قراصنة ومتطهرون

د. محمد عبد الستار البدري

TT

من أذكر أنني استمعت إلى كلمة لسكرتير عام حلف شمال الأطلنطي السابق «اللورد روبرتسون» في أواخر تسعينات القرن الماضي أشار خلالها إلى أن الأطلنطي سيقضي على الإرهاب تماما كما تم القضاء على القرصنة في القرون الماضية؛ ومع اعترافنا بالتشابه بين القرصنة والإرهاب من حيث كونهما جريمتين مكتملتي الجوانب بكل تأكيد، إلا أن هناك فرقا بين الإرهاب والقرصنة، فالإرهابي قد يكون أي شخص في أي مهنة ويدين بأي دين، ولكن القرصان المقصود هنا هو المجرم الذي يقطع البحار على السفن الآمنة ويسترق راكبيها ويسرق بضائعها، فهذه هي القرصنة التي عانت منها أوروبا لقرون طويلة اعتبارا من القرن السادس عشر وحاربتها أساطيلها الكبرى في السواحل الغربية الأميركية ومنطقة الكاريبي حتى استطاعت القضاء على هذه الظاهرة المتفشية.

ولكن للقرصنة تاريخ طويل خارج نطاق هذه المنطقة وهذه الفترة الزمنية، فتشير المصادر التاريخية إلى أن منطقة الخليج ومضيق هرمز ازدهرت حولها هذه المهنة والتي تربصت بطرق التجارة من الصين والهند إلى الغرب؛ ولكن المتوسط كان أيضا مرتعا للقراصنة منذ فجر التاريخ وارتبط هذا السلوك أيضا بنشاط التجارة خاصة شرق المتوسط، ولعل من أشهر القراصنة المتوسطيين على الإطلاق خير الدين الملقب «ببرباروسا»، والذي كان يعمل لصالح الدولة العثمانية، فحول أغلب شمال أفريقيا إلى بؤر للقرصنة والقراصنة، ولم تستطع أوروبا السيطرة على هذه الظاهرة بعد احتلال فرنسا للجزائر في 1830.

ورغم هذه النماذج المتعددة إلا أن التركيز الغربي كان حول منطقة الكاريبي والساحل الشرقي للأميركتين، فكان مثار اهتمام الأساطيل المختلفة، كما أصبح جزءا من خيال صناعة السينما فتم توصيف قيادات القراصنة على أنهم أبطال أو مجرمون على حد سواء، ولكن تجدر الإشارة إلى أن القراصنة أنواع:

أولا: البرايفيتييرز Privateers، وهم القراصنة الذين كانوا يعملون لصالح دولة أو شخصية مرموقة أو غنية في دولة ما، فيقومون بأعمال السلب والنهب في أعالي البحار لصالحهم بعد أن يحصلوا منهما على السفن والتمويل اللازمين بل وخطاب اعتماد يصدر من الدولة ترخص فيه تصيد تجارة دولة أخرى، وفي المقابل يحصل هؤلاء القراصنة على نسبة من الغنائم، وقد كانت هناك شخصيات فرنسية مرموقة تقوم بتشغيل مجموعات من البرايفتييرز على رأسهم جان فلوري صديق الملك فرانسيس الأول ملك فرنسا والذي كان يتصيد السفن الإسبانية المعبأة بكنوز أميركا الجنوبية، ولكن الإسبان قبضوا عليه مع 150 من رجاله وشنقوهم. ولعل أشهر شخصيات هذه الفئة على الإطلاق كان الإنجليزي «فرانسيس دريك» والذي كانت تموله الملكة إليزابيث الأولى بنفسها فكانت شريكته مع كبار رجال البلاط الملكي في هذا المشروع الاقتصادي والإجرامي على حد سواء، بل إن هذا الرجل لعب دورا هاما في الحرب ضد الأسطول الإسباني الذي حاول احتلال إنجلترا في 1588، ويشاع أن إحدى رحلاته أسفرت عن مكاسب تقدر بـ300 ألف استرليني.

ثانيا: فئة الباكينيرز Buccaneers، والاسم مشتق من لفظ «بوكان» أو اللحم المدخن بلغة السكان الأصليين لأميركا، ثم حُرف اللفظ ليرتبط بفئة من الفرنسيين الذين تاجروا فيه فعرفوا «بالباكينيرز»، وقد كانوا قراصنة على نطاق ضيق حيث كانوا يعملون بالتجارة ويقرصنون في المواسم فقط أو كلما ضاقت أيديهم، ولكن نتيجة للسياسة الإسبانية في التضييق عليهم فقد دفعهم ذلك لاتخاذ القرصنة مهنة لهم، فأصبحوا كالوباء المنتشر، وكانوا أقل التزاما من البرايفتييرز في سلوكهم، وطريقة معيشتهم كانت أقل التزاما ولكنها كانت أكثر ديمقراطية على متن السفن مقارنة بغيرهم، فالأمور بينهم كانت بالتصويت وكانت ممارستهم للقرصنة بقيود أقل من الفئة السابقة.

ثالثا: فئة القراصنة العاميين Pirates وهم من رجال البحر الذين كانوا يهاجمون أي سفن طالما كانت لهم فيها مغنمة، فلم يلتزموا بأي مدونة سلوك، فأصبحت الغنيمة دستورهم والسرقة حياتهم، وفكرة الولاء لم تكن مطروحة من الأساس، وكان مركز تجمعهم في جنوب شرقي الولايات المتحدة وفي جزر بالكاريبي وخليج المكسيك يؤولون إليها للتزود بالمؤن والعتاد ليستكملوا السلب والنهب.

لقد كانت هذه مهنة منظمة ولم تكن في مجملها حالات متفردة من النهب كما قد يصورها البعض، بل كانت لها أنماط محددة، فكانوا في النهاية يستهدفون السفن العابرة، ولكنهم اختلفوا حول سبل الاستهداف، وقد تكاتفت جهود الدول الغربية خلال القرن التاسع عشر للقضاء عليهم وساعدهم في هذه المهمة سيطرة الولايات المتحدة على الكاريبي بعد أن قوي أسطولها وحل محل الأساطيل الغربية الأخرى الممتدة خارج نطاقها الإقليمي، كذلك فإن الدول الغربية استطاعت أن تحجم هذه الظاهرة بقوانين جديدة وسياسات واضحة ساهمت في القضاء عليها حماية للتجارة الدولية، وهكذا انقرض قراصنة الكاريبي بشكل أساسي ولكن ليس قبل أن يترك لنا التاريخ ذكري قراصنة من أمثال «كابتن كيد» و«بلاكبيرد» و«لافيت» وغيرهم والذين تحولوا مع مرور الوقت لروائع أدبية وسينمائية.

في الاعتقاد أن أغرب ما في ظاهرة القرصنة هي فكرة البرايفتيرز ومشاركة الملوك والأمراء بنسب في رأسمال القرصنة، ووجه الاستغراب أننا نقيس ظواهر الأمس بمقاييس اليوم، فالقرصنة كانت سلوكا مقبولا حتى قرون قليلة مضت، تماما كممارسات أخرى مثل تجارة العبيد، ولكنها تمثل اليوم سلوكا بغيضا ومرفوضا من الجميع، بل إن أي دولة تضطلع في القرصنة أو تساهم فيها ستعد دولة مارقة سيتحد المجتمع الدولي لمواجهتها، بل قد يُصدر مجلس الأمن عقوبات ضدها ويُطبق عليها الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يخول للأمم المتحدة أو مجموعة من الدول استخدام القوة معها، ولكن منذ قرون مضت كان هذا سلوكا يمكن قبوله وتشارك فيه نفس الدول التي تحظر اليوم استخدام العنف غير المبرر والإرهاب.

يعيد هذا الأمر لذاكرتنا طرح الفيلسوف الألماني نيتشي Nietzsche الذي برر فيه اختلاف القيم بمرور الوقت وباختلاف النخب، فالمفهوم الإيجابي مع مرور الوقت قد يتحول إلى سلبي والعكس صحيح، ونفس الشيء وارد نتيجة لاختلاف النخب المعنية أو المتلقية للمفهوم، فمنذ خمسة قرون كان بعض القراصنة أبطالا يشاركهم الملوك سلوكهم الإجرامي بالدعم والتمويل، كما سمح بعضهم للقرصان الانضمام لأساطيل بلادهم كوطنيين مخلصين، ولكن بعد خمسمائة عام يلفظ نفس الساسة من نفس الدول مفهوم القرصنة ويعتبرونه إرهابا، والحقيقة الثابتة أن الزمن أصبح قادرا على تغيير المفاهيم والتشريعات والممارسات الدولية، ولكن هل يمكن للساسة والدول أن يتطهروا مع مرور القرون؟

الواقع أن الإنسان يتطهر في علاقته بربه ومن حوله من خلال التوبة أو الاعتراف أو الاثنين معا، ولكن في عالم السياسة فإن التطهر السياسي غالبا ما يكون من خلال عنصر الزمن الممزوج بقوة الدولة، فهو كفيل بأن يطوي أنماطا من السلوك الشائن لدول كبرى استفادت منه في حينها وحان وقت طي هذه الصفحة لتتغير معها قواعد اللعبة، فتبدأ لعبة جديدة تكون فيها الدول الأقل قوة أقل حظا، والدول الأكثر قوة أكثر تطهرا ومكسبا، ولكنها سنة التاريخ ومن يجهلها فقد جهل السياسة.

* كاتب مصري