تأملات ثورية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تحدث الثورات عادة عندما تعجز النظم عن التأقلم مع المتغيرات أو تفقد شرعيتها مع مواطنيها أو لأسباب آيديولوجية مرتبطة بالقائمين على الثورة، وهذا ما حدث في الثورتين الفرنسية والروسية اللتين تعدان من أهم الثورات على الإطلاق في التاريخ السياسي الحديث، لأنهما غيرتا مجرى الأحداث في دولتيهما وإقليميهما وبدرجة أقل في العالم، ورغم الاختلافات الآيديولوجية بينهما فإن هناك من القواسم المشتركة المرتبطة بمسيرة الثورتين ما يساعدنا على استشفاف نمط نورد بعض معالمه فيما يلي:

أولا: لم تتطور الثورتان في مرحلة زمنية واحدة، بل اتبعتا سلسلة من المراحل والأحداث المتعاقبة، التي استهلكت فترات زمنية طويلة، فالثورة الفرنسية بدأت بانتفاضات ثم اجتماع البرلمان واستمرار الانعقاد حتى وضع دستور للبلاد، ثم تلا ذلك الهجوم على «الباستيل» أو السجن الذي كان مقر المحتجزين السياسيين في 14 يوليو (تموز) 1789، ثم أعقب ذلك مجموعة من الصراعات الداخلية بين مؤيدين للثورة ومختلفين في الوسائل، ومحافظين يرغبون في إقرار النظام السابق وكنيسة كاثوليكية ترفض الثورة من الأساس، ثم قتل الملك لويس السادس عشر على الجيوتين، فدخلت فرنسا بعدها فيما عرف بـ«حكم الإرهاب» حيث سيطر على النظام أمثال روبسبير وغيرهم من الذين قتلوا عشرات الآلاف من الضحايا عن حق أو باطل حتى آلت السلطة إلى حكومة «الديركتوار» التي فشلت بدورها في إقرار الأمن والاستقرار في البلاد، فجاءت اللحظة التي حُسم فيها الأمر لصالح نابليون بونابرت الديكتاتور الجديد لفرنسا بعد قرابة 12 سنة من الخلافات.

أما الثورة الروسية، فقد نحت منحى مشابها، فكانت إرهاصاتها في انتفاضات 1905 فيما عرف بـ«الأحد الدامي» عندما قاد «الأب جابون» عشرات الآلاف من الروس للمطالبة بالإصلاحات فكان في انتظارهم الرصاص الغاشم للقيصر الذي أودى بحياة المئات، إلا أن الكثير من العوامل بدأت تساهم في نشر الثورة في البلاد، منها الهزائم المتكررة للجيش الروسي في الحرب العالمية الأولى، وحالة الفقر، وانتشار الفساد وديكتاتورية القيصر، فظلت هذه العوامل تتفاعل حتى عام 1917 عندما بدأت الثورة الروسية تأخذ شكلها بثورة أولى في مارس (آذار) عندما استولى البرلمان الروسي (الدوما) على السلطة وعين حكومة انتقالية بقيادة ألكسندر كارنسكي، واضطر القيصر الروسي للتنازل عن العرش بعدما يئس من مساندة الجيش له، ثم دخلت البلاد في حالة من الصراع بين القوى المختلفة، فالحكومة الانتقالية والبرلمان من ناحية يحاربان التنظيمات والثورات المختلفة خاصة قوى الحزب الاشتراكي ومنها فلاديمير أوليانوف (لينين) زعيم البلاشفة ويدعمه عباقرة في التنظيم السياسي من أمثال «تروتسكي» الذي استطاع أن ينظم السوفيات (المجالس الروسية) ومعهم الشرطة السرية (التشيكا)؛ ثم قرر البلاشفة في أكتوبر (تشرين الأول) 1917 الانقضاض على السلطة والإطاحة بالحكومة والاستيلاء على الحكم لتدخل البلاد في حالة حرب أهلية واسعة بين البلاشفة وتحالف البيض المكون من الليبراليين والملكيين بل من اليساريين الرافضين لديكتاتورية البلاشفة، وقد انتهت هذه الحرب في 1923 ومات الملايين ليُحسم الصراع لصالح البلاشفة رغم أنهم لم يمثلوا الأغلبية ولكنهم كانوا الأكثر تنظيما والأوفر حظا.

ثانيا: يلاحظ أن البرلمان لعب دورا مهما في الثورتين، وهو أمر يجب أن لا يثير الاستغراب لوجود جذور برلمانية في الأعراف الغربية، ففي الغرب كان للبرلمان قيمته باعتباره المجلس الذي من خلاله لعب الإقطاعيون دورهم الأساسي في الحكم كلما سمحت الظروف بذلك، فهو المجلس الذي احتاجه الملك من أجل إقرار الضرائب وغيرها من الجباية، التي كانت تحتاج لموافقة الإقطاعيين، ولكن مع مرور الوقت تحول دور البرلمان ليصبح أداة سياسية قوية.

أما في روسيا، فنظرا لطبيعتها الإقطاعية فإن دور البرلمان تأخر في التطور، فبدأ بكونه مجلسا استشاريا ثم تطور بعد 1905 عندما فُرض على القيصر الروسي إقراره، بالتالي لعب البرلمان دورا مهما في إطلاق شرارة الثورة، ولكنه بالتأكيد لم يكن صاحب الفصل والحسم فيها، بل إن دوره تراجع تباعا بعدما أخذت القوى السياسية الأخرى موقعها من السلطة.

ثالثا: الملاحظ أن من بدأ هذه الثورات لم يكن من انتهى بها، فالذين بدأوا الثورة الروسية من قيادات ليبرالية ليسوا هم من انتهوا بها، والثورة الفرنسية لم تشذ عن هذا النمط، فالمتغيرات والتقلبات السياسية التي تتبع الثورات غالبا ما تؤدي إلى تبوؤ من لم يكن في الحسبان المواقع القيادية، فلم يتوقع أحد أن تؤول البلاد لنابليون بونابرت كما لم يتوقع أحد أن يتولى لينين مقاليد الحكم وستالين من بعده، ولكن الأغرب من ذلك هو أن هاتين الثورتين المطالبتين بالحريات انتهت بديكتاتوريات صارمة، فالنظام البلشفي كان نظاما قمعيا إلى أقصى الحدود تماما مثل حكم الإرهاب لروبسبيير في فرنسا ومن بعده نابليون بونابرت ليصبحا أكثر قمعا من ملوك البوربون الذين انتفض الشعب لعزلهم! رابعا: كنتيجة طبيعية لما سبق، فإن القيادات الثورية بدأت في ابتكار وسائل قمع فكري وبدني على عكس ما كانت تنادي به الحركات الليبرالية التي أشعلت الثورة، وكان الشعار المرفوع في الحالتين هو حماية الثورة، فبدأت «الجيوتين» تعمل في فرنسا للقضاء على من تآمروا ضد الثورة بالحق أو بالباطل، وفي كل الحالات فإنها كانت وسيلة التصفية السياسية للمعارضين لفترة زمنية تولت بعدها السجون هذه المهمة، تماما مثلما بدأ «التشيكا» (البوليس السري) في تصفية المعارضين للبلشفية التي راح ضحيتها مئات الآلاف. كذلك كانت السلطات تستخدم الأقلام الصحافية للوصول لأعداء الثورة أو الإشارة بأصابع الاتهام لهم تمهيدا لتصفيتهم، ولعل أبرز الأمثلة كان شخصية جان بول مارا، الذي تحول من طبيب إلى ثوري متطرف يوجه الاتهامات بقلمه عن حق أو باطل ولكنها اتخذت حججا في المحاكمات الموجزة والصورية، فانتهت حياة هذا الرجل مذبوحا على يد امرأة منتقمة أثناء أخذه حمام العلاج الساخن.

خامسا: الثورتان خلقتا حالة من النفور الإقليمي لأسباب متعلقة بتغيير الشرعية السائدة في نظام الحكم، فالثورتان خلقتا شرعية جديدة أثرتا مباشرة على المفهوم العام للنظم السياسية التي حولها بشكل كتل هذه الأنظمة ضدها، فرغم أحقية الشعوب في الانتفاضة فإن الدول المجاورة باتت تقلق من المفاهيم الثورية الجديدة، ففي الثورة الفرنسية، كانت فكرة قتل الملك والانقلاب على مفهوم الحق الإلهي في الحكم الملكي المطلق أمرا مرفوضا، وفي الثورة الروسية، رفضت الدول الغربية فكرة استبدال المنظومة الرأسمالية الحرة بآيديولوجية متناقضة تشمل ديكتاتورية البلوريتاريا وفكرة الاقتصاد المركزي وتمكين العمال من وسائل الإنتاج.. إلخ. لذلك سعت الدول المجاورة للقضاء على الثورتين باستخدام القوة بشكل مباشر أو غير مباشر، ففي عام 1792 أعلنت النمسا وبروسيا، بدعم من بريطانيا، الحرب على فرنسا، مما أسفر عن حالة حروب ممتدة ضد الثورة الفرنسية استمرت حتى 1815 باستثناء فترات صلح متقطعة لم تدم كثيرا. أما في روسيا، فقد دعمت الدول الغربية الكبرى الفريق الليبرالي في حربه ضد البلاشفة ولكنها فشلت، واضطرت هذه الدول لقبول ميلاد أول دولة شيوعية.

بصفة عامة، فإن أغلبية من الثورات قبل أو بعد الثورتين الفرنسية والروسية سعت لإضعاف النظام السائد وقوة الدولة لصالح المواطن المقهور، ولكنها جميعا انتهت كما قال المفكر ألبرت كامو بزيادة قوة الدولة، ومع ذلك يبقى اليقين بأن الثورات الحديثة ستضع أنماطا جديدة ومتوازنة للعلاقة بين الدولة والفرد، لأن هذا التوازن هو في النهاية أساس الحرية والتعددية.

* كاتب مصري