الإسلام والقانون الدولي الإنساني

د. محمد عبد الستار البدري*

TT

شاركت منذ سنوات في أحد المؤتمرات الخاصة بالقانون الدولي الإنساني (International Humanitarian Law)، وهو يختلف بطبيعة الحال عن القانون الدولي لحقوق الإنساني، حيث إن الأول معني بشكل أساسي بقانون الحروب للحد من آثارها الإنسانية، فضلا عن سبل التعامل الإنساني مع المحاربين والأسرى، وغيرهما من الموضوعات المرتبطة بالحرب. وكان ما لفت نظري في هذا الإطار هو عرض أحد المشاركين لدور «هنري دونانت» الذي هاله ما شاهده في معركة «سولفرينو» مما جعله ينشط لتدشين قانون لحماية الإنسان أثناء الحرب، وهي الجهود التي أدت لنشأة اللجنة الدولية للصليب الأحمر لرعاية الجرحى من الجنود، وقبلها التوقيع على اتفاقية جنيف الأولى في 1864، وتلتها ثلاث اتفاقية أخرى وبروتوكولاتها، آخرها جنيف الرابعة لحماية المدنيين وقت الحرب، وهكذا أصبح «دونانت» في الأعراف الدولية مؤسس القانون الإنساني الدولي.

وأذكر أنني تحدثت مع البعض على هامش المؤتمر لأوضح أن هذه المواد كانت موجودة كجزء من التراث الحضاري الإسلامي، فشرحت بعض ما ورد في القرآن والسنة النبوية من آيات وأحاديث حول حسن معاملة الأسرى والمصابين، إضافة لما نظمه الإسلام من قانون للحرب خاصة الحديث الشريف «استوصوا بالأسارى خيرا»، وأذكر أنني وقفت عند هذا الحد لأنني كنت أعتمد على ذاكرة متناثرة ومبعثرة، لكن أغلب من تحدثت إليهم من الغربيين أكدوا لي أنهم لا دراية لهم بهذه الخلفية، وقال لي أحدهم إن شرح هذا الأمر على المستوى الدولي هو خير وسيلة للرد على الاتهامات الجزافية التي يطلقها البعض على الإسلام باعتباره يحض على الإرهاب والعنف.

وقد تذكرت أيضا وصايا أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو في سبيله لتوديع جيش أسامة بن زيد، والتي تضمنت قوله «..لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا صغيرا أو شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له..».

إن أهم ما يخطر على البال إذا ما نظرنا لهذه الوصايا هو ترجمة هذه المبادئ إلى لغة العصر، فالمبدأ الأول (لا تخونوا عهدا) هو القاعدة القانونية الدولية المتمثلة في قدسية العهود، وهي في العرف الدولي معروفة بـ«Pacta Suct Servanda» أو الحفاظ على العهود، وهي أساس القانون الدولي العام اليوم. أما الوصايا الخاصة بعدم التعرض للأطفال والنساء والشيوخ فهي المبادئ التي وثقتها اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بمعاملة المدنيين وقت الحرب، خاصة المواد الثانية حتى الرابعة وهلم جر، وأصول هذه الاتفاقيات لها خلفياتها في العرف والتراث الإسلاميين، لكن أكثر الناس لا يعلمون، لأن هناك من سبقنا ودونها على أنها ملكيته التاريخية.

المشكلة الحقيقية الأخرى المرتبطة بذلك هي أننا لا نجد مرجعا قويا محدثا يشمل شرحا لريادتنا في مجال حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني يكون موثقا أكاديميا وعلميا ويجاري المتغيرات الدولية والأسس القانونية الدولية، وعندما يكون موجودا فإنه يستلزم ترجمته للغات الدولية ويأخذ حقه من النشر والتعريف ليدخل ضمن مكتبات القانون الدولي بكل أطيافه وتوجهاته.

وهذه لم تكن نهاية العهد بهذه المشكلة التي تكررت مرارا، فأذكر أنني استمعت لتقرير مقرر لجنة الأمم المتحدة للأقليات منذ سنوات قليلة حول مدى التزام الدول بإعلان الأمم المتحدة للأشخاص المنتمين للأقليات القومية أو الإثنية أو الدينية أو اللغوية، وتذكرت عندئذ دستور المدينة، والذي هو في تقديري أول وثيقة دولية لحماية الأقليات، كما أنه كان يمثل أول وثيقة دولية للحقوق العامة للمواطنة في الدولة الإسلامية الناشئة، وهذا الدستور في حقيقة الأمر أهم من «الماغنا كارتا» التي يُنظر إليها على اعتبارها أول وثيقة لحقوق الإنسان في العالم، لأنه يسبقها بقرابة ستة قرون، وفيه من المبادئ القانونية العامة ما تجسد بعد أربعة عشر قرنا من الزمان في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الموقع عام 1966.

ولا يخفى على أي مطلع تعرض الإسلام لحملة منظمة وشرسة لتشويهه لأسباب سياسية مفهومة، منها محاولة استبدال العدو وإعادة صياغة بؤر الخطر في النظام الدولي لأسباب مختلفة منها العقائدية بطبيعة الحال؛ وعلى الرغم مما تملكه الحضارة الإسلامية من تراث فإننا نظل لاهثين خلف المنتج الثقافي أو الحضاري الخارجي، كما تضعف قدرتنا على التواصل مع العالم بمعطياته وأفكاره وثقافاته، وهذا هو بيت القصيد، والتقدير أن سببا أساسيا وراء هذا الفشل هو عدم قدرتنا حتى اليوم على صياغة خطاب حضاري واضح وصريح مكون من الأفرع المختلفة لروافد الحضارة العربية الإسلامية بلغة يفهمها العالم الخارجي وترقى لما توصل له من تقدم، بدلا من الانعزالية الثقافية، وهنا تبرز الحاجة لخطوتين أساسيتين، الأولى صياغة الخطاب الحضاري العربي الإسلامي بشكل مفهوم وواضح بلغة العصر الحديث، والثانية تطوير وسيلة توصيل هذا الخطاب للعالم، فهذه هي الطريقة الوحيدة والفعالة للتحاور وإبراز قيمنا الحضارية بدلا من قبول العالم لحملات التشويه التي تصيبنا وتصدقها الأجيال الصاعدة عندنا.

والمجال مفتوح لبداية تنفيذ هذا من خلال استغلال أحد أسمى ما في الإسلام من مبادئ، وهو البعد الإنساني، من خلال الدعوة لعقد مؤتمر عالمي موسع بمشاركة جادة لخبراء القانون الدولي والقانون الإنساني من المسلمين وغير المسلمين، لمناقشة وتوثيق الدور الريادي للإسلام في مجالي القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، لتكون لغة المؤتمر وأسس المشاركة فيه مبنية على أسس اللغة الدولية لحقوق الإنسان ومفرداتها، وتتم خلال المؤتمر مناقشة القيم الإنسانية الإسلامية وتأثيرها المباشر على تطور المفاهيم الإنسانية الدولية، ودور هذه القيم التي ولدتها هذه الحضارة الإسلامية العربية في تطوير مفهوم حقوق الإنسان دوليا، على أن تصدر عن المؤتمر سلسلة من الكتب الموثقة بشكل علمي وأكاديمي وقانوني تتناسب ولغة العالم الخارجي في هذا المجال بعيدا عن الزخرفة الثقافية والعقائدية.

لقد أصبح لزاما علينا أن نقف حزنا على انهيار ريادتنا في مجالي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وهي الريادة التي لم تقم لها قائمة بسبب الإهمال الفكري وعوامل التعرية الثقافية والجهل بالتاريخ ولغة الخطاب الحضاري المنكبة على الذات، والتي أدت إلى حالة التقوقع الثقافي المرتبط أيضا بعدم القدرة على مواكبة لغة العالم الجديدة بمفرداتها الثقافية والحضارية، فلم نعد نستطيع مقارعة الدول المتقدمة بما وصل إليه أجدادنا من مبادئ سبقتهم بمئات السنين أو أكثر، كذلك وجب علينا الخروج من دائرة المتلقين للتطور الحضاري إلى المشاركين في وضع أصوله حتى ولو بعد حين، وهذا أضعف الإيمان.

* كاتب مصري