عودة قانون «الغدر»

صدر عقب ثورة 1952 في مصر وعوقب به وزير داخلية الملك فاروق.. لكن البعض يتخوف من سوء تطبيقه اليوم

نقل صناديق الاقتراع قي عابدين القريبة من القاهرة في انتخابات العام الماضي (أ.ب)
TT

تعيش مصر في الفترة الحالية جدلا سياسيا مستعرا، وعلى الرغم من سقوط نظام الرئيس السابق حسني مبارك في الـ11 من فبراير (شباط) الماضي، فإن الثوار في ميدان التحرير ما زالوا يهتفون هتافهم الأثير «الشعب يريد إسقاط النظام».

فشباب ثورة 25 يناير لم يروا نظاما يسقط، بل حزبا يحل بينما أغلب قادته الذين اقترفوا ما اعتبره الشعب «جرائم» ضده مطلقو السراح، كون بعض هذه الأفعال لا تندرج تحت بنود عقوبات القانون العادي، مثل ارتكابهم أفعالا سياسية تضر بأمن الوطن كتزوير إرادة الشعب، وإفساد الحكم والحياة السياسية في البلاد من قبيل استغلال النفوذ ومخططات للتوريث في دولة ذات نظام جمهوري، وغيرها من الأفعال التي لا تعتبر جرائم جنائية في عرف القانون الطبيعي المصري.

وسعيا منها لسد هذه الثغرة جاء قرار الحكومة المصرية الحالية برئاسة الدكتور عصام شرف بإعادة تفعيل «قانون الغدر». وهو قانون صدر عقب ثورة 1952 وعُدل بالقانون سنة 1953، وتقوم فكرته الأساسية على أن تتم محاسبة مرتكبي الجرائم التي لم يكن المشرع قد تصورها عندما وضع القوانين السابقة، محاسبة قانونية عادلة أمام محاكم الغدر.

وكما عانت ثورة يوليو 1952 تعاني ثورة 25 يناير من مخاضات عدة، لعل أبرزها عدم القدرة على توجيه الاتهام لبعض قيادات ورموز وأعضاء الحزب الوطني (الحاكم إبان نظام مبارك) في تهم لا يعاقب عليها القانون العادي، وهو ما عانت منه ثورة 1952، ما دعاها إلى إصدار قانون الغدر بعد اندلاع حركة الضباط الأحرار بستة أشهر فقط، حيث صدر القانون في ديسمبر (كانون الأول) 1952. والأمر نفسه دفع حكومة شرف التي أخذت شرعيتها من ميدان التحرير عقب ثورة 25 يناير إلى إعادة تفعيل القانون ذاته مع إجراء بعض التعديلات عليه، كإعادة تشكيل المحكمة وتغيير الآلية والجهة التي تقدم الغادر للمحاكمة.

صدر هذا القانون في 22 ديسمبر 1952، وقضى بإنشاء ما يسمى بـ«محكمة الغدر»، التي نص قانونها على عدة أفعال يعد مرتكبها مستحقا للعقاب بجريمة «الغدر بالوطن»، كأفعال من قبيل محاولة إفساد الحكم والحياة السياسية أو الاشتراك في ذلك بالحصول على فائدة أو مزية ذاتية لنفسه من أي سلطة عامة، أو استغلال النفوذ للحصول على مزايا سياسية، أو الحصول على استثناء من القواعد العامة، بالإضافة إلى التأثير في أثمان الأوراق المالية المقيدة بالبورصة للحصول على فائدة لنفسه أو لغيره. وامتد القانون ليشمل محاولة استخدام المنصب السياسي للتأثير في أحكام القضاء أو أي هيئة خوّلها القانون اختصاصا في القضاء أو الإفتاء، أو التدخل في أعمال الوظيفة العامة ممن لا اختصاص له في ذلك أو قبول ذلك التدخل.

ولاقى قرار إعادة تفعيل القانون من حكومة تصريف الأعمال الحالية ارتياحا واسعا في أوساط عدة من الشعب والقوى السياسية في مصر، آملين أن يمكن القانون مصر من استعادة حياتها من خلال ضمان حكومة ومؤسسات بعيدة عن قبضة النظام السابق.

ويبدو أن ثورة يناير المصرية تستقي نهج نظيرتها الفرنسية التي سبقتها بأكثر من قرنين من الزمان، وكانت أولى الثورات التي وضعت قانونا يشابه «قانون الغدر». بالإضافة إلى أن الكثير من الدول قامت بتطبيق قوانين مشابهة فور الانتهاء من الحرب العالمية الثانية، لتطهير الحياة السياسية بها من تغلغل الأنظمة السابقة. وكان آخر نموذج لمثل هذه القوانين في العراق عقب سقوط نظام الحكم وصدور قانون «اجتثاث (حزب) البعث» في محاولة لتخليص البلاد من بقايا الحزب الحاكم.

وإن كان البعث اجتث في العراق فإن أذيال الوطني في مصر لا تزال صامدة وتتلون بألوان الثورة. ويأمل الثوار أن يكون هذا القانون الحل الذي يقضي على هذه الأذيال التي يراها الثوار كل يوم في صورة قيادات وأعضاء، منهم من يحاول القفز على الثورة، ومنهم من يعيد تشكيل نفسه ليدخل من جديد اللعبة السياسية بشكلها الجديد، ومنهم أصحاب المصالح ورجال الأعمال الذين يحاولون بناء شبكة مصالح جديدة مع أي نظام كان، حماية لمصالحهم.

ولم تختلف الإجراءات التي أعلنتها حكومة شرف منذ أيام عن تلك التي أعلنتها حركة الضباط الأحرار قبل أكثر من 59 عاما، فبجانب قانون الغدر أصدرت حكومة شرف قرارات متتالية هدفها تطهير المجتمع من فساد النظام السابق في الحياة السياسية، وهو ما فعلته حكومة الضباط الأحرار، حيث أصدر مجلس قيادة الثورة عدة تشريعات لحماية الثورة من عناصر «الثورة المضادة» (آنذاك)، منها القانون 130 لسنة 1952، المعدل بالقانون رقم 209 لسنة 1952، لتطهير الوزارات والمصالح العامة والهيئات التي تخضع لإشراف أو رقابة حكومية، وتكون مهمتها البحث عن الجرائم والمخالفات الإدارية التي وقعت فيها إلى وقت العمل بهذا القانون، وما يتصل بها من جرائم أو مخالفات أخرى.

ولم تكن ثورة 1952 وحدها هي من أقر مثل هذا القانون، ففي أثناء حكم الرئيس الأسبق أنور السادات، وعلى غرار قانون الغدر القائم على فلسفة الإقصاء السياسي، أصدر السادات القانون رقم 33 لسنة 1978 بشأن حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي، ونص في بعض مواده على أنه لا يجوز الانتماء إلى الأحزاب السياسية أو مباشرة الحقوق أو الأنشطة السياسية لكل من تسبب في إفساد الحياة السياسية قبل ثورة 1952، من المنتمين إلى الأحزاب السياسية التي تولت الحكم قبل الثورة، وذلك عدا الحزب الوطني والحزب الاشتراكي (حزب مصر الفتاة).

ويطبق قانون الغدر عند تفعيله على كل من يعد مرتكبا «لجريمة الغدر»، وهي الجريمة التي تشمل كل من كان موظفا عاما بداية من ممن كانوا يشغلون منصب «وزير» فما أدنى، أو كل من كان عضوا بالبرلمان أو المجالس الحكومية الأخرى، وكل شخص كان مكلفا بخدمة عامة أو له صفة نيابية عامة واستخدم منصبه هذا في ارتكاب فعل أدى إلى إفساد الحكم أو الحياة السياسية، أو استغلال النفوذ للحصول على فائدة أو ميزة ذاتية لنفسه أو لغيره، وكل عمل أو تصرف يقصد منه التأثير في القضاة أو في أعضاء أية هيئة خولها القانون اختصاصا في القضاء أو الإفتاء، أو التدخل الضار بالمصلحة العامة في أعمال الوظيفة ممن لا اختصاص له في ذلك أو قبول ذلك التدخل.

ورغم معاقبة عدد من رموز الحياة السياسية في مصر بقانون الغدر بعد ثورة 1952، ومن أبرزهم الزعيم الوفدي مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء المصري في العهد الملكي، وفؤاد سراج الدين وزير الداخلية في عهد الملك وزعيم حزب الوفد، وكريم ثابت المستشار الصحافي للملك فاروق... فإن القانون قد لا يطبق بصيغته الحالية على بعض رموز الحزب الوطني السابق من أمثال أحمد عز، رجل الأعمال النافذ إبان حكم مبارك، وكل من علاء وجمال مبارك، نجلي الرئيس المصري السابق، لكون الثلاثة السابقين لم يكونوا ذوي صفة رسمية أو حكومية، بينما تعاقب مواد هذا القانون فقط كل من كان ذا صفة حكومية واتُّهم بتلويث الحياة السياسية في البلاد. إلا أن مجلس الوزراء المصري أعلن أنه سيجري تعديلات عدة لتنقية القانون، ويأمل الكثيرون أن تستطيع هذه التعديلات، التي ستتم في خلال أسبوعين، من معاقبة رموز الوطني البعيدة عن المناصب الرسمية.

وتشمل لائحة جزاءات قانون الغدر العزل من الوظائف العامة والحرمان من توليها، وإسقاط عضوية المجالس الحكومية كعضوية البرلمان، بالإضافة إلى الحرمان من حق الانتخاب أو الترشيح للبرلمان أو أي مجالس حكومية أخرى، ومن الانتماء إلى أي حزب سياسي لمدة أقلها خمس سنوات من تاريخ الحكم، والحرمان أيضا من الاشتغال بالمهن ذات التأثير في تكوين الرأي أو تربية النشء أو المهن ذات التأثير في الاقتصاد القومي. وتعتبر عقوبة إسقاط الجنسية المصرية عن الغادر أقصى عقوبة يوقعها القانون، كما يجوز طبقا لهذا القانون الحكم برد ما أفاده من غدره، بحسب ما تقدره المحكمة.

ويعترض البعض على القانون، ليس تعاطفا مع النظام السابق أو رموزه، ولكن كون هذا القانون قد استخدم في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم استخدامات غير التي وضع من أجلها، وأهمها تصفية بعض معارضي ثورة 1952، على الرغم من عدم ارتكابهم لهذه التهم إبان الحكم الملكي وقبل الثورة. ويؤكد البعض الآخر أن المطالبات بإعادة تفعيل قانون الغدر جاءت من معتصمي التحرير نتيجة للشعور باليأس والإحباط من بطء محاكمات النظام السابق في القضايا الجنائية التي يحاكمون فيها، خصوصا بعد مرور أكثر من ستة أشهر منذ اندلاع الثورة في مصر دون تقدم.

كما يتخوف البعض من تطبيق القانون نظرا لأن تجربة مصر مع المحاكمات والقوانين الاستثنائية كانت سيئة جدا سواء في عهد جمال عبد الناصر أو السادات أو مبارك، ولم تنجح على الإطلاق. كما يعتبر البعض أنه من غير المنطقي أن يتم تطبيق قانون الغدر في ذات الوقت الذي يتصدر فيه مطلب إلغاء المحاكم الاستثنائية لائحة مطالب الثورة.

ويرد هؤلاء اعتراضهم إلى أن المحكمة التي تنظر قضايا الغدر هي محكمة غير عادية تؤلف برئاسة مستشار من محكمة النقض وعضوية مستشارين من محكمة استئناف القاهرة يعينهم وزير العدل، وأربعة ضباط برتب عليا يعينهم القائد العام للقوات المسلحة. ويكون مقر هذه المحكمة بمدينة القاهرة، ويشمل اختصاصها كل أنحاء مصر. وهو الأمر الذي اعترض عليه كثير من القانونيين في مصر، مطالبين بإعطاء مجلس القضاء الأعلى سلطة تشكيل محاكم الغدر لمحاكمة رموز النظام السابق بعيدا عن يد السلطة التنفيذية، المتمثلة في «الحكومة أو المجلس العسكري»، وأن تجرى المحاكمات أمام القاضي الطبيعي، حتى لا يتم التشكيك في نزاهة المحاكمات.

ويقول المدافعون عن هذه الإجراءات الاستثنائية إن الثورة في الأصل أمر استثنائي في تاريخ الشعوب، ويجب أن يتبعها عدد من الإجراءات الاستثنائية، مثل محاكم الغدر والمحاكمات الاستثنائية، وإن الثورة الفرنسية ذاتها أعدمت الآلاف خلال فترة كبيرة أثناء وبعد الثورة.

من جهته تخوف الدكتور محمد شوقي عبد العال، أستاذ القانون الدولي العام بجامعة القاهرة، من أن يُستخدم القانون، على الرغم من أهميته في هذه الفترة، لتصفية الحسابات، منوها بضرورة تعديله لأن النص الأصلي لا يراعي الواقع الحالي في مصر.

وقال عبد العال لـ«الشرق الأوسط»: «من الممكن أن يفتح القانون أبوابا ما كانت لتفتح، خصوصا أن تهم الفساد السياسي مرنة ويمكن اتهام أي أحد بها سواء أذنب فعليا أو لم يذنب»، مؤكدا ضرورة الالتفات إلى المستقبل «لأن النبش في الماضي قد يجعل البعض يشعر أنه ليس لدينا شيء لتقديمه للمستقبل».

وكان الدكتور علي السلمي، نائب رئيس الوزراء المصري لشؤون التنمية السياسية والتحول الديمقراطي، قد صرح قبل أيام بأن قانون الغدر سيطبق على كل من زور الانتخابات إبان النظام السابق، وأن كل من ثبت عليه تهمة الغدر سيتم حرمانه من الترشيح في الانتخابات والتصويت والعمل السياسي.

وأكد السلمي أنه لن يتم حرمان «كل» من كان عضوا في الحزب الوطني السابق، وأن قانون الغدر سيطبق على رموز الحزب ممن تقر المحكمة بثبوت تهمة الغدر عليهم، مراعاة للعدالة التي أكدت عليها الثورة المصرية، مشيرا إلى أن «غالبية أعضاء الوطني كانوا من البسطاء، سواء الذين أجبروا على الانضمام إلى الحزب أو دخلوه اتقاء لشر النظام أو محاولة الاستفادة بشكل أو بآخر، لكن لم يتسبب عنهم ضرر للبلاد».

ولأن قانون الغدر يقر بمعاقبة أي شخص يشغل وظيفة عامة بداية من درجة وزير وما دونها، أشار السلمي في تصريحاته إلى أن مسألة معاقبة الرئيس المصري السابق حسني مبارك بمقتضى هذا القانون ستحتاج إلى تدخل، على حد تعبيره، مؤكدا أنه ما دام «كان الهدف من هذا القانون محاسبة أي شخص في موقع المسؤولية عن هذا الوطن، اؤتمن عليها وخان هذه الأمانة وأفسد أو دمر أو ساعد على تزوير الانتخابات، فمن الطبيعي أن تتم مع كل من يطالهم هذا الوصف، وهو الأمر الذي سيراعيه مجلس الوزراء أثناء تعديله للقانون».

من جهته قال الدكتور أيمن سلامة، أستاذ القانون الدولي العام وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية لـ«الشرق الأوسط»: «إن آلية التطهير، التي هي الهدف من هذا القانون، هي إحدى أهم آليات العدالة الانتقالية لتنقيه المجتمع من العناصر الفاسدة»، منوها بأنه لا يجب أن يكون الغرض من هذا القانون هو التشفي والانتقام مما قد يؤدي إلى إثارة الضغائن والأحقاد.

من ناحية أخرى أكد سلامة أن هناك بعض المآخذ على قانون الغدر بصيغته الحالية، من أهمها أن هذا القانون صدر ليطبق بأثر رجعي، وهو يخالف بذلك جميع المبادئ الدستورية في كل دول العالم، التي تقضي بعدم رجعية النص الجنائي على الماضي. وهو ما يتنافى أيضا مع مبدأ سيادة القانون الذي يقضي بأن تكون القواعد القانونية عامة ومحددة، وليست من أجل حالات خاصة أو أشخاص بعينهم، بالإضافة إلى عدم جواز مقاضاة الأفراد إلا أمام قاضيهم الطبيعي.

ويستدرك سلامة قائلا: «على الرغم من هذه الانتقادات لقانون الغدر، فإنه ليس ثمة معاهدة أو اتفاقية أو إعلان دولي صادر عن منظمة عالمية أو إقليمية يحظر إنشاء مثل هذه المحاكم الاستثنائية في حالات الطوارئ أو الظروف الاستثنائية، بشرط أن تطبق هذه المحاكم ضمانات المحاكمة العادلة، وأهمها محاكمة المتهم أمام قاضيه الطبيعي، واعتبار المتهم بريئا حتى تثبت إدانته، بالإضافة إلى سرعة المحاكمات».