قصص مفجعة عن آلام المجاعة

«الشرق الأوسط» تزور مخيم بدبادو.. وعائلات تروي كيف اضطرت لترك أطفالها على قارعة الطريق بعد أن ماتوا جوعا

أم صومالية تتأمل طفلها الهزيل بسبب نقص الغذاء في مخيم داداب في كينيا (نيويورك تايمز)
TT

«أسوأ مجاعة تحدث منذ 60 عاما، والمتأثرون بها نحو 11 مليون إنسان»، ذلك هو توصيف الأمم المتحدة للوضع الإنساني في منطقة القرن الإفريقي. يمثل الصومال الجزء الأكبر من المنطقة التي تضربها المجاعة وخاصة المناطق الجنوبية منه التي تتوقع المنظمات الإنسانية أن تعلن أنها منطقة منكوبة بالمجاعة خلال أسابيع فقط. وتعد العاصمة مقديشو وضواحيها من المناطق الخمس في جنوب الصومال المدرجة في قائمة المناطق المنكوبة بالمجاعة، ويقع فيها مخيم «بدبادو» (النجدة) وهو أوسع المخيمات في العاصمة مقديشو حتى الآن. وقد أقامته الحكومة الصومالية على عجل لإيواء النازحين من المناطق النائية، ليكون واحدا من ثلاثة مراكز حددتها الأمم المتحدة كنقاط للوصول إلى ضحايا الجفاف والمجاعة في جنوب البلاد. والمركزان الآخران هما مخيم دداب بشمال كينيا على الحدود مع الصومال، ومدينة «دولو أدو» بشرق أثيوبيا على الحدود مع الصومال أيضا.

يؤوي هذا المخيم الواقع على الطرف الجنوبي من العاصمة مقديشو، نحو 100 ألف نازح حتى الآن حسب تقديرات الحكومة والأمم المتحدة. ويمتد المخيم على مساحة كبيرة من الأراضي الحكومية. «الشرق الأوسط» زارت هذا المخيم لإعطاء صورة حقيقية عن أوضاع النازحين هناك من خلال الاستماع إلى رواياتهم حول رحلة الهرب من المجاعة القاتلة وما تلاها من معاناة لا يبدو أنها تعرف النهاية حتى كتابة هذا التقرير.

أول ما يلفت نظر الداخل إلى مخيم «بدبادو» عند الوصول إلى البوابة، منظر آلاف الأكواخ الصغيرة المصنوعة من البلاستيك التي وزعتها منظمات الإغاثة على النازحين، والعيدان التي تجلب من الغابات البرية القريبة. ويصنع النازحون من هذا البلاستيك (قطعة يبلغ طولها نحو 3 أمتار وعرضها مثل ذلك) والعيدان، ما يشبه الكوخ الدئري الذي لا يزيد ارتفاعه عن المتر ونصف المتر، وقطره مثل ذلك أيضا، حيث يتم الدخول إليه راكعا أو حبوا أحيانا، ولا يتسع لأن يمدد الإنسان العادي البالغ رجليه عندما يريد أن ينام. أرضية الكوخ خالية من أي فراش إلا من بعض الأسمال التي يفترشها الأطفال والكبار، وبعض المحظوظين حصلوا على كراتين فارغة التقطوها من الطريق ويستخدمونها كفرش. منظر الأطفال الذين التصقت التربة الحمراء في أجسادهم، منظر مألوف عندما تجتاز الأزقة المتعرجة التي تفصل بين الأكواخ. تكاد تلك الأزقة تسع لمرور شخص واحد. حكى الطفل إبراهيم (10 أعوام) وهو يشيح بوجهه خجلا، عن حياته في الكوخ، قائلا: «هذا الكوخ بارد جدا بالليل وخاصة عندما تهطل الأمطار. ليس لدي غطاء فالتراب يأكل جسدي في الليل. وحدث ليلة أن وصلت مياه المطر إلى داخل المخيم وأصبح التراب رطبا وقضينا الليلة مستيقظين محشورين في نصف مساحة الكوخ التي لم تصل إليه المياه». ويضيف والده عبد الله (40 عاما): «في الصباح، اضطررنا أن نفكك الكوخ لتجفف الشمس الأرض الرطبة، ثم أقمناه من جديد في المساء لأننا لم نجد مكانا آخر ننتقل إليه. فالمساحات الأخرى مملوءة هي الأخرى بالأكواخ». وفي الليالي الماطرة تلجأ بعض الأسر إلى المراحيض المصنوعة من التنك. فهي على الأقل مسقوفة وتقي من المطر، والباقي ليس مهما. لا مكان لما يسمى الخصوصية أو الستر هنا. فالمخيم عبارة عن أرضية مفتوحة لا جدران فيها سوى البلاستيك والعيدان. المراحيض قليلة جدا وهي الأخرى أقيمت على عجل وبنيت من التنك. يصطف الناس أمامها لقضاء حاجتهم، وبعض الرجال الذين تعبوا من انتظار دورهم، يتوجهون مشيا إلى الغابة التي تبعد مسافة كيلومتر، ليقضوا حاجتهم هناك كما كانوا يفعلون في البادية، ويعودون إلى المخيم ثانية. الأحاديث هنا مسموعة بوضوح، من خناقات الأزواج والأطفال وبكاء الرضع، إلى أنات الجوعى وآهات المرضى... في كل كوخ قصة مأساة لم يمض عليها إلا أيام قليلة.

هنا في المخيم، معظم السكان مجردون من أي ممتلكات، إذ إن رحلة الهرب من المجاعة لم تسمح لهم بحمل أي شيء. فهم هربوا للنجاة بأنفسهم وأطفالهم من الموت. بعضهم حمل إبريقا أو قدرا صغيرة، أو بعض الثياب، وقطعوا مسافات طويلة مشيا على الأقدام وأطفالهم الصغار على ظهورهم. ومن أسعفه الحظ حصل في الطريق على سيارة عابرة وألقت به هنا حيث المخيم. بعض النازحين في مخيم «بدبادو» يعيشون ذكريات المشاهد الأليمة طوال رحلة الهرب من المجاعة، حيث اضطر كثير من الأسر إلى ترك أطفالهم على قارعة الطريق بعد أن ماتوا من الجوع والعطش، لإنقاذ حياة الأطفال الباقين. تحكي عالية (45 عاما) التي كانت أما لثمانية أطفال، تعيش في بادية إقليم «باي» في عائلة تحترف الرعي والزراعة الموسمية، أنها فقدت خمسة من أطفالها في رحلة البحث عن الطعام. تروي حكايتها وهي تغالب الدموع في عينيها قائلة: «هربت بأطفالي الثمانية وهم أيتام من مدينة (قنسحطيري) بإقليم باي (جنوب غربي الصومال) ووصلت إلى مدينة بيداوا (عاصمة الإقليم) بعد أيام من المشي على الأقدام. لم أكن أعرف أحدا في المدينة، فتوفي اثنان من أطفالي بسبب الجوع والمرض، وواصلت رحلتي باتجاه مقديشو».

تواصل عالية «في منتصف الطريق، عند مدينة بورهكبة (180 كم غرب مقديشو)، توفي طفلان آخران بينما الطفل الثالث فارق الحياة عندما اجتزت قرية (ليغو) (100كم غرب مقديشو). أعانني مسافرون في شاحنة لنقلي إلى منطقة عيلاشا (18 كم غرب مقديشو) وأنزلوني هناك حيث توفي طفلي الخامس... الحمد لله الآن لدي ثلاثة باقون على قيد الحياة ولكن هم مرضى أيضا». قحقحة أحد أطفالها كانت مسموعة. شرحت أنه مصاب بمرض الحصبة وهو ممدد على ورق كرتون مهترئ داخل الكوخ. نادت عالية على أطفالها، فظهر اثنان منهم، تبدو آثار الجوع على جسديهما، بينما الشرود والصدمة ظاهرة في عينهم. أحدهما وهو في السادسة من العمر، كان يلعق قشرة موز التقطها من الطريق على ما يبدو. قالت لي عالية والكلمات تتقطع في حلقها، إنها لا تفكر في شيء آخر سوى إبقاء هؤلاء الثلاثة على قيد الحياة. فهم أملها الوحيد المتبقي في هذه الدنيا.

بجوار أسرة عالية، أسرة أخرى مرت هي أيضا بمأساة كبيرة. يقيم أحمد، (43 عاما)، في كوخ مماثل، وكان يعيش بالقرب من مدينة «بارطيري» بإقليم «جيدو» بجنوب الصومال. حمل أحمد اثنين من أطفاله الأربعة على ظهره، بينما زوجته المريضة وطفلاه الآخران يمشون وراءه في رحلة طويلة استغرقت 11 يوما أوصلتهم أخيرا إلى الطريق العام ليستقلوا سيارة متجهة إلى مقديشو بمبلغ قليل كان معه من بيع أبقاره الهزيلة. وتابع يروي: «لم تقو زوجتي المريضة على المشي لهذه المسافات الطويلة، وصلنا إلى إحدى القرى التي هجرها معظم سكانها لنجد طعاما، وكانت الفاجعة أن زوجتي توفيت جراء الجوع والمرض. فأعانني أهل القرية القليلون على دفنها في المقبرة، وهربت بالأطفال الأربعة وجئت بهم إلى هنا».

يذهب أحمد إلى المناطق القريبة من المخيم ليعمل بأي شيء. يتسول أحيانا. يحكي قائلا «إن طعام المخيم لا يكفي، ووجبات الطعام لا تأتي إلا في وقت متأخر جدا، ولذلك أترك الطفلين الكبـــــيرين في طابـــــور التوزيع وأذهب أنا إلى المدينة لأتسول من الناس. بعضهم يتصدق علي ببـــــقايا الطعام، والبعض الآخر يعطيني طعاما نيئا، لأطبخـــــه لأطفالي الأربعة داخـــــــل المخيم، وأستـــــخدم قـــدرا صغيــــــــرة أســــــتعيرها من أسرة في الكوخ المجاور».

في فناء الكوخ الصغير الذي يعيش فيه أحمد، يتحلق أطفاله الأربعة حول قدر صغيرة منصوبة على أحجار أصغر. في داخله، يغلي خليط من الحبوب التي هي حصيلة والدهم من التسول لنهار كامل. تمضي دورة الأيام والرجل المترمل محاصر بين الفاقة والجوع والخوف على مستقبل أطفاله. يفكر في اليوم الذي يراهم وهم خارج هذا المخيم يعيشون حياة طبيعية.

في وسط المخيم، يوجد مطبخ فيه قدور عملاقة. يعمل فيه عشرات الموظفين لإطعام العدد المتزايد من اللاجئين. في منتصف النهار يصطف النازحون وأطفالهم لتلقي وجبة غير موزونة من الطعام، وأغلب الأيام تكون من الأرز المخلوط بمرق الدجاج فقط. يلقي الموزع مغرفته المعدنية في القدر ويفرغها في إناء المتلقي في الصف. تنهال التبرعات الصغيرة على إدارة المخيم من سكان مقديشو، ومعظمها من الطعام الجاف وبعض الثياب، بينما تلعب المحطات الإذاعية دورا مهما في جمع هذه التبرعات ونقل المأساة إلى المستمعين.

تروي فاطمة مادي (34عاما) التي هربت بأطفالها الثلاثة قادمة من منطقة شبيلي السفلي (جنوب الصومال) قصتها هي الأخرى، وتقول: «أسرتي الصغيرة فقدت كل مواشيها بسبب الجفاف وقرر زوجي - بعد أن فقدنا آخر ما نملكه وهو بعير العائلة الذي أصيب بالإنهاك الشديد - أن نغادر المنطقة بحثا عن الطعام لأولادنا. قطعنا مسافة 120 كم مشيا على الأقدام إلى أن وصلنا إلى قرية بولا مرير (160 كم جنوب مقديشو)». وتابعت: «حملنا الأطفال على حمار لنا كان يعاني هو الآخر التعب والهزال، وانتظرنا ثلاثة أيام كاملة في جانب الطريق. توفي أحد أطفالنا بسبب الجوع والمرض. لم يكن لدينا شيء. فقط لففناه بأحد الأسمال التي كانت معنا ودفناه بجانب الطريق. بكينا عليه كثيرا. وأخيرا تبرع أحد سائقي الشاحنات الذي كان ينقل مجموعة من اللاجئين بنقلنا إلى مقديشو بعد توسلات طويلة لأننا لم نكن نقدر على دفع أجرة التوصيل (نحو 15 دولارا للأسرة). كان آخر مشهد رأيته حمارنا وهو يغالب التعب بجانب الطريق. بكيت مرة أخرى لأنه كان جزءا من العائلة وعمادنا لسنوات طويلة».

لم تنته مأساة فاطمة عند هذا الحد. فخلال الرحلة تقاسم طفلاها المتبقيان أرغفة خبز جافة مع الركاب وبعض الماء. تقول إنها كانت قلقة على حياتهما وخائفة من أن يلقيا مصير أخيهم الأصغر الذي توفي لتوه بسبب الجوع. عندما وصلت الشاحنة إلى مشارف العاصمة تركهم السائق بالقرب من مخيم بدبادو بجنوب مقديشو. ولدى وصول العائلة إلى المكان، لم تجد مكانا تأوي إليه من الحر والبرد. فهي وزوجها وطفلاها الاثنان أصابهم الهزال الشديد والإعياء نتيجة طول السفر والجوع. وفي داخل المخيم، جمع بعض النازحين لهم عددا من ورق الكرتون وبعض العيدان، وتقول «ساعدنا الناس على إقامة الكوخ وأحضروا لنا بعض الطعام والماء».

تتذكر فاطمة المشاهد التي رأتها في الطريق، وهي في السيارة، حيث الرعاة والقرويون المنهكون يجثون على جانبي الطريق المغبر، وهم يلوحون بأيديهم للسيارات العابرة. تقول فاطمة وهي تغالب الدموع إنها تعتقد أن كثيرين منهم سيموتون وهم ينتظرون شاحنة تنقلهم، كما مات ابنها الأصغر مسعود على جانب الطريق وهم ينتظرون سيارة تقلهم. ترى نفسها محظوظة لأنها الآن على الأقل وسط أناس مثلها، وفي مكان حيث تجد بعض الطعام وما يشبه المأوى، وزوجها على قيد الحياة مع أنه لا يقدر على الحركة بشكل جيد لأنه متعب ومصاب بعدد من الأمراض.

لا تفكر فاطمة في شيء غير أسرتها الصغيرة وزوجها المريض وطفليها الاثنين. ليس لديها أخبار عن أقربائها في المنطقة الذين ذهبوا هم الآخرون في كل اتجاه بحثا عن الطعام والماء بعد أن تقطعت بهم السبل. وقد يكون بعضهم فارق الحياة قبل أن يصل إلى مكان يجد فيه طعاما. وقد يكونون محظوظين مثل فاطمة وينجون من الموت جوعا في نهاية الأمر.

في هذا المخيم المكتظ بآلاف النازحين، ليس كل شيء على ما يرام. هناك شكاوى من كثير من النازحين الذين التقيناهم، من سوء التنظيم، إضافة إلى غياب الأمن وقيام المسلحين بنهب المساعدات الغذائية، يرتدي بعضهم الزي العسكري للقوات الحكومية. لا توجد سجلات منظمة للنازحين، مما يجعل تقديم الخدمات لهم بشكل صحيح أمرا صعبا. وقعت مأساة مفجعة بداية هذا الأسبوع عندما نهبت قوات حكومية جائعة هي الأخرى شاحنات برنامج الغذاء العالمي المتوجهة إلى المخيم، ثم انتشرت الفوضى واتسع النهب ووقع إطلاق نار بين هذه القوات، مما أدى إلى مصرع 11 لاجئا نجوا من الموت جوعا، فقضوا في صراع بين الميليشيات الحكومية المتصارعة على نهب المساعدات الغذائية.

خلال الجولة في المخيم، مررنا على مجموعات صغيرة من الأطفال كانوا يجلسون أمام الأكواخ ولا يعرفون كيف يلعبون ويقضون النهار في انتظار وجبة طعام لا تأتي إلا في وقت متأخر. فهم صائمون مثل الكبار، والتعب والهزال وسوء التغذية هي السمة المشتركة بينهم، بينما تكسو المرارة العميقة وجوههم. تختزن ذاكرتهم الصغيرة مشاهد موت إخوانهم وتركهم في قارعة الطريق. روى أحد هؤلاء الأطفال أنه ينتظر أخته وأخيه الأصغر ليصلا في المساء. لكن الحقيقة المفجعة هي أنهما لفظا أنفاسهما في رحلة الهرب من المجاعة.

في نبرة مماثلة روت لي مراهقة أن أسرتها كانت تتكون من 7 أفراد لكن أربعة فقط موجودون هنا. تحكي قائلة: «إخوتي تخلفوا في الطريق عندما تركنا القرية، وقالت لي والدتي إنهم سيلتحقون بنا في ما بعد، لكنهم لم يأتوا. الآن فقط أسمع أنهم ماتوا ولن يأتوا إلينا أبدا». وتغرق في بكاء ونحيب. ودعنا الأطفال والمخيم، وكل ما في الذاكرة المرارة في عيون الناس هنا جميعا، وخاصة الأطفال الناجين الذين يمنعهم الخوف والجوع من اللعب. فهنا لا أفراح ولا ألعاب ولا تسليات ولا فوانيس رمضانية... والأيدي التي قد تمسح الدمعة من عيونهم ووجناتهم الغضة التي فتك بها الجوع، تأخرت كثيرا.