فلسطينيو سوريا.. تحت المطرقة

النظام دفع بهم إلى الجولان.. والدعاية الرسمية تصورهم على أنهم وراء الاحتجاجات

من تظاهرات مخيم اليرموك
TT

منذ أن بدأت الانتفاضة السورية في درعا، قبل خمسة أشهر من الآن، حاول النظام السوري، زج الفلسطينيين فيها، بداية على أساس تحويلهم إلى طرف في اندلاع موجة الاحتجاجات التي انطلقت، يومذاك، في درعا البلد ودرعا المحطة، حيث يقع مخيم درعا للاجئين الفلسطينيين. وحيث قيل إن عناصر من الفرقة الرابعة، قد ارتكبت مجازر حقيقية على أطراف المخيم دون الدخول فيه. بعد ذلك، كان التجييش الشعبي، من قبل النظام، الذي دفع بمجموعة كبيرة من الشباب الفلسطينيين من سكان مخيم اليرموك بشارعيه (اليرموك وفلسطين)، للذهاب إلى الحدود مع الجولان المحتل في ذكرى النكسة والنزول إلى حيث السياج الفاصل بين إسرائيل وسوريا. فقتل منهم أكثر من ثلاثة عشر شخصا، ولتعاد المأساة، مرة ثانية، عندما بدأ الأهالي تشييع الشبان في مخيم اليرموك، حيث قتل من القيادة العامة التي يقودها أحمد جبريل (الموالي للنظام السوري والخارج عن منظمة التحرير الفلسطينية) أيضا ثمانية شبان أثناء التشييع.

غير أن الفلسطينيين، في سوريا، لا يوجدون فقط في المخيمات التي يصل عددها إلى عشرة مخيمات رسمية وثلاثة مخيمات غير رسمية من ضمنها مخيم اليرموك (دمشق) ومخيم الرمل (اللاذقية) ومخيم حندرات (حلب). فبالإضافة إلى وجودهم في هذه المخيمات، الموزعة على كامل المدن السورية تقريبا، بل يوجد عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين في المدن مثل دمشق وحمص ودرعا وحلب. لكن الفئة الأكبر من هؤلاء يعيشون في دمشق منذ عام 1948 حتى إن منظمة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، كانت قد أقامت مدارس عديدة تحت إشرافها في مناطق مختلفة من هذه المدن التي يوجد فيها هؤلاء اللاجئين.

عملت الدعاية السورية، منذ بداية الثورة الشعبية ضد النظام، محاولات عديدة لإلصاق أعمال الاحتجاجات الشعبية بالفلسطينيين، فمن المحاولات في درعا من خلال رمي الجثث على أطراف مخيمها، إلى التلميح تارة تلو أخرى بوجود فلسطينيين في المظاهرات إلى ما حصل في مخيم اليرموك من احتجاجات تم قمعها بالقتل المباشر والمتعمد، إلى اجتياح مخيم الرمل في اللاذقية قبل ثلاثة أسابيع. غير أن الوقائع على الأرض غالبا ما كانت تكذب دعاية النظام. فالغالبية من المدن التي شهدت أعنف الاحتجاجات لا يوجد فيها أي فلسطيني مثل دير الزور والقامشلي وإدلب. في حين أن فلسطينيي مخيم حماه طالتهم قذائف القتل كما طالت سكان المدينة، لكن هذه الدعاية لم تعمل على ذكرهم أثناء المجزرة التي حصلت في المدينة قبل شهر.

والحق أن المتتبع لخريطة الاحتجاجات السورية، يمكنه دون تمعن أو تفكير طويل، الانتباه إلى حالة الهدوء إلى تسود المخيمات الفلسطينية، على الأقل لغاية الآن. في حين أن المشهد الكبير للاحتجاجات يعم المدن والمناطق التي وإن وجد فيها فلسطينيون فهم خارج دائرة الاستهداف ولا يتم ذكرهم لا في الإعلام الرسمي السوري ولا حتى من خلال تنسيقيات الثورة السورية.

يتتبع هذا التحقيق، سيرة ثلاثة فلسطينيين يقيم كل واحد منهم في مكان مختلف من سوريا. وحرصا على سلامتهم الشخصية وسلامة عائلاتهم، سيشار لهم بأسمائهم الأولى فقط بناء على طلبهم، كما أنهم أجابوا جميعهم عبر البريد الإلكتروني خوفا من تتبع الهاتف، فالخوف على الحياة في بلد مثل سوريا وفي حالة البطش التي يعيشها هؤلاء كما باقي المواطنين أصبح هستيريا، رغم زواله على المستوى المحلي. وهم يكشفون، من خلال متابعتهم للأحداث التي يعيشونها يوما بيوم، الواقع الذي آل إليه حال المخيمات الفلسطينية وبعض المقيمين في مناطق خارج هذه المخيمات.

تذكر بسمة الأستاذة الجامعية بأن عناصر الأمن والشبيحة بدأوا منذ اليوم الأول، إضافة إلى عناصر من القيادة العامة - أحمد جبريل بالوجود الكثيف داخل مخيم اليرموك، فكان مكان الوجود الكثيف لهم في وسط شارع فلسطين قرب سينما النجوم ومخفر الشرطة الوحيد في المنطقة، وكانوا يتوزعون في الأحياء والطرقات الداخلية للمخيم ليلا ونهارا بأسلحتهم الكاملة، وهم «لا يزالون لغاية اليوم على هذا الحال «في حين كانت عدة عربات مدرعة توجد على أطراف المخيم من كافة الجهات، خصوصا، كما تضيف بسمة على المدخل الرئيسي للمخيم قرب مسجد البشير، الذي يحاصر بالأمن كل الأيام خاصة يوم الجمعة.

تذكر بسمة أن «الخروج من المخيم إلى العمل والعودة إليه أصبح منذ بداية الأزمة أمرا شاقا «فرجال الأمن وكذلك الشبيحة «لا يحترمون أحدا لا الكبير ولا الصغير ولا يميزون بين النساء والرجال والشبان «ومنذ البداية كنت، كما غيري نخضع لتفتيش دقيق عند الخروج والدخول عدا عن الكلام القاسي والجارح الذي يسمعوننا إياه وكأننا نحن من يريد تغيير النظام. وبغض النظر عن موقفنا منه بشكل مباشر أو غير مباشر بات الفلسطينيون اليوم مدركين لعداء هذا النظام لهم واستعماله للقضية الفلسطينية كشماعة لتغطية أعماله سواء داخل سوريا أم خارجها». وبات الناس بحسب بسمة يسترجعون تفاصيل العلاقة بين النظام السوري، خاصة في عهد حافظ الأسد الذي «امتلأت سجونه بخيرة شباب منظمة التحرير وقادتها لسنوات عديدة» هذا على الرغم من «عدم تدخل الفلسطينيين لغاية اليوم بشكل مباشر في الاحتجاجات التي تجري في غير مكان من سوريا».

تتمنى بسمة التي اعتقلت فيما مضى لعدة أشهر في أحد فروع المخابرات السورية. أن تتخلص سوريا من هذا النظام الذي «لن يتورع عن ارتكاب مجازر بحق السوريين والفلسطينيين في المقبل من الأيام، فهو برأيها «لا يزال قادرا على فعل أشياء خطيرة إن لم يتم التحرك سريعا لوقف حمام الدم المستمر في النزيف».

لا يقتصر الأمر فقط على بسمة التي تعيش في مخيم اليرموك مع عائلتها وأولادها. ففي الناحية الأخرى من دمشق حيث يعيش رامي في منطقة جوبر منذ مجيء عائلته من فلسطين قبل ستة عقود. الأمور ليست بخير، خاصة مع الفلسطينيين. الشاب الذي يعمل في التمثيل المسرحي، وينشط كما عدد كبير من زملائه في حراك المثقفين السوريين وبعضهم فلسطيني، يقول إن «آلة القتل (التي تنتهجها الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد) ليست هي وحدها العنصر الهام في قمع الاحتجاجات إذ إن للشبيحة دورا بارزا وجلهم من المخابرات بفروعها المتعددة وليسوا فقط كما يقال موالين للنظام». لكن في جوبر وزملكا المجاورة يقول رامي إن الأمور في البداية لم تأخذ طابعا تصعيديا كما في باقي المناطق «كان الوضع هادئا جدا لكن التصعيد بدأ حين بدأت أعداد من الشبيحة بالوجود يوميا عند موقف حمامة وهو قلب المنطقة الأساسي وفيه عدد كبير من المحلات والمطاعم التي يتجمع الشباب فيها. وقتها بدأت أعمال الاستفزاز والأسئلة عن بطاقات الهوية إلى الإهانات وغيرها فهؤلاء ليسوا أبناء المنطقة لا يعرفونها ولا يعرفون سكانها»، ولذلك بحسب رامي بدأت الاحتجاجات هناك، لكن مع ذلك «كان السكان في جوبر وزملكا، خاصة الشباب، يسمعون ما يحصل في مدن أخرى مثل درعا واللاذقية وحماه، ويتحمسون من أجل التظاهر دون أن يرتكبوا أي رد فعل إلا بعد أعمال التضييق التي قام بها الشبيحة». أما الفلسطينيون ورامي أحدهم يقول عنهم «نحن هنا منذ ستين عاما نحن من سكان المنطقة ولم أشعر بأي فارق طوال وجودي هنا، كما أن العائلات في المنطقة متصاهرة، وفي عائلتي أربعة أشخاص متزوجون من عائلات جوبر الأساسية، نحن من هذا المكان»، لكن المشكلة كما يضيف: «أنهم حين جاءوا بدأوا بعمليات الفرز وكانوا يعتقلون الفلسطينيين ويتركون الجوابرة في إشارة إلى تحميل الفلسطينيين وزر الاحتجاجات ولتقليب سكان المنطقة عليهم وهذا ما لم يحصل».

لم يسلم رامي من الاعتقال ليومين «كنت ذاهبا إلى بيتنا ليلا بالقرب من موقف حمامة فأوقفني ثلاثة شبيحة وسألوني عن أوراقي وبعد رؤيتهم لها صفعني أحدهم على وجهي وجروني إلى السيارة ومنها إلى مخفر جوبر، هناك عرفني الضابط المناوب وأوقف ضربهم لي ووضعوني في السجن الذي كان يمتلئ بالشباب وكلهم أبناء المنطقة وأعرفهم شخصيا بالاسم ثم بعد يومين عرف أهلي وجاءوا لأخذي بعدما دفعوا رشوة للضابط المناوب نفسه الذي أخرجني كما قال على مسؤوليته».

يقول رامي إنه منذ خرج من الاعتقال لم يذهب إلى جوبر «خرجت ولم أذهب إلى البيت بل قلت لوالدي إنني سأكون بخير عند أحد أصدقائي ومنذ ذلك الوقت وأنا موجود عنده أتابع ما يجري في المنطقة من بعيد لكن الأمور غير مطمئنة خاصة أيام الجمعة والسبت حيث تحاصر المساجد، لكني كفلسطيني - يضيف رامي - جزء من هذا الحراك الشعبي الذي يسعى لنيل حريته والانعتاق من الظلم، فما جربناه كشعب منذ سنوات طويلة نعيش اليوم تجربته المضادة وهي تجربة عظيمة بكل المقاييس الكلام عنها لا يمكنه مهما كان دقيقا أن يصل إلى حقيقتها الفعلية».

لم أصل إلى حسين - وهو من سكان مخيم الرمل أو حي الرمل كما يطلق عليه باللاذقية - بسهولة، فهو يعيش في دمشق منذ سنوات ويتردد بين الحين والآخر على بيت عائلته في المخيم. وعبر بسمة التي تدرس له في الجامعة وصلت. لكنه تكلم بصعوبة وبعد أن أخذ وعدا مني بعدم الإشارة إلى عائلته. حسين الذي يدرس ويعمل في العاصمة، وقد فقد بعد اجتياح المخيم ثلاثة أشخاص من عائلته، ولا يزال غير قادر على الاتصال ببعضهم باستثناء والدته ووالده اللذين خرجا من المخيم وسكنا في بيت أخته الكبيرة داخل المدينة.

ترتبك إجابات هذا الشاب، فهو غير قادر على تحديد ما حدث لوجوده خارج المكان، لكن الحرقة تختبئ بين ثنايا كلامه عن ابن أخيه الذي قتله الشبيحة وابني عمه اللذين قتلا كما يروي على مدخل المخيم.

يقول حسين إن ابن أخيه لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره «هو لا يزال صغيرا جدا، نعم ربما خرج مع من خرج من الشباب والأولاد لكنه لا يشكل بأي حال من الأحوال أي خطر على النظام، هو طفل صغير جدا». أما عن ابني عمه فهما بحسب ما قال «واحد يعمل ميكانيكي سيارات والآخر صياد سمك ولا يوجد لهما أي نشاط سياسي ولا ينتميان لأي فصيل فلسطيني، فعمي – يضيف - لا يحب السياسة وربى أولاده على ذلك لكي لا يخسرهم، لكنه مع ذلك خسرهم حتى لو عن طريق الخطأ». يضيف حسين: «لا يوجد في المخيم وجود سياسي ولا حتى أسلحة كثيرة، الناس هنا، يعملون بغالبيتهم في الصيد وبعض المهن البسيطة في المدينة والمخيم أساسا ليس مخيما رسميا مع ذلك فالأونروا موجودة فيه رغم احتسابه على اللاذقية فنحن جزء من المدينة ويمكن اعتبارنا الحي الفلسطيني فيها كما يوجد أحياء فيها العلويون وأحياء المسيحيون وأحياء السنة.. اليوم المدينة كما تصلني الأصداء قسمت بالفعل بسبب ما حصل فأحياء فيها ثورة واحتجاجات وأحياء أصبح سكانها هم الشبيحة الذين يعاونون الفرقة الرابعة على قمع باقي الأحياء».

يروي حسين جزءا من سيرة الفلسطيني في اللاذقية وكذلك في سوريا، فهو رغم أنه لم يذهب إلى الخدمة الإلزامية في جيش التحرير الفلسطيني - فرع سوريا، فإنه على ما يقول قد درس في المدارس الحكومية حيث تعلم مبادئ البعث الإلزامية.. «علمونا على أهمية فلسطين وكنت كفلسطيني أشعر بالفخر بسبب ذلك، لكني اليوم مصدوم جدا مما حصل في المخيم، فأنا أعرف كل الناس فيه وجميعهم ليسوا عدائيين تجاه أحد إنهم لاجئون سكنوا هنا منذ زمن بعيد ويعتبرون أنفسهم جزءا من الحياة ومن الشعب»، ويكمل رغم خسارته العائلية: «طوال دراستي في المدينة لم أشعر يوما بأني غريب عنها وعن أهلها لكن اليوم المسألة أصبحت كارثية، المخيم لم يعد هو هو والناس لن يصفحوا عما حدث، أنا لن أصفح عما حدث لعائلتي».

لا تختلف، سيرة معظم الفلسطينيين في سوريا عن سيرة هذا الثلاثي، فهي إن لم تتشابه في الوقائع، فإنها تتشابه في الأسباب، تلك الأسباب التي دفعت وتدفع النظام السوري، إلى إغراق الفلسطينيين في مستنقعه، كنوع من ترحيل المشكلة واعتبارها حادثا لا ينتمي لسوريا ولا للشعب السوري. وهي محاولة مكشوفة للعالم، على الأقل بسبب التطورات الكبيرة التي حصلت طوال فترة الاحتجاجات التي عمت مدنا سورية لم يكن يتوقع أن تشهد مثل هذه الاحتجاجات.

لكن، مع ذلك، فالفلسطيني صاحب سيرة مختلفة، حيث النظام الذي يرفع فلسطين فوق الأكتاف كقضية العرب الأولى يجعل من الفلسطيني هدفه السهل، لكن المرمى هذه المرة اتسع ليشمل كل سوريا وليس فقط بضعة مخيمات.