين يرون أن بناء الميناء سيؤدي إلى «خنق» المنفذ البحري الوحيد للعراق، لأنه سيتسبب في جعل الساحل الكويتي ممتدا على مسافة 500 كيلومتر، بينما يكون الساحل العراقي محصورا في مساحة 50 كيلومترا. كما أن الميناء وطبقا لمواصفاته وتصاميمه الحالية فإنه طبقا لوجهة النظر العراقية سيسبب ضررا كبيرا للموانئ العراقية من خلال إغلاق ميناء أم قصر ووصول المياه الضحلة إليه وبالتالي فإن العراق سيكون من دون رئة وساحل وميناء.

وفي الوقت الذي لم يجر فيه اتخاذ موقف عراقي موحد من قضية ميناء مبارك بسبب الخلافات السياسية بين الكتل، التي طغت حتى على ما يفترض قضية وطنية موحدة فإن الملف الأهم على صعيد الخلافات هو الخلاف بين وزارتي الخارجية والنقل العراقيتين. وإذا كانت ثمة خلافات سياسية بين الكتل تم خلالها استغلال ميناء مبارك للضغط هنا أو للمساومة هناك فإن ما يحصل بين وزارتي الخارجية والنقل هو اختلاف في رؤية كل منهما لمعالجة الملف.

وزير الدولة العراقي للشؤون الخارجية علي الضجري أبلغ «الشرق الأوسط» أن «الموقف العراقي من بناء هذا الميناء موحد ولا توجد خلافات إلا في طريقة وأسلوب التناول، وبالتالي فإن وزارة الخارجية تتعامل بأسلوب دبلوماسي هادئ لحل هذه القضية من خلال الحوار واللجان المشكلة، وما زلنا ننتظر تقارير اللجان لننتقل إلى المرحلة الثانية من التعامل مع الموضوع، رغم قناعتنا أن بناء هذا الميناء سيلحق في النهاية ضررا بالعلاقات بين الكويت والعراق».

بينما يبدو موقف وزارة النقل مختلفا حيث سبق لوزير النقل العراقي هادي العامري أن هدد بالاستقالة من منصبه ما لم يتم الشروع بميناء الفاو العراقي الذي تم وضع حجر الأساس له عام 2010 بعد أن كان العراق قد قرر بناءه منذ عام 2005 الذي يحتوي بحسب تصاميمه الأساسية على رصيف للحاويات بطول 39 ألف متر، ورصيف آخر بطول 2000 متر، فضلا عن ساحة للحاويات تبلغ مساحتها أكثر من مليون متر مربع، وساحة أخرى متعددة الأغراض بمساحة 600 ألف متر مربع، فيما تبلغ الطاقة الاستيعابية للميناء 99 مليون طن سنويا. وتبلغ التكلفة الإجمالية لإنشائه 4 مليارات و400 مليون يورو، ومن المؤمل أن يتصل الميناء بخط للسكة الحديدية يربط الخليج العربي عبر الموانئ العراقية بشمال أوروبا من خلال تركيا، وهو المشروع الذي يعرف باسم «القناة الجافة». لكن واستنادا للمعطيات على أرض الواقع فإن الكويت قررت الشروع في بناء ميناء مبارك بعد أن هيأت له كل مستلزمات العمل بينما لا تزال وزارة النقل تنتظر التخصيصات المالية اللازمة للشروع في بناء ميناء الفاو الكبير.