انفلات سيناء

انتشار الأسلحة وخطف السيارات عادة تتزايد.. وبيان لـ«القاعدة» يزيد التوتر

مصريون يتجمعون في موقع في شمال سيناء بينما ألسنة اللهب ترتفع بعد هجوم على خط أنابيب الغاز يوم 5 فبراير 2011 (أ.ف.ب)
TT

تعيش مدن محافظة شمال سيناء منذ ثورة 25 يناير (كانون الثاني) حالة من الانفلات الأمني غير المسبوق. وتقع المحافظة على حدود مصر مع كل من إسرائيل وغزة التي تسيطر عليها حركة حماس. وفي مدينة العريش، عاصمة المحافظة، اعتاد السكان سماع أصوات طلقات الرصاص. وفي أحيان كثيرة يتحول شجار بسيط بسبب لهو الأطفال إلى معركة بالأسلحة الآلية تنتهي بسقوط قتلى وجرحى، فما بالك بالخلافات السياسية المتشددة ومطامع تنظيم القاعدة في إعلان المحافظة إمارة إسلامية؟

المدينة تحولت يوم الجمعة الماضي إلى ما يشبه ساحة حرب. معركة شرسة بين قوات الجيش والشرطة من جانب، ومسلحين مجهولين يحملون رايات سوداء كتبت عليها شعارات دينية من جانب آخر، مما أجبر السكان على البقاء داخل منازلهم مختبئين لأكثر من 9 ساعات متتالية.

هذا الهجوم كان هو الحادث الأعنف في سلسلة من الهجمات التي بدأت منذ قيام الثورة المصرية التي أسقطت حكم الرئيس المصري السابق حسني مبارك. ومنذ ثورة 25 يناير وقعت خمس هجمات على خط تصدير الغاز الطبيعي لإسرائيل، وتم تدمير ضريح الشيخ زويد، وتدمير مقرات الشرطة وأمن الدولة بالعريش بمدينة رفح ومدينة الشيخ زويد، إضافة إلى محاولة استهدفت تفجير مقر شرطة السياحة بالعريش بوضع عبوة ناسفة أسفل شاحنة تابعة للشرطة.

وخطف الملثمون ممن يعتقد أنهم ينتمون إلى تيارات دينية وقبلية مختلفة مئات السيارات من أبناء سيناء. وتقول مصادر أمنية إن هؤلاء الملثمين من جنسيات مصرية من أبناء سيناء وجنسيات غير مصرية يرجح أن يكونوا فلسطينيين، وإن العمليات التي قاموا بها طيلة الأشهر الستة الماضية تتنوع ما بين استهداف المراكز الأمنية ورموز الدولة المصرية، والمواطنين العاديين بغية السرقة، وكذا استهداف بعض المظاهر الخاصة بالمجتمع السيناوي مثل تدمير أضرحة الأولياء أو هدم الكنائس، وغيرها من التصرفات التي أصبحت تثير الذعر وتطرح العديد من علامات الاستفهام حول هوية هذا النوع من الناس.

ولم تتوقف هجمات المجموعة المسلحة التي نفذت عملية يوم الجمعة الماضي ضد قسم شرطة العريش.. ففي اليوم التالي للهجوم شن المسلحون هجوما آخر بقذائف «آر بي جي» على محطة تصدير الغاز الطبيعي لإسرائيل بالشيخ زويد، وأصابوا خط التبريد، وفي يوم الأحد نفذوا هجوما آخر بالقذائف الصاروخية على ضريح الشيخ زويد، ثم تم إطلاق نار كثيف على كنيسة برفح. ويوم الاثنين قاموا بهجوم آخر على مستشفى العريش اختطفوا خلاله جثة فلسطيني توفي متأثرا بجراحه خلال الاشتباكات التي جرت يوم الجمعة، ثم صدر عن تلك المجموعة بيان سموا فيه أنفسهم تنظيم القاعدة بشبه جزيرة سيناء، معلنا الإمارة الإسلامية بالمنطقة، وأن يكون الدين الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع، وهاجم البيان من سماه «النظام الفاسد»، كما انتقد القوات المسلحة التي قال إنها «أقرت واعترفت بالاتفاقيات السابقة مع الكيان الصهيوني (إسرائيل)».

ويعد هجوم الجمعة الماضي هو الأعنف منذ ثورة 25 يناير، حيث استخدم الملثمون في الهجوم على قسم شرطة العريش والمناطق المجاورة له أكثر من 10 آلاف طلقة سلاح آلي، و15 قذيفة «آر بي جي»، وانتهى الأمر بمقتل 5 بينهم ضابطان من الشرطة والجيش و3 مدينين وإصابة 21 آخرين.

واستمرت تحقيقات النيابة المصرية في الوقائع الدامية. وقالت مصادر مقربة من التحقيقات إن منفذي هجوم قسم الشرطة مجموعة من المتشددين الإسلاميين خاصة بمنطقة الشيخ زويد ورفح، وإنهم يحاولون فرض سيطرتهم على المنطقة، وإن عددا منهم كان معتقلا في السابق وتمكن من الفرار خلال أحداث الثورة والبعض الآخر تم الإفراج عنه ضمن قرارات إطلاق سراح المعتقلين.

وتابعت أن هذه المجموعات حصلت على تدريب منذ فترة، وأن عناصر إسلامية فلسطينية متشددة قد تكون شاركت في الهجوم وإمداد المهاجمين بالأسلحة الحديثة. ولا توجد أمام القسم الآن أي قوات للجيش، وتتولى تأمينه ثلاث مدرعات تابعة للشرطة، وعدد كبير من أفراد قوات مكافحة الشغب بالزى الأسود، فيما يتمركز العشرات منهم فوق سطح القسم لرصد أي تحركات قد تتم في المنطقة.

وقال قائد شرطي كبير بشمال سيناء أمس إن منفذي الهجوم المسلح الذي تم على قسم الشرطة كانوا مدربين تدريبيا قتاليا عاليا جدا، وإن تحركاتهم كانت سريعة، ويتحركون بناء على أوامر كانت تصدر لهم من اثنين من المسلحين يبدو أنهما هما من كانا يقودان المهاجمين. وأضاف قائد الشرطة أن اختيار المهاجمين لقسم شرطة ثان العريش لمهاجمته للمرة الثانية لم يكن بغرض تحرير أي محتجزين بداخله، وإن الهجوم كان يستهدف أي وحدة للشرطة لكسر هيبتها واستعراض القوة وزعزعة الأمن.

وأضاف أن اثنين من القناصة على الأقل كانوا من بين المسلحين، وأصاب هذان القناصان شرطيا كان يطلق الرصاص من رشاش متعدد 500 ملليمتر من داخل مدرعة كانت تقف أمام القسم، وبعد إصابته تم نقله للمستشفى وتولى المهمة شرطي آخر إلا أن أحد القناصة أصابه أيضا. وأشار إلى أن هذا القسم هو القسم الوحيد بشمال سيناء الذي يمكن مهاجمته بسبب موقعه، فهو يقع داخل كتلة سكانية، وتوجد في مواجهة القسم منازل ذات أسطح عالية ومكشوفة، كما يوجد في المنطقة الخلفية شاطئ البحر وكورنيش العريش بما يتيح فرصة للهروب والتحرك بسرعة.

مدن شمال سيناء بأكملها تنتشر بين أغلبية سكانها الأسلحة غير المرخصة بشكل كبير، فيمتلك سكان الحضر بالعريش الأسلحة الآلية، فيما يمتلك سكان المناطق البدوية القنابل اليدوية وقذائف «آر بي جي» والرشاش المتعدد والرشاش «لانغروف» المثبت فوق الشاحنات.

وفي واقعة الهجوم على ضريح الشيخ زويد وكنيسة رفح، طارد عدد من سكان المنطقة المسلحين المجهولين لمنعهم من تدمير الضريح. وقال أحدهم إن هؤلاء المسلحين قاموا قبل شهرين باستهداف الضريح مما تسبب في تصدع وانهيار الجدران الخارجية الأربعة، ولم يتأثر الضريح أو المقابر المجاورة. ويقول السكان إن بعض المتشددين من الإسلاميين هم من قاموا بالتفجيرين، وهم من الذين يعترضون على وجود الأضرحة، وإن هذه المجموعة قد تكون مرتبطة أيضا بالمجموعات التي نفذت خمسة تفجيرات ضد خط تصدير الغاز الطبيعي لإسرائيل.

وينظر سكان محليون للشيخ زويد باعتباره من أولياء الله الصالحين، ويعتقد أنه كان من المسلمين الأوائل الذين قدموا مع عمرو بن العاص لفتح مصر، وقد توفي وتم دفنه بالمنطقة وسميت مدينة الشيخ زويد باسمه تيمنا به. وترى بعض التيارات الدينية الإسلامية المتشددة أن هذا نوع من الكفر، وتدعو لهدم الأضرحة بشكل عام.

ويزور ضريح الشيخ زويد سنويا المئات من داخل مدينة الشيخ زويد وخارجها من أبناء سيناء. واهتمت المحافظة بتطوير الضريح وإحاطته بالجدران نظرا لزيادة أعداد المترددين عليه خاصة في شهر رمضان. ويقول شهود عيان من سكان مدينة الشيخ زويد إن المتشددين، على ما يبدو، توقعوا زيادة عدد الزائرين للضريح خلال هذا شهر الصوم فقاموا بمحاولة تفجيره.

ومن المعروف أيضا أن بعض التيارات الدينية المتشددة ترفض وجود كنائس للمسيحيين المصريين. واستهدف المسلحون في سيناء الليلة قبل الماضية كنيسة في منطقة رفح قرب الحدود مع غزة. وكانت الكنيسة نفسها قد تعرضت لهجوم ممن يعتقد أنهم متشددون إسلاميون منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير. وفي الليلة قبل الماضية، قال شهود عيان بالعمارات الجديدة المواجهة للكنيسة إن المسلحين قاموا بإطلاق زخات من النيران، ولاذوا بالفرار في الأراضي الزراعية الواقعة غرب الكنيسة.

يقول اللواء السيد عبد الوهاب مبروك، محافظ شمال سيناء، إن هناك عددا غير قليل من الأسلحة ما زال منتشرا بالفعل في نطاق المحافظة بين أغلبية السكان، رغم دعوات المجلس العسكري إلى ضرورة تسليمها.

وتشير مصادر أمنية إلى أن هناك ثلاث ظواهر سلبية بسيناء أهمها انتشار الأسلحة غير المرخصة وخطف السيارات وسير المركبات من دون لوحات معدنية.

وأوصى مؤتمر عقدته قبائل مدينة العريش بديوان النائب عبد الحميد سلمى عضو مجلس الشورى المنحل وأحد كبار قبيلة «الفواخرية» بضرورة جمع السلاح غير المرخص في المحافظة والقضاء على تجارة السلاح نهائيا بسيناء واعتبار خطف السيارات عملية بلطجة لا بد من إبلاغ الجهات الأمنية عنها، وأن كل من يستعين بخارج عن القانون يتم اعتقاله واعتقال من استعان به، مع منع سير أي سيارات من دون لوحات معدنية في شوارع سيناء المرصوفة أو الترابية.

مرور خط تصدير الغاز الطبيعي لإسرائيل بمدن شمال سيناء جعلها هدفا لهجمات المسلحين الذين ينطلقون من شرق المحافظة. ونفذوا خمس هجمات ناجحة شنها المجهولون ضد هذا الخط، مما أدى لوقف ضخ الغاز لإسرائيل. وكان الهجوم الأخير يوم السبت الماضي في اليوم التالي للهجوم على قسم شرطة ثان العريش، حيث هاجم مسلحون مجهولون محطة تصدير الغاز الطبيعي لإسرائيل بمنطقة الشلاق بقذائف «آر بي جي»، وقاموا بقصف أحد خطوط التبريد المتصلة بخط تصدير الغاز، مما تسبب في إحداث ثقب في الأنبوب الذي كان خاليا من الغاز بسبب توقف عمليات الضخ منذ تفجير خط الغاز في الحادي عشر من يوليو (تموز) الماضي.

وكانت شركة «جاسكو» قد بدأت الأسبوع الماضي في إنشاء غرف وأبراج مراقبة لتأمين خط ومحطات الغاز الطبيعي بمحافظة شمال سيناء والذي يتم من خلاله تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل والأردن.

ويقول مسؤول بالشركة إن الإنشاءات الجارية تدخل في إطار منظومة متكاملة لحماية الخط وغرف البلوف، حيث تضم كل غرفة 4 فتحات من الجهات الأربع، وسيتم تركيب كاميرات مراقبة بها بعد الانتهاء من الإنشاءات الخرسانية القائمة، حيث ترصد الكاميرات أي تحرك من مسافات بعيدة ويتم تنبيه القائمين على حراستها لإمكان اتخاذ الإجراءات المناسبة.

ويقول محافظ شمال سيناء عبد الوهاب مبروك إن من يقوم بهذه التفجيرات جهات أجنبية تهدف لهز استقرار مصر والإضرار باقتصادها القومي، مضيفا أن التفجيرات جمعيها تمت بنفس الأسلوب مما يؤكد أن مصر مستهدفة للإضرار بالاقتصاد القومي وزعزعة الاستقرار على أرض سيناء، حيث بدأت المحافظة في إجراءات تأمينية جديدة من بينها التعاقد مع عدد كبير من القبائل البدوية التي يمر خط الغاز بأراضيها لتعيين ستة من أفرادها لحماية محطات الخط البالغ عددها 31 محطة.

وتؤكد مصادر قبلية أن هناك انفلاتا في النظام القبلي نتج عنه انتشار السلاح والانفلات الأمني، وأصبح شيخ القبيلة غير قادر على السيطرة على جميع أفراد القبيلة، كما أصبح كلام كبير العائلة غير مسموع، مما أدى إلى زيادة المشاكل.

وتعتبر ظاهرة ما يعرف بـ«توثيق السيارات» (أي اختطافها) من أهم مظاهر الانفلات الأمني بسيناء، وتسمى هذه الظاهرة «ظاهرة التوثيق العرفية» والتي كانت تعني قديما أنه في حالة حدوث مشكلة بين اثنين من بدو سيناء يطلب أحدهما من الآخر أن يحدد جلسة عرفية لحل النزاع بينهما، فإذا رفض الطرف الآخر أن يجلس معه عرفيا لحل النزاع يقوم بأخذ الجمل الذي يمتلكه ويربط قدميه (ويسمى التوثيق) ويقول الشخص الذي أخذ الجمل لصاحب الجمل عن طريق وسيط «إنني اضطررت لأخذ جملك لإجبارك على حل النزاع، وحتى تتمكن من استرداده مرة أخرى يجب أن تجلس جلسة عرفية لحل النزاع بيننا ثم تأخذ جملك». وهذا الأسلوب كان يتم قديما كنوع من التنظيم لحل النزاعات بين القبائل، وينظمه القضاء العرفي السائد، لكنه تحول في السنوات الأخيرة إلى ما يشبه السطو المسلح حيث ترك العديد من أفراد المجتمع المغزى من التوثيق في إطار القانون العرفي، واتجهوا إلى تصفية الخلافات مع بعضهم بعضا بطرق أخرى لا تمت إلى القانون العام ولا إلى القضاء العرفي بصلة، من خلال اختيارهم لأحد أفراد العائلة التي لديها نزاع معهم وحتى الجد الخامس، ويقومون بخطف سيارته تحت تهديد السلاح، ويجبرون قائد السيارة على النزول من السيارة وخطفها.

وغالبا ما يؤدي هذا الأمر إلى مقتل العديد من المواطنين، حيث يستخدم خاطف السيارة سلاحا آليا، وغالبا ما يحاول صاحب السيارة الهروب فيكون نصيبه رصاصة تودي بحياته. ويقول المهندس الكاشف محمد الكاشف، من أبناء سيناء، «مطلوب وقفة ضد الانفلات الأمني واستخدام السلاح حتى لا تلجأ باقي القبائل إلى إحراز السلاح»، وطالب بتشكيل لجنة تنتقل إلى كل أقسام ومناطق المحافظة وأن يتم تطبيق القضاء العرفي السليم وتنقيته من الدخلاء.

ولمواجهة الانفلات الأمني يطالب القاضي العرفي يحيى الغول بضرورة دعم دور الشيخ وتقويته حتى يمكنه السيطرة على أبناء القبيلة، وأن يتم تعميم القانون المدني على الجميع خاصة أن القضاء العرفي قد يحتمل الصواب والخطأ طبقا لوجهات النظر، وأن ظاهرة التوثيق انحرفت في تطبيقها مما أدى إلى زيادة المشكلات الناتجة عنها.