التطرف اليميني في أوروبا.. قصة قديمة تتجدد

سياسيون يغذون مشاعر العداء للمهاجرين والغرباء.. والمسلمون تحولوا إلى آخر الضحايا

آثار التفجير في وسط أوسلو الذي استهدف مقرات حكومية يوم الجمعة الماضي (إ.ب.أ)
TT

«لقد حذرنا من ذلك لكننا أبدا لم نتوقع شيئا مما حدث»، هكذا علقت هيلينا بارشولي، مديرة المركز النرويجي ضد العنصرية، فيما كانت وملايين غيرها يحاولون ولا يزالون، ما أمكنهم، استيعاب ما حدث بالنرويج الجمعة الماضي عندما أقدم مواطن نرويجي له من العمر 32 عاما، على ارتكاب مجزرة قتل فيها أكثر من 90 معظمهم شباب لم تتجاوز أعمارهم مطلع العشرينات. ومما ورد في التعريف به أنه يميني متطرف، يكره الإسلام، ويكره المهاجرين، ومعجب جدا بخيرت ويلدرز، أشد السياسيين الهولنديين عنصرية ومعاداة للإسلام.

مثلها مثل هيلينا، كانت وحدة الاستخبارات النرويجية قد حذرت من تفشي أنشطة يمينية متطرفة تناهض الإسلام وتعادي المهاجرين والسياسات الأوروبية الموحدة. ذات المضمون ظهر في مذكرات رفعتها جهات أمنية تنبه ضد تحركات لليمين المتطرف. وفي مارس (آذار) الماضي، أشارت وحدة الخدمات الأمنية لاحتمالات زيادة العنف اليميني هذا العام أكثر مما حدث العام الماضي، ومع ذلك شددت أن الإسلام المتطرف هو الأخطر.

وهكذا اتضح جليا أن الأعين لم تصوب شررها على غير إرهاب إسلامي متطرف. وقد سارعت بعض وسائل الإعلام بدورها لإعلان أن النرويج تعرضت لهجوم جماعة إرهابية إسلامية، وكتبت صحيفة الـ«صن» اللندنية: «(القاعدة) تهاجم النرويج بـ11 سبتمبر».

والسؤال: هل يقود ما حدث بالنرويج للتركيز على مكافحة إرهاب يمين أوروبي متطرف تماما كما تحاول الأطراف كافة الوقوف ضد الإرهابيين ممن يتذرعون بالإسلام وهو منهم براء؟

في زمان سبق، شاع «اليمين» كوصف يطلق على موقع الجلوس داخل البرلمان بعد الثورة الفرنسية، إذ دأب مؤيدو الملكية من التقليديين الجلوس يمينا، ومن ثم توسع المعنى ليكون اليمينيون أكثر دعاة الحفاظ على تقاليد تعزز هياكل النظام القديم، لتلحق بهم صفة التطرف كلما اشتطوا في غلوائهم، وكراهيتهم، وعنصريتهم التي تنبذ الآخر.

إن العنصرية والتطرف الأوروبي والغربي عموما، ليس فكرا جديدا، بل تعود جذوره لعصور قديمة تتجدد كلما تجددت شطحات القومية التي تتغذى بالاستعلاء والخوف من الأجنبي ومعاداته بمختلف المسببات سواء دينية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو كلها مجتمعة، وذلك ما شهده التاريخ الحديث إبان فترة الحكمين النازي والفاشي مما قسم الأوروبيين أنفسهم وأصابهم والعالم بوابل حرب كونية. بعد اضمحلال النظام الشيوعي وانتهاء الحرب الباردة طفحت شعارات يمينية، رغم الترحيب بفكرة الاتحاد الأوروبي أو أوروبا الكبرى حينها، وذلك بسبب خشية أطراف - ولا تزال - أن تضيع وتتلاشى وسط خضم سياسي وثقافي واقتصادي واسع ومترابط داخل حدود مفتوحة، وعملة موحدة، وعولمة وحقوق إنسان تلزم باستضافة ملايين الأجانب من المهاجرين واللاجئين.

مع استمرار فيضان اللجوء، وللأسف كان معظمه لجوء مسلمين لأسباب بعضها سياسي وبعضها اقتصادي وآخر بحثا عن مرافئ حرية ونسمات تعبير (تقول إحصاءات إن أكثر من 77 مليون مهاجر تركوا بلادهم متجهين غربا، 55 مليونا منهم مسلمون، 20 مليونا منهم يعيشون داخل حدود الاتحاد الأوروبي)، ومع ازدياد الأوضاع العالمية السياسية والاقتصادية سوءا، ازدادت الدعاوى المتطرفة غلوا. فظهرت جماعات إسلامية متطرفة تقتل وتضرب، ظنا أن ذلك سيعيد التوازن والعدل المفقودين. بدورها لم تقصر جماعات غربية متطرفة بما في ذلك قيادات سياسية ورؤساء أحزاب انطلقوا في هستيرية ينددون بالتسامح والإخاء الدولي وسياسات الاتحاد الأوروبي، صابين جم غضبهم على المهاجرين خاصة المسلمين منهم، فوصفوهم كمصدر تهديد لأسلوب الحياة الأوروبية الغربية المسيحية والديمقراطية. وقد غذى ذلك ونشر ثقافة تقوم أساسا على الخوف من الأجنبي، لا سيما الأجنبي المسلم الذي ما فتئ اليمين المتطرف يصوره وكأنه عدو يتربص بالمجتمع الأوروبي الذي استضافه، وأنه يتحين الفرص ليفرض ثقافته وأسلوبه، وأنه يهدد المواطن الأوروبي في فرص عمله، ويمتص مدخراته بما يصرف عليه من معونات مادية وتسهيلات. ليس ذلك فحسب، بل إنه يخطط لاستنزافها بمضاعفة عدد مواليده، مقابل أسر أوروبية محدود عدد أطفالها، مما صور لناخبين سيناريوهات وكأن المسلمين يخططون لاستعمار أوروبا فصوتوا لأكثر الأحزاب اليمينية تطرفا.

ومع صعود التيارات السياسية اليمينية المتطرفة، ازداد نفوذ أحزاب سياسية عنصرية الشعارات والبرامج، ظلت تواصل اللعب على وتر العواطف القومية والخوف من الأجنبي. ورغم أن تلك الأحزاب لا تغفل أن تدين علنا سياسة العنف والخروج على القانون، فإن سياساتها تلك تؤجج أجواء تغذي مشاعر العداء، مما يولد متطرفين بعضهم يؤمن أن من واجبه شخصيا تنبيه مواطنيه لما يظنه سرطانا خبيثا لا بد من استئصاله، حتى ولو دفعه ذلك لقتل العشرات من أبناء وطنه، عل شعبه وحكومته يفيقون، تماما كما بدأ يتضح من التحقيقات مع المجرم النرويجي، ويبدو أنه ليس وحده. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، ألقت السلطات السويدية بمدينة مالمو (جنوب السويد) – التي يعيش فيها عدد كبير من المهاجرين المسلمين - القبض على سويدي مشتبه أنه وراء أكثر من 12 حادث إطلاق نار ضد مهاجرين بعضهم أطفال. وكان الحزب اليميني السويدي قد فاز في سبتمبر (أيلول) 2010 للمرة الأولى بمقاعد في البرلمان حاصدا نسبة 5.7 في المائة من الأصوات وذلك رغم ما اشتهرت به المجتمعات الاسكندنافية من تسامح وسياسة رسمية ترحب بالمهاجرين وتساعد الدول النامية. وبالعودة إلى مسيرة الأحزاب اليمينية العنصرية المتطرفة، لا يفوت المرء أن يلحظ تغييرا كبيرا في مسيرتها خلال العقد الأخير فقط. ففي العام 2000، قاطعت أوروبا مجتمعة بقيادة حليفتها الولايات المتحدة، دولة النمسا بسبب اشتراك حزب الحرية اليميني العنصري بقيادة السياسي المثير للجدل يومها، الراحل يورك هيدر في تكوين الحكومة الائتلافية بعد أن فاز حزبه في الانتخابات التشريعية التي دخلها وفق برنامج عنصري يرفض المهاجرين ويصورهم كلصوص جاؤوا لسرقة خيرات النمسا، خاصة المسلمين منهم، منددا ومعارضا لسياسات الاتحاد الأوروبي.

وبنظرة سريعة لآخر انتخابات أجراها برلمان الاتحاد الأوروبي، نجد صعودا رهيبا سجلته الأحزاب اليمينية العنصرية المتطرفة في معظم الدول الأوروبية، بما في ذلك الدول الاسكندنافية. وفي بريطانيا فاز الحزب البريطاني الوطني، وهو حزب عنصري، يتحدث باسم من يصفهم بالوطنيين الراغبين في عودة المجد والحضارة، بمقعدين، فيما كسب حزب الحرية الهولندي بقيادة السياسي الأكثر تطرفا خيرت فيلدرز 4 مقاعد، محققا في آخر انتخابات هولندية نسبة 15.5 في المائة من الأصوات. وفيلدرز كان قد شبه القرآن الكريم بكتاب «كفاحي» للقائد النازي أدولف هتلر. أما حزب الطريق للحرية النمساوي العنصري المتطرف، فقد فاز بمقعدين أكسبته إياهما زعامة هاينز كرستيان اشتراخا الذي يجأر «إن فيينا لن تصبح اسطنبول» في تذمر منفر للمهاجرين من الأتراك، وأن مظاهر الحياة الإسلامية يجب أن تنقرض من الشارع النمساوي. ويوما وراء يوم يسجل حزبه معارضة قوية ضد الحكومة الائتلافية القائمة بين الحزب الاشتراكي والشعب المحافظ، وذلك رغم اتهامه بتاريخ نازي ورغم عدائه الصارخ للاتحاد الأوروبي ودعوات الانفتاح والتضامن.

أما حزب «الفنلندي الحقيقي» الذي تأسس 1995 فقد فاق الأحزاب اليمينية المتطرفة كافة بفوزه أبريل (نيسان) الماضي بنسبة 19 في المائة من الأصوات مما أهله أن يصبح ثالث أكبر حزب بفنلندا.

نجاح اليمين المتطرف في تأجيج حملات منفرة ضد الإسلام والمسلمين، وجد رواجا خاصة بعد ازدياد خطر هجمات الإرهابيين المسلمين بعد أحداث 11 سبتمبر والهجمات الإرهابية في أكثر من مدينة أوروبية، بالإضافة لفشل المسلمين في تبرئة دينهم مما أصابه من هجوم كاسح نتجت عنه حملات لحرق المصحف كما حدث بالولايات المتحدة، وضد بناء المآذن كما حدث في سويسرا. في ذات السياق قررت بلجيكا مؤخرا، ومن قبلها فرنسا، حظر النقاب، بينما كسبت النازية الجديدة وجماعات أشد تطرفا، قوة وعنفوانا، وظهورا علنيا دون خشية كبيرة، رغم أنها محظورة، مستفيدة من وسائل الاتصال الاجتماعي التقني كمنفذ لترويج أفكارها وبث كراهيتها.

ليس ذلك فحسب، بل بدا واضحا للعيان مدى التأثير السلبي لقادة اليمين المتطرف حتى على مواقف حكومات وزعماء اشتراكيين ديمقراطيين، أصبحوا أكثر خشية من صناديق اقتراع قد تتجرع تطرفا بدورها. وإلا بماذا نفسر التغييرات الملحوظة في سلوك الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي أمسى، وصديقه رئيس الوزراء الإيطالي سلفيو برلسكوني، يغازلان المتطرفين، متشددين أمام دول أوروبية تطلب العون مثل اليونان وآيرلندا والبرتغال. وماذا عن دعوتهما لإحداث تعديلات جذرية في اتفاقية شينغن الحدودية، وحتى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي ترحب حكومتها بالمهاجرين، لم تغفل أن تصرح علنا بفشل «التعددية الثقافية»... لتفوقهم جميعا الحكومة الدنماركية بالانحراف يمينا، مما جعلها تغلق الشهر الماضي حدودها، خشية أن تصلها أفواج المهاجرين من توانسة وليبيين ممن اضطرتهم ظروفهم الداخلية للشتات أوروبيا، وبذلك خرقت حكومة الدنمارك ما تعهدت به عند توقيعها لاتفاقية شينغن.

وبعد، هل يعتبر ما حدث في النرويج درسا موجعا ومؤلما يجعل الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة وقادتها ووسائل إعلامها التي ما فتئت تصور الإرهاب إسلاميا، تتجرع من ذات الكوكتيل الذي خلطته بسموم الإسلاموفوبيا والخوف والعداء للمهاجرين... فتوسع مداركها وتصحح برامجها ليقين أن الإرهاب لا حدود ولا دين له وإن واصلت تغذيته طالها منها وفيها؟