اغتيال الحريري.. متهمون طلقاء وحكومة عاجزة

لم يسأل أحد عن المتهمين في أماكن إقامتهم التي ذكرتها المحكمة الدولية

صورة عملاقة لرفيق الحريري في وسط بيروت (نيويورك تايمز)
TT

لم يكن إعلان الحكومة اللبنانية عدم إلقائها القبض على أي من المتهمين في اغتيال الرئيس السابق للحكومة، رفيق الحريري، مفاجئا حتى للمحكمة للدولية نفسها، فقد مهدت المواقف التي اتخذها حزب الله، عقب إعلان أسماء المتهمين وقبله، لواقع مفاده أن هؤلاء المشتبه بهم «سيبقون خارج قفص العدالة الدولية، وستوظف سائر الإمكانيات الأمنية لإخفائهم».

ويقول كثيرون إن هذه الحقيقة ليست إلا «مؤشرا على عجز الدولة اللبنانية عن إلقاء القبض على سائر المتهمين في لبنان، من غير رفع الغطاء السياسي عنه، سواء أكانوا متهمين بجريمة قتل، أم بسرقة دراجة نارية». وتؤكد المعطيات المتوافرة في المحاكم اللبنانية، أن ما يزيد عن أربعين ألف متهم، منذ عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب، ما زالوا خارج السجون، وأجادوا التخفي عن العدالة. بهذا المعنى، يصبح ما قاله أحد المقربين من حزب الله، في مقابلة تلفزيونية، عقب إعلان أسماء المشتبه فيهم، واقعا، إذ أكد أن المتهمين الأربعة «سيضافون كأرقام إلى لائحة المطلوبين اللبنانيين، والفارين من العدالة».

وتشير التجارب الأمنية اللبنانية في ملاحقة المطلوبين والفارين، إلى عجز تاريخي يعتري الحكومة في القبض عليهم. ويشير الخبير الاستراتيجي الدكتور نسيب حطيط إلى أن «قضية هذا العجز تعود إلى العهد الحديدي، أيام ولاية رئيس الجمهورية الراحل فؤاد شهاب، حيث كانت قدرة الدولة وإمكانياتها تفوق كل المقدرات الأخرى»، مذكرا «بالتسوية التي عقدتها الدولة آنذاك مع المسلحين في منطقة جرود الهرمل، التي قضت بتنظيم حمل السلاح عبر الرخص القانونية، بعد فشل الحملة».

ويعود حطيط بالتاريخ اللبناني إلى مجزرة قصر عدل صيدا في عام 1999، التي ذهب ضحيتها أربعة قضاة لبنانيين، موضحا «أن الدولة اللبنانية لم تتمكن حتى الآن من القبض على أحد من المتهمين»، ليستدل، انطلاقا من تلك الأحداث، على أن الدولة اللبنانية، «قامت بواجبها فيما يخص البحث عن المتهمين الأربعة في جريمة الحريري بشكل جدي، ولم تقم بدور صوري فقط»، مشيرا إلى أن التبليغ الذي جرى عبر وسائل الإعلام، والقنوات الأمنية الرسمية اللبنانية «لا يشوبه أي تقصير من الناحية القانونية».

لكن هذه الحقيقة يرفضها آخرون، إذ يعتبر عضو كتلة المستقبل النيابية، النائب هادي حبيش، أن إعلان الحكومة عدم تمكنها من إلقاء القبض على المتهمين «هرطقة قانونية»، موضحا أن الدولة القوية «هي القادرة على بسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية، ولا تعجز عن الوصول إلى أي مواطن مقيم على أراضيها».

من جهته، لا يرى عضو الكتلة نفسها، النائب أمين وهبي، أن الإعلان الأخير ناتج عن عجز الحكومة، «بل عن خيارها»، موضحا أن الحكومة «حتما لا تستطيع إلقاء القبض على المتهمين، ولا تريد أيضا». وأضاف: «ما تعلنه الحكومة، هو نوع من خارطة طريق رسمها الرئيس ميقاتي ليعطي المحكمة بالشكل، ويتخلى عنها بالجوهر».

بيد أن الواقع يختلف عن المبادئ العامة في الدولة، وخصوصا في حالة هؤلاء المطلوبين، التي تختلف عن سائر القضايا الأخرى من حيث الشكل والمضمون، كون المحكمة خرجت من أروقة القضاء اللبناني، واتخذت الطابع الدولي، لأول مرة في تاريخ لبنان، بغية وضع حد للاغتيال السياسي في الوطن الصغير، مما يفرض على الحكومة التعاون في إلقاء القبض على المتهمين للعدالة الدولية، وبالتالي، فمن المفترض أن تتعاون الحكومة مع المحكمة وتساندها، بحكم بروتوكول المحكمة الخاصة بلبنان، وتوظف إمكانياتها لإلقاء القبض على المطلوبين.

ويعود عجز الدولة في توقيف المتهمين إلى جملة معطيات، أهمها واقع المتهمين أنفسهم. فهم شخصيات أمنية، تجيد التخفي.. وتحول هذا النمط إلى سلوك يومي في حياتهم. ناهيك عن أن الموقف السياسي الذي اتخذته قيادة حزب الله من المحكمة، بوصفها محكمة إسرائيلية. ويقول حطيط إن موقف المطلوبين ينطلق من قناعتهم بأنه «ليس المطلوب منهم تسليم أنفسهم كي تعلن براءتهم لاحقا»، موضحا أن هؤلاء «يعيشون حياة غير طبيعية، إذ لا يعتمدون مكان سكن ثابتا، ويتنقلون من مكان إلى آخر بحكم طبيعة عملهم، وهم المطاردون من قبل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية». وأضاف: «من الثابت أنه لا وجه معروف للرجل المقاوم، وهي خصوصيته الشخصية، وبما أن القرار قضى بأن المحكمة مسيسة، وإسرائيلية، فإن هؤلاء المتهمين يفترضون حق الدفاع عن أنفسهم وحمايتها، والتخفي من درب محكمة قد تكون ظالمة».

وتوفر البيئة الحاضنة لهؤلاء المتهمين أفضل ظروف التخفي عن أعين الأجهزة الأمنية اللبنانية والدولية. ويقصد بالبيئة الحاضنة، بحسب علماء الأنثربولوجيا، «الامتداد الديموغرافي، والعقائدي، والجغرافي للمتهمين». فقد نشرت المحكمة الدولية عناوين سكن المتهمين الأربعة، تتنوع بين مناطق الغبيري وحارة حريك وشارعي الجاموس والسانت تيريز في الضاحية الجنوبية، بالإضافة إلى عنوان المتهم أسد صبرا في منطقة زقاق البلاط التابعة لبيروت الإدارية، وفي هذه المنطقة، يشكل أبناء الطائفتين السنية والشيعية أكبر كتلة بشرية مقيمة في المنطقة، إذ يقطن 31864 لبنانيا تابعا للطائفة السنية، بحسب إحصاءات عام 2007، فيما يقيم 26503 شيعيين. وتوفر هذه الكتلة البشرية الشيعية غطاء ديموغرافيا قادرا على تأمين الحماية، وتوفير أفضل ظروف التخفي لأبناء الطائفة المستهدفين، نظرا للضخ الإعلامي الذي يجعل من المحكمة «أداة اقتصاص من المقاومة»، ويلتقي ذلك مع البعد العقائدي للمسألة، في بلد أضحى كل شيء فيه طائفيا، حتى مقوماته الزراعية.

أما منطقة الغبيري فتعد عمق الضاحية الجنوبية، وتقيم فيها، إلى جانب منطقة حارة حريك، أكبر كتلة شيعية في بيروت، إلى جانب نحو 8000 سني، وبعض المسيحيين. كما تتضمن أهم المؤسسات التابعة لحزب الله وعمقه الأمني. وتجعل هذه المنطقة من مهمة إلقاء القبض على المتهمين مستحيلة، نظرا لتقارب الأحياء، وبقاء سلطة الدولة اللبنانية خارجها منذ ثمانينات القرن الماضي، على الرغم من تحسن هذا الوضع بعد حرب يوليو (تموز) 2006.

ويبقى أن منطقتي الجاموس والسانت تيريز، اللتان تتبعان بلدية الحدث، شهدتا أكبر موجة من شراء أراضي المسيحيين بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، مما عزز التغير الديموغرافي في المنطقة منذ عام 2000، بفعل نزوح سكان الضاحية الجنوبية باتجاهها، وقد باتت المنطقة حيوية بالنسبة لأبناء الطائفة الشيعية و«وسط البلد» بالنسبة للضاحية، بالمعنى السياحي والاقتصادي. علما بأن الشيعة الذين يتبعون قضاء بعبدا الذي تنتمي منطقتي الجاموس وسانت تيريز إليه من الناحية الإدارية، يبلغ عددهم، بحسب إحصائيات عام 2007، 50013 شيعيا، إلى جانب 70420 لبنانيا يتبعون الطائفة المارونية، لكن حجم الشيعة القاطنين في المنطقة يتخطى عدد السكان الأصليين بأضعاف مضاعفة.

هذا التغير الديموغرافي، عزز مفهوم البيئة الحاضنة، لكن «الحضور الأمني الرسمي اللبناني في منطقة الحدث، يعتبر فعالا إلى حد كبير»، كما يقول رئيس بلدية الحدث، جورج عون، مؤكدا أن سلطة الدولة في هذه المنطقة «كبيرة جدا، خلافا للمناطق المتاخمة، ويغيب تأثير حزب الله عن المنطقة بالمعنى الأمني أو الإداري»، كما أن نفوذ الحزب في الحدث «ليس كما يعتقد البعض، ويعتبر مقوضا أمام سلطة الدولة».

وإذا كان الواقع على هذا النحو، كما أكد عون، فتتبادر إلى الذهن أسئلة عن السبب الذي جعل السلطات الأمنية اللبنانية عاجزة عن إلقاء القبض على المتهمين، الذين سكن ثلاثة منهم المنطقة، بحسب بيانات المحكمة الدولية.

في الواقع، يلعب البعد العقائدي أكبر تأثير في إبعاد القوى الأمنية اللبنانية عن المتهمين، ويُستدل على مدى التأثير الإعلامي على سكان المنطقة، بقول أحدهم: «إن اليد التي ستمتد إلى هؤلاء المقاومين هي يد إسرائيلية»، مما يفسر المواقف السابقة من المحكمة الدولية. وتمكن الضخ الإعلامي من إقناع مناصري حزب الله والسكان بأن «التعاون مع المحكمة يعادل التعاون مع إسرائيل»، بحسب وسام حيدر (أحد سكان المنطقة) الذي أكد أن مطالبة المحكمة بتلك الأسماء «تهدف إلى الاقتصاص من المقاومين والثأر منهم نتيجة عملهم المقاوم ضد إسرائيل».

بيد أن أيا من السكان لم يلتقِ بسائل عن أحد المتهمين، ويعرف الأمنيون أن سؤالا على هذا النحو «لن يصل إلى نتيجة»، بدليل «آراء فاعليات المنطقة من المحكمة، وموقفهم السابق منها، التي وصلت تباعا إلى الأجهزة الأمنية الرسمية اللبنانية».

تلك السلوكيات لا تعني، بحسب حطيط، أن حزب الله غير معترف بالمحكمة، «لكنه يرفض التعاون مع المحكمة المسيسة». ويستند في تأكيده تلك المعلومات إلى مجموعة معطيات أهمها «تعاون الحزب مع لجنة التحقيق الدولية عبر إرسال عناصره إلى مقر اللجنة بغية التحقيق معهم، وافتتاح مكتب ثابت للمحكمة في الضاحية لمتابعة عملها»، مضيفا أن «الإشارات التي قدمها الحزب للمحكمة، عبر وضع دلائل وقرائن تحت تصرفها، مثل شريط الفيديو الذي عرضه أمينه العام ويتهم فيه إسرائيل، بالإضافة إلى الرشوة التي حصل عليها أحد موظفي المحكمة». وأكد حطيط أن «حزب الله، عمليا، متعاون مع المحكمة، ويعترف بها إذا كانت بغرض إحقاق الحق والعدل، لكنه قطع علاقته مع المحكمة المسيسة»، مشيرا إلى أن سلوك التخفي الذي يمارسه المتهمون «ليس هربا من العدالة، بل لكسب الوقت، ريثما تستقل المحكمة عن الهيمنة الأميركية والضغوط التي تمارس عليها، وقد يسلمون أنفسهم فيما بعد إذا أثبتت المحكمة استقلاليتها لأنهم أبرياء، ولأن الجهة التي ينتمون إليها (حزب الله) حريصة على كشف حقيقة اغتيال الرئيس الحريري».

في المقابل، لا يعترف أولياء الدم وقوى «14 آذار» بقناعة حزب الله بالمحكمة، ذلك أن «سلوك الحزب وتجربته مع المحكمة الدولية لا تعبر عن حسن نواياه تجاهها»، على قاعدة أن «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، كما ردد قياديو «14 آذار» مرارا. وفي هذا السياق، أوضح النائب وهبي أنه «إذا كانت هناك أي اعتراضات على مسار التحقيق، فليسلك الطريق القانونية ويخوض منازلة قانونية بين الدفاع والادعاء»، معربا عن ثقته بأن المحكمة «غير مسيسة»، مشددا على «أننا نريد الأحكام المقنعة والشفافة والقوية». وعن اعتراف حزب الله بالمحكمة، أكد وهبي أن «حُسن النوايا يعبر عنه بالخطوات العملية، عندما يتم التعاطي الإيجابي مع المحكمة، أما إذا كان التعاون يتم من خلال التنكر لها ورميها بالتهم، فإن ذلك لا يعبر عن تعاط إيجابي مع استحقاق دولي»، مؤكدا أن «قضاة المحكمة نزيهون، ولا يمكن أن يضحي قاضٍ بسيرته المهنية على مذبح سياسي».