حديث ثقيفة بني ساعدة

TT

يتردد في بعض الأوساط من يؤكد أن الدولة الإسلامية في عهد الرسول، عليه الصلاة والسلام، لم تكن دولة دينية بل كانت دولة مدنية، ويعتمد أصحاب هذا التوجه للتدليل على ذلك على أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، اتبع وسائل إدارية وسياسية لا تختلف عن الأساليب الحديثة في الإدارة، فلم يكن للبعد الديني أثره في الاختيارات السياسية، إضافة إلى أن الدولة الإسلامية كانت تحكم بضرورات السياسة قبل مقدرات الدين. وعلى الرغم من وجاهة هذا التوجه، فإن المشكلة في حقيقة الأمر مرتبطة بتعريف معنى الدولة الدينية والمدنية، فلا خلاف على أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان رجل سياسة وتنظيم من الطراز الأول، ويشهد بذلك المستشرقون قبل علاّمات التاريخ الإسلامي، على الرغم من التحفظات على أهداف غالبية الفئة الأولى. تجمع أغلبية من التوجهات في العلوم السياسية على أن لفظ الدولة «الثيوقراطية» - وهو الاسم الدارج للدولة الدينية - مستوحى من اللفظ اليوناني «حكم الله» أو الحكم من خلال الإله، بينما تذهب تعريفات أخرى لاعتبار هذه النماذج من أنظمة السلطة الدينية هي المسيطرة على الدولة فتعتمد على القوانين الدينية لتكون أساسا للقوانين الشخصية والسلوك الديني والسياسي، ولكننا نستطيع أن نقبل التعريف الذي يثير خلافا أقل، وهو أن الدولة الدينية هي التي تدار بواسطة إرشاد إلهي أو عبر مسؤولين ينظر إليهم على أنهم ملهمون إلهيا أو منفذون لمشيئة الإله، أما مفهوم الدولة المدنية فهو مفهوم يعتبر الدستور والقوانين أسس الحكم، والأمة هي مصدر السلطات، والمواطنة أساس علاقة الفرد بالدولة، وليس المقصود هنا أن يختفي دور الدين من المجتمع. إذا ما طبقنا هذه التعريفات على «دولة المدينة» إبان عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن الأمر سيحسم من تلقاء نفسه، فالعلاقة الإلهية بهذه الدولة واضحة تمام الوضوح، فمحمد بن عبد الله كان رسول المولى - عز وجل - للبشرية، بالتالي فإن السلطة كانت مستوحاة من اتصال مباشر مع خالق الكون وهي تسبق وتعلو أي شرعية أخرى، من ثم فالسلطة الدينية كانت الأقوى والأسمى في هذه الحالة بطبيعة الحال، وهي التي منحت للنبي الشرعية السياسية وليس العكس، فلم يكن هناك مجال لأن تكون هناك قيادة غير قيادة الرسول، كما أن هذه الشرعية غير مورثة، لأن الإسلام ليس به هيكل أو سلطة دينية منظمة يمكن أن ترث الرسول عليه الصلاة والسلام. وعلى الرغم من العبقرية السياسية التي أدار بها الرسول عليه الصلاة والسلام الحكم في المدينة، فإن الطبيعة الدينية كانت الغالبة على الدولة الإسلامية في عهده، وهو أمر طبيعي ولا يجب أن يكون محل تردد، لأنها رسالة من المولى لعباده وتسبق في أولويتها أي شيء آخر، لذا فدولة المدينة كانت دولة دينية ولا مجال للخلاف على كينونتها، فحتى وإن كان الرسول عليه الصلاة والسلام يطبق مبادئ السياسة الحديثة، فالحبل بين السماء والأرض كان ممتدا من خلال الوحي طالما بقي الرسول على قيد الحياة، وهذا هو مربط الفرس.

ولكن بموت الرسول، فقدت الدولة الطابع الديني المتمثل في نبيها وقائدها، ولكنها لم تفقد شرعيتها ممثلة في دين الله الحنيف الذي منحه للبشرية أو الأمة ممثلة في المجتمع الجديد أو قيادتها ممثلة في الخلفاء، ولكن قيادتها كانت لبشر رفيعي المستوى وليسوا معصومين، وبالفعل كانت المناقشات التي دارت في ثقيفة بني ساعدة قبل دفن الرسول عليه الصلاة والسلام انعكاسا لهذه الحقائق، فالخلافات التي دارت بين الأنصار والمهاجرين والتي كانت طبيعية بعد وفاة مؤسس الدولة عكست هذا، فقد انصبت المناقشات على المستقبل السياسي للدولة أو من سيتولى السلطة ومقدراتها وطبيعة الحكم وغيرها من الأسئلة. السؤال الأساسي كان حول من سيخلف الرسول، فهل الأنصار أولى أم المهاجرون؟ هل يأخذ الحكم سعد بن عبادة أم أحد رجال قريش؟ وفي سعي الأمة للوصول إلى حل حول مستقبلها السياسي أسفرت مداولات الثقيفة عن بعض الأسس المهمة منها: أولا: إقرار مبدأ الولاية لقريش وليس لغيرها، فعلى الرغم من الثناء على دور الأنصار فإن المبدأ الذي حدث توافق حوله - على الرغم من رفض سعد بن عبادة له - هو أن تكون الإمارة في قريش والوزارة في الأنصار وفقا للمقولة «منا الأمراء ومنكم والوزراء»، وقد ذكر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الجميع بدور قريش فقال «قريش ولاة هذا الأمر»، بينما أكد الصديق - رضي الله عنه - نفس المعني بجملته الشهيرة «وما تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا».

ثانيا: إذا كانت الثقيفة قد حسمت أمر الخلافة في قريش، إلا أنها لم تحسم أي بطن من بطون قريش أولى بهذا الأمر، ولعل هذا فتح المجال أمام الخلافات السياسية التي نشبت إبان الفتنة الكبرى، ولكنه بكل تأكيد لم يكن السبب الأوحد لها. ثالثا: أن اختيار أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين هو انحسار للدولة الدينية وتحولها للدولة المدنية، فلو أن الخلافة آلت لبنى هاشم في هذا اليوم لأصبحت الدولة الفتية امتدادا للدولة الدينية التي شيدها الرسول عليه الصلاة والسلام بحكم النسب، ولكنها آلت لأبي بكر رضي الله عنه بعد المقولة الشهيرة التي ترددت في الثقيفة «... يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر»، فقالت الأنصار «نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر»، بالتالي حسم مقام الصديق لقربه من الرسول ودوره وسابق عهده بالإسلام أمر الخلافة. رابعا: أن الثقيفة مثلت بالفعل ما نطلق عليه في العلوم السياسية الانتقال السلمي للسلطة، فتشير العديد من المصادر التاريخية إلى أن البعض لم يبايعوا أبي بكر رضي الله عنه منهم سعد بن عبادة نفسه، بينما أخر البعض الآخر بيعته، وهو ما يعكس مبدأ التعددية والسماحة السياسية في الدين الإسلامي الوليد، فالاختيار جاء برضاء الأمة وليس بأية وسائل قسرية، والانتقال السلمي للسلطة تم للفئة الأضعف ممثلة في قريش وليس للأقوى ممثلة في الأنصار، وهو أمر يعكس مدى الرقي الروحي والسياسي للأمة الوليدة.

لعل أعظم ما في حدث الثقيفة هو قدرة الصحابة والأنصار والأمة الناشئة على مواجهة مصيبة موت الرسول عليه الصلاة والسلام لتحدد مستقبلها بعيدا عن المزايدات والأفكار الشمولية، فقد عكست الثقيفة قدرة المجتمع على قبول الفطام الديني، وبدرجة أقل السياسي، والمضي قدما نحو شق الطريق السلمي لمستقبلها السياسي بأسس شرعية جديدة تتأقلم مع مقتضيات الظروف والعصر، بل والأخطار المحدقة ممثلة في الردة عن دين الله وسلطة المدينة، وهو ما يعكس مرونة الإسلام والصحابة والأمة الصالحة، ويؤكد أنه لا توجد خريطة طريق سياسية ثابتة أو صكوك آيديولوجية موثقة بأختام أبدية تضمن المستقبل السياسي للشعوب ورفاهيتها، فمستقبل الأمم متروك لها وفق ظروفها تأكيدا للحكمة القائلة إن الشعوب كالأنهار تحفر طريقها من المنبع للمصب.

* كاتب مصري