رئيس حكومة الثوار

جبريل اعتذر عن عدم قبول جائزة القذافي في 2010 واتفق عليه الجميع بعد الثورة

محمود جبريل إبراهيم (إ.ب.أ)
TT

بعد ساعات فقط من هروب العقيد معمر القذافي من معقله الحصين في ثكنة باب العزيزية بعد أن دخل الثوار العاصمة الليبية طرابلس، كان الدكتور محمود جبريل، رئيس المكتب التنفيذي التابع للمجلس الوطني الانتقالي المناهض للقذافي يدخل مترجلا تلاحقه العيون وعدسات الكاميرات وأصوات التصفيق إلى قاعة الاجتماعات الكبرى بمقر الجامعة العربية معلنا عودة ليبيا إلى الجامعة العربية التي علقت عضويتها احتجاجا على ممارسات القذافي ضد شعبه الأعزل منذ شهر فبراير (شباط) الماضي.

كان المشهد معبرا عن حالة وطن وتصحيحا لأوضاع مقلوبة، لكنه كان بالأساس تجسيدا لمرحلة جديدة في تاريخ ليبيا أسهم جبريل في صنعه وتأكيده.

عندما استتب الأمر للثوار المناهضين لنظام حكم القذافي وأحكموا سيطرتهم على بنغازي العصية دوما على الطغاة ومنبع الثورات والانتفاضات، جرى التفكير في إنشاء مجلس انتقالي يتولى تسيير الأمور في المناطق المحررة إلى حين إسقاط نظام القذافي عسكريا وسياسيا، وقتها تلفت الجميع يمنة ويسارا بحثا عن هذا الشخص الذي يمكن أن يشغل منصب رئيس المكتب التنفيذي التابع للمجلس، والذي سيكون لاحقا بمثابة رئيس حكومة الثورة الجديدة.

من المدهش أنه كان ثمة إجماع واضح على اختيار محمود جبريل إبراهيم المولود عام 1952 كرئيس للحكومة الانتقالية، فخلافا لمعظم أعضاء المجلس الوطني الذي يمثل مختلف عموم مناطق وقبائل ليبيا، لم يكن جبريل يوما من المعارضين البارزين لنظام القذافي، ولم يشتهر بمواقفه الحادة من النظام، بل كان حتى تاريخ تعيينه في الثالث والعشرين من شهر مارس (آذار) الماضي أحد المقربين من المهندس سيف الإسلام النجل الثاني للقذافي.

شغل جبريل في السابق عدة مناصب وضعته في صدارة أبرز المسؤولين التكنوقراط في ليبيا، حيث عمل كأمين مجلس التخطيط الوطني السابق في ليبيا ومدير مجلس التطوير الاقتصادي سابقا، بالإضافة لكونه أمين عام جمعية الأفق القادم (جمعية للمستقبليين العرب).

عندما اقترب منه سيف الإسلام القذافي كان الرهان أن مشروع ليبيا الغد يمكن أن يضم كفاءات وطنية من مختلف الاتجاهات لكي تصيغ خارطة ليبيا السياسية والاقتصادية من جديد وفقا لشعارات الإصلاح والتغيير التي لطالما تباهى بها وتبناها نجل القذافي.

وفى بلد لم يعرف مواطنوه سوى القذافي رئيسا وحاكما حتى من دون منصب رسمي متخفيا وراء لقبه الأثير والمفضل «الأخ قائد الثورة»، كان من الصعب إيجاد شخصيات تتمتع بحس وطني وترفض التماهي مع نظام الحكم أو الخنوع له أو التسليم بمبادئه وآيديولوجياته.

كان جبريل من هذه النوعية التي يمكنك أن توظف خبراتها لكن من دون أن تضمن ولاءها، وفى نظام لا يعترف سوى بالموالين والمطبلين وحملة المباخر، كان من الطبيعي أيضا أن يضطر الرجل بنفسه إلى الخروج في أي لحظة بعدما اكتشف أن طموحات «ليبيا الغد» تتكسر على صخرة القذافي العنيد والعتيد الذي يرفض أي تغيير أو إصلاح ويعتقد في المقابل أن نظريته السياسية التي ضمنها كتابه الأخضر هي الحل الأمثل والنهائي ليس فقط لكل مشكلات ليبيا وإنما أيضا لكل مشكلات العالم.

يقول دبلوماسي غربي لـ«الشرق الأوسط»: «لو أنصف القذافي لأتى بجبريل رئيسا للحكومة الليبية قبل سنوات، بالتأكيد لتغير الحال، لكن لم يكن هناك من ضمانات لأن يقبل جبريل أن يكون جزءا من نظام لم يعد لديه ما يؤهله للبقاء».

لكن الرجل كان جزءا من حلقة المحسوبين على سيف الإسلام رجل الإصلاح والتغيير الذي اكتشف جبريل ومعه ستة ملايين ليبي آخرين أنه فقط رجل الكلام المعسول والتصريحات الإعلامية الطنانة بلا جدوى.

كانت للمجالس الذي انطلق للمرة الأولى يوم 22 – 5 - 2007، أجندة ضخمة ومبشرة باعتباره قاطرة للنمو السريع من أجل ليبيا الغد لخلق وتطوير مؤسسات وطنية فعالة ذات أداء متميز لتمكين المواطنين الليبيين والشباب على الأخص من المساهمة في تنمية مستدامة.

وهدف المجلس إلى تحقيق هذه الغايات من خلال اقتراح سبل تطوير وتعديل السياسات التنموية والرفع من درجة فاعليتها، وتصحيح مسارات وأساليب التنفيذ، والعمل على ضمان مشاركة كل الأفراد في عمليات التنمية. كل هذا عبر وسائل علمية وعملية تتوخى المصداقية في طرح القضايا والعمل وتقديم النتائج، وتوافق المقترحات مع المعطيات والظروف المحلية.

كما هدف إلى استشراف التأثيرات والتبعات للسياسات التنموية المختلفة واقتراح السياسات والتشريعات التي من شأنها تجسير هوة الثقة بين القطاع العام والقطاع الخاص الوطني، واقتراح السياسات والتشريعات والسبل التي من شأنها تشجيع وتحفيز قيام شراكة فاعلة بين القطاعين العام والخاص.

لكن هذه الأحلام البراقة كانت سرابا لا طائل من ورائها، فلا القذافي كان جادا في التطوير ولا ابنه سيف كان قادرا على فرض أجندة التغيير في مواجهة رجال الحرس القديم وكتيبة أصحاب المصالح من حركة اللجان الثورية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي رأت في مشاريع القذافي الابن ما يضر بمصالحها ويهز عرش القذافي الأب، قبل أن يكتشف الجميع لاحقا أنهم شاهدوا للتو فيلما سينمائيا من نوعية أفلام المقاولات سيئة السمعة التي أنتجتها السينما المصرية في مرحلة سابقة.

ولأن نوعية الرجال من أمثال جبريل لم تكن مطلوبة في ظل نظام الزعيم الأوحد وملك الملوك والقائد العظيم، كان طبيعيا أن يتعرض الرجل لحملات تشويه تستهدف ليس فقط التشهير به ولكن أيضا تحطيم صورته لدى العامة والطعن في نزاهته.

لكن جبريل لم يعتد الهروب من المواجهات فقد خرج ليفند بكل بساطة أن ما يشاع عن مؤسسته «جتريك» تستحوذ على كل الاستشارات بالمشاريع التي ينفذها المجلس.

قال يومها إنه في اللحظة التي أقسم فيها اليمين استقال من هذه المؤسسة التي لم تتعاقد على مشروع واحد منذ أن كلف بهذا الأمر.

وكشف النقاب عن أنه عمل من دون مرتب ولم يأخذ على حد قوله مليما من مجلس التخطيط الوطني، أو مجلس التطوير الاقتصادي..

ما أدهش الليبيين أن جبريل انتهز الفرصة ليقول بشكل واضح إنه يتمنى أن يفعل المواطنون الأمر نفسه مع بقية المسؤولين الحكوميين، ودعا إلى تعميق وترسيخ هذا المفهوم كتقليد.

بالطبع كلامه وتصريحاته لم تعجب أصحاب الثورات داخل خيمة القذافي ولا القطط السمان أو مراكز القوى التي تمترست بفعل ممارسات نظام لا مجال فيه للمحاسبة ولا مكان فيه لسؤال المسؤول من أين لك هذا؟

تقدم جبريل بأكثر من طلب رسمي إلى رئيس الحكومة الليبية الدكتور البغدادي المحمودي لإعفائه من منصبه بعدما بات جليا أن «صاحب الخيمة» سعيد بوضعها ووضع رجاله وبلاده.

عندما أدرك أن سفينة الإصلاح في ليبيا لن تكون سفينة نوح المنشودة وأن التغيير الذي يبشر به نجل العقيد سيبقى دوما في منطقة التبشير ولن يتخطاها إلى منطقة التنفيذ، قرر جبريل ومن طرف واحد إنهاء علاقته الوظيفية والمهنية مع نظام القذافي بأسره واتخذ قرارا لم يندم عليه لاحقا بالرحيل.

كان القرار أكثر من طبيعي، ذلك أن النظام الليبي دجن من حوله نخبة من المثقفين وصغار الساسة تدين له بالولاء لكنها لا تتمتع بأي كفاءات مهنية معتبرة إلا فيما ندر.

من هذه الزاوية كان الطلاق إذن حتميا، يقول مسؤول مقرب من نجل القذافي لـ«الشرق الأوسط» كان جبريل رجلا مختلفا للغاية، كان دقيقا في مواعيده، مباشرا وصريحا، معنيا بالتفاصيل دون أن يغرق فيها، لم تكن تستهويه الحكومة ولا ذهب المعز كما كان لا يخشى سطوة النظام وسيفه الخشبي.

وكما روى جبريل ذات مرة في لقاء تلفزيوني فإن علاقته بسيف الإسلام نجل القذافي كانت جيدة وطبيعية إلى حد كبير يسودها الاحترام والتقدير من جانب نجل القذافي لمكانة جبريل العلمية ووضعه الوظيفي والمهني.

ولأن جبريل وجه مخالف لطبيعة النخبة السياسية المتحلقة حول نظام القذافي، كان بديهيا أن الافتراق بات ليس فقط أمرا ضروريا، بل لا مفر منه في ضوء تباين الرؤى والأفكار.

لم يكن القذافي جادا في منح ابنه سيف الإسلام أي قدرة مطلقا على الإصلاح والتغيير، كانت بالأحرى ثنائية الأب والابن هي جزء من لعبة سياسية أتقنها الثنائي وعلى مدى سنوات بهرا العالم بألاعيب حواة سرعان ما اكتشف الجميع ومع اندلاع ثورة السابع عشر من شهر فبراير الماضي لمطالبة القذافي بالتخلي عن السلطة التي يقودها منذ نحو 42 عاما، أنها ألعاب بلا جدوى وفقط للاستهلاك المحلى ولشغل عقول الناس من دون أن تمس حياتهم اليومية ومستقبلهم ومصالحهم.

قبل اندلاع موجة الغضب التي قضت مضاجع نظام القذافي وأنهته بعد ستة شهور فقط سقط فيها نحو عشرين ألف شهيد وجرح مائة ألف شخص بينما فقد ما لا يقل عن 70 ألف شخص في فاتورة هي الأبهظ والأكثر كلفة من بين ثورات الربيع العربي حتى الآن، كان جبريل وجها معروفا لجميع الليبيين ليس باعتباره ابنا لنظام القذافي أو أحد رجالاته لكن باعتباره شخصية وطنية محترمة لها باع طويل في مجال التخطيط الاستراتيجي.

عرف الجميع جبريل كخبير محنك في مجاله بعدما حصل على البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة عام 1975، كما نال درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة بيتسبرج بولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة عام 1980، وعلى الدكتوراه في التخطيط الاستراتيجي وصناعة القرار من نفس الجامعة عام 1984، حيث عمل فيها أستاذا للتخطيط الاستراتيجي عدة سنوات.

كان الرجل يدرك أن قيمة العمل الوطني لا تكمن في الارتباط بنظام ما بقدر الولاء للدولة وللشعب، لذا لم يكن تقدير الليبيين له ينبع من فراغ، فللرجل سيرة ذاتية معتبرة بعدما أصدر عشرة كتب في التخطيط الاستراتيجي وصناعة القرار، وقاد الفريق العربي الذي صمم وأعد دليل التدريب العربي الموحد، كما قام بتنظيم وإدارة أول وثاني مؤتمر للتدريب في العالم العربي عام 1987 و1988، قبل أن يتولى بعد ذلك تنظيم وإدارة الكثير من برامج التدريب لقيادات الإدارة العليا في كثير من الدول العربية منها مصر والسعودية وليبيا والإمارات العربية والكويت والأردن والبحرين والمغرب وتونس وتركيا وبريطانيا، وهو متزوج من ابنة شعراوي جمعة وزير داخلية مصر الأسبق وله منها ابنتان.

لذا كان بديهيا عندما يبحث الثوار عن رجل يتولى قيادة سفينة الحكومة الانتقالية إلى مرحلة ما بعد القذافي أن يكون جبريل هو رجل المرحلة وعنوانها الرئيسي، فهو واحد من أبرز المسؤولين التكنوقراط في ليبيا ويدرك جيدا ما تحتاجه البلاد في هذه المرحلة العصيبة والخطيرة من تاريخها السياسي المعاصر.

أدرك جبريل مبكرا أن من يضع يده في يد نظام القذافي لن ينجو مطلقا وسيسقط من التاريخ والجغرافيا، بيد أن ما فعله نهاية شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2010 لم يكن مسبوقا على الإطلاق، عندما اعتذر عن قبول جائزة الفاتح التقديرية، عن مجال الدراسات الأكاديمية بالنظر إلى دراساته الاستراتيجية والاقتصادية، في وقت كان فيه بعض أنصاف المتعلمين والمثقفين والمؤهلين يسعون لنيل الجائزة والتباهي بها على اعتبار أنها عنوان رضا النظام وإقراره بمكانة هذه الشخصية، حتى وإن كانت لا تستحق.

فوجئ القائمون على الجائزة وقتها برسالة من جبريل حملت مع اعتذاره «لأسباب شخصية» عن قبول هذه الجائزة، تقديره واحترامه للجنة واختيارها له، وزملائه المكرمين، لاحقا سيقول جبريل في حديث صحافي «رؤيتي لذاتي تقول إنني لا أستحقها».

وبينما تخطو ليبيا الجديدة من دون القذافي هذه المرة أولى خطواتها الواثقة نحو الغد، فإن جبريل يعتبر أن مهمته لن تدوم وأنها مرهونة فقط بالشهور الستة عشر التي تم الاتفاق عليها كمرحلة انتقالية.

عندما التقيته قبل أيام في حجرة الفندق الذي أقام فيه خلال زيارته الأخيرة للقاهرة، كان عقل الرجل يموج بالكثير من الأفكار والرؤى بحثا عن إجابات مشروعة لأسئلة مصيرية في تاريخ ومستقبل الشعب الليبي.

يستعد جبريل كما أبلغني للانتقال في وقت قريب إلى العاصمة الليبية طرابلس برفقة المستشار مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الوطني الانتقالي، لإعلان تشكيل أول حكومة جديدة في مرحلة ما بعد القذافي، والتي ستضم للمرة الأولى وجوها شابة ونسائية.

لدى جبريل إجابة عن كل سؤال بما في ذلك مستقبله السياسي، فهو يعتزم العودة إلى مكتبه وعمله الخاص ومنزله لكي يتفرغ للكتابة متى توافر له العمر والصحة، مؤكدا أنه ليس بطامع في أي منصب سياسي آخر.

وإذا كان البعض يرى في الرجل ملامح الرئيس الجديد للبلاد، فإن الجميع يتناسى أن كل أعضاء المكتب التنفيذي والمجلس الانتقالي قد أقروا رسميا بعدم مشاركتهم في أي نشاط سياسي أو الترشح لأي مناصب رسمية سواء في الانتخابات التشريعية أو الرئاسية المقبلة بعد إتمام عملية سقوط نظام القذافي والخلاص منه نهائيا.

بإمكانك أن تلاحظ أن الرجل الدؤوب والنشط يخفى خلف صوته الخفيض الواضح وجها آخر لسياسي ومسؤول يعرف جيدا طريقه إلى القمة من دون أن يفقد صلته بالأرض أو تنتابه أعراض الزعامة وأمراض الوجاهة المصطنعة، فقد حرص الرجل على مرافقتي إلى باب الغرفة بعد انتهاء اللقاء في أدب جم معهود به.

الشهور الستة التي مرت مؤخرا على ليبيا رفعت عمر الرجل ستين عاما ووضعته فجأة في نادي من تفوق أعمارهم المائة عام بكثير، بيد أنه مع ذلك ما زال قادرا على الإمساك بدفة السفينة ومن دون أن يفقد ابتسامته التي تشي بكثير من الوقار والثقة بالنفس والخوف أيضا من المستقبل.

سيدخل جبريل تاريخ ليبيا من أوسع أبوابه ليس فقط باعتباره أول رئيس حكومة بعد ثورة 17 فبراير الماضي لكن أيضا باعتباره الرجل الذي أجمع عليه الجميع سواء قبل سقوط نظام القذافي أو بعده.

وهنا تحديدا تكمن خطورة وحساسية الوضع الذي يعيشه جبريل، فإما نجاح لا بد منه في مهمة تبدو مستحيلة أو نهاية سياسي عركته الأيام والمحن وأهلته لتلك المرحلة الخطيرة.

في كل الأحوال سيظل جبريل اسما محفورا في ذاكرة الليبيين والعرب والعالم كنموذج حي ومبهر للشعر الذي طالما ردده الليبيون الثائرون في مواجهة القذافي: «قولوا لمعمر وولاده، ليبيا فيها رجالة».