أعاصير أميركا

الناس يخشونها والسياسيون يستغلونها لزيادة شعبيتهم

TT

لم يحدث من قبل أن ظهر رئيس الولايات المتحدة على شاشات التلفزيونات ليعلن للشعب الأميركي أن العاصفة القادمة «ستكون تاريخية»، وحذرهم منها. رغم أن العاصفة اقتصرت على عدد قليل من الولايات، ورغم أن أميركا تشهد كل سنة عشرات العواصف. لكن، في جو المشاحنات السياسية الأميركية الساخنة الحالية، صار السياسيون يستغلون كل شيء لزيادة أسهمهم، وفعلوا ذلك مع «آيرين».

عاصفة أم إعصار؟

ما الفرق بين العاصفة والإعصار؟

تهبّ العاصفة، ويتلوى الإعصار.

وهناك إعصار رملي، وإعصار جليدي، وإعصار مداري دافئ يحمل أمطارا غزيرة، رعدية وبرقية، وتصحبه عاصفة هوجاء. ويحمل المطري ماء المحيطات التي تبخرت بسبب حرارة الجو إلى مناطق أقل حرارة.

وكلمة «إعصار» ربما ترجمة غير دقيقة لكلمة «سايكلون» (عاصفة دورانية لأنها تسير في اتجاه دائري، ولأنها تدور حول نفسها). وتختلف أسماء الإعصار:

أولا: هو «هيوريكين» في السواحل الأميركية (أصل الكلمة إسباني، يقال إن كريستوفر كولومبس سمى به الأعاصير التي واجهته، ولم يكن متعودا عليها في أوروبا).

ثانيا: هو «مونسون» في جنوب آسيا (أصل الكلمة إما من المكتشفين الهولنديين «مونسن»، أو المكتشفين العرب «موسم» لأنها موسمية).

ثالثا: هو «زيفر» في غرب أوروبا (أصل الكلمة «زيفروس»، إله الرياح القادمة من الغرب عند الرومان)، وإن كان ليس إعصارا عاتيا.

رابعا: هو «تايفون» في شرق آسيا (أصل الكلمة عربي أو أردي أو فارسي، ويعتقد أنها من كلمة «طوفان»).

قوة الإعصار ما القوة التي تسبب الإعصار؟

عندما يتبخر ماء المحيط بكميات كبيرة، ويتكثف في سحب عملاقة، يخلق طاقة ترتفع ثم تعود إلى سطح المحيط في شكل دائري، وتحمل مزيدا من التبخر والتكثف إلى أعلى، ثم تدور دورة أخرى، وهكذا.

ويجب عدم التقليل من هذه الطاقة. وحسب أرقام وكالة الطقس الاتحادية، ينتج الإعصار المتوسط طاقة تساوي سبعين مرة استهلاك كل شعوب العالم من الطاقة في يوم واحد. أو تساوي مائتي مرة طاقة الإنتاج الكهربائي في كل العالم في يوم واحد. أو تساوي طاقة عشر قنابل نووية تفجر خلال ساعة واحدة. ورغم أن لكل إعصار طاقة تجعله يتفاعل ويتحرك، فإن النظام العالمي لرياح طبقات الجو العليا هو الذي يحرك الإعصار. وعن هذا قال نيل فرانك، مدير سابق لمركز الإعصار الاتحادي: «رغم أن كل إعصار عملاق، فإنه في نطاق النظام الكوني للرياح عبارة عن ورقة من شجرة يحملها تيار ماء».

وبينما يسبب الإعصار المداري هطول أمطار غزيرة ورياحا قوية للغاية، أيضا يسبب ارتفاع الأمواج وفيضانات كاسحة، وأيضا يسبب «تورنادو» (عاصفة ترابية وسحابية حلزونية). يبدأ الإعصار في المناطق الدافئة، وتزيد قوته ما دام يزحف فوق ماء دافئة، لكنه يفقد قوته كلما زحف شمالا، بعيدا عن المدار، وكلما انتقلت من المحيط إلى اليابسة.

«آيرين» مثل «آيرين» في الأسبوع الماضي.

بدأ إعصار «آيرين» في الساحل الغربي لأفريقيا، كامتداد للعواصف الترابية التي تأتي من الصحراء الكبرى. لكن لا تقدر العاصفة الترابية على الزحف فوق المحيط لفترة طويلة، غير أن قوة دفعها تحولها إلى عاصفة مطرية ورعدية. وعندما زحف «آيرين» غربا نحو البحر الكاريبي، تشبع ببخار المحيط الدافئ. وعندما وصل إلى جزر البهاما بلغت سرعته مائة وخمسين ميلا، وسبب أضرارا كبيرة هناك (لكن شعوب البحر الكاريبي تعودت على الأعاصر، ولا حول لها ولا قوة). وعندما وصل «آيرين» إلى ساحل ولاية نورث كارولينا، وابتعد عن المناطق المدارية، قلت سرعته. وعندما وصل إلى ولاية نيويورك، وصلت سرعته إلى ثمانين ميلا في الساعة. وأعلنت وكالة الطقس الاتحادية الأميركية أنه تحول من إعصار إلى عاصفة مدارية. لهذا لم تحدث رياح «آيرين» خسائر كبيرة، لكن كان الإعصار تشبع بكميات هائلة من السحب المكثفة، ولهذا كانت الخسائر أكثر من الأمطار ومن فيضانات الأنهار، وخصوصا في الولايات إلى الشمال من نيويورك، مثل فيرمونت، ونيوهامبشير، وكونيتيكات.

«عين الإعصار» خلال تغطية التلفزيونات الأميركية للإعصار «آيرين»، ومن وقت لآخر، كان مذيع التلفزيون يقف في منتصف الإعصار وقد صار كل شيء هادئا فجأة، دون عواصف أو أمطار. هذه هي «عين الإعصار». لكل إعصار «عين» هي مركزه، وتخلو من السحب والأمطار، ويبلغ قطرها ميلا تقريبا. ومن الفضاء تشبه استاد كرة قدم، لهذا تسمى العين أحيانا «الاستاد»، غير أن أكثر الرياح سرعة هي التي قرب العين، وتقل سرعة الرياح في أطراف وهوامش الإعصار. ويقاس حجم العاصفة حسب المسافة من العين إلى الطرف. إذا كانت المسافة أقل من 150 ميلا (250 كيلومترا تقريبا)، تعتبر الأصغر والأضعف، ورقمها «واحد». وإذا كانت المسافة أكثر من 400 ميل (700 كيلومتر تقريبا)، تعتبر كبيرة، ويتراوح رقمها بين «أربعة» و«ثمانية».

ولا يوجد سر وراء كثرة الأعاصير في الصيف، وذلك بسبب الفرق الكبير في درجات الحرارة بين سطح المحيطات وطبقات الجو العليا. ولنفس السبب يشهد مايو (أيار) أقل الأعاصير، بينما يشهد سبتمبر (أيلول) أكثرها. ولنفس السبب يشهد المحيط الهادي أعاصير أكثر من المحيط الأطلسي. ولنفس السبب يشهد شرق الأول أعاصير أكثر من غربه، ويشهد غرب الثاني أعاصير أكثر من شرقه.

ولأن الإعصار المداري دافئ، والإعصار القطبي بارد، لا يقدر الأول على التقدم كثيرا في مناطق الثاني. في أميركا تحد الرياح الصيفية الباردة نسبيا من تقدم الأعاصير نحو ولايات الوسط، وتجعلها تميل نحو ولايات الشمال الشرقي وفي آسيا، تحد الرياح القادمة من الصين وسيبريا من تقدم أعاصير «تايفون» (الباسيفيكية)، وتجعها تميل نحو اليابان.

السيطرة على الإعصار في ستينات وسبعينات القرن الماضي حاول الأميركيون السيطرة على الأعاصير. وأشرفت إدارة الطقس الاتحادية على برنامج «ستورم فيوري» (غضب العاصفة)، وذلك باستعمال طائرات تطلق ذرات كيماوية تخفض حرارة السحب المكثفة إلى حد تجميدها، وعندما تتجمد تنهار ميكانيكية الطاقة التي تدفع الإعصار، وتنفقع عين الإعصار ويقل الخطر.

في سنة 1973 تعرض الإعصار «ديبي» إلى هذا العلاج، وهبطت درجة حرارته بنسبة ثلاثين في المائة. لكن عاد الإعصار أقوى مما كان.

وحدثت حالات مماثلة مع أعاصير أخرى، غير أن المحاولات توقفت بعد بدايتها بعشرين سنة، عندما تأكد للعلماء أن «عين الإعصار» تقدر على إعادة تكوين الجدار المحيط بها إذا هبطت درجة حرارته لسبب ما، وأن طاقة الإعصار (عشر قنابل نووية) أكبر من محاولة تقوم بها ثلاث أو أربع طائرات. وظهرت نظريات أخرى، بعضها خيالي، مثل:

أولا: نقل جبال من الجليد من القطب الشمالي أو الجنوبي إلى خط سير الإعصار لتبريد الماء.

ثانيا: تغطية سطح المحيط الذي سيمر به الإعصار بمادة تعرقل أو تمنع التبخر. (طبعا يمكن وضع غطاء بلاستيكي على حوض سباحة، لكن على كل البحر الكاريبي؟!).

ثالثا: نقل كميات كبيرة من الجليد وإسقاطها فوق «عين الإعصار». وطبعا يحتاج هذا إلى أسطول من الطائرات.

رابعا: تفجير قنابل نووية فوق الإعصار.

وكما قال نيل فرانك، مدير سابق لمركز الإعصار الاتحادي: «قوة الإعصار أكبر مما نتصور».

أكبر الأعاصير كان أكبر إعصار في العصر الحديث هو «بهولا»، في سنة 1970، في بنغلاديش، حيث قتل قرابة مليون شخص. وفي سنة 1975 قتل «نينا» أكثر من عشرة آلاف شخص في الصين. وفي سنة 1982 قتل «بول» أكثر من ألف شخص في أميركا الوسطى.

وبالنسبة للولايات المتحدة كان هناك «غالفستون» في سنة 1900 الذي ضرب مدينة غالفستون (ولاية تكساس). في ذلك الوقت كان الإعصار يسمى حسب المكان الذي دمره. لكن في وقت لاحق صار يسمي كل إعصار حسب دوره في الحروف الأبجدية. ويتجدد ذلك كل سنة.

في هذه السنة كان الأول هو «أرلين» ثم «برات» ثم «سندي» ثم «دونالد» ثم «إميلي» ثم «فرانكلين» ثم «غريت» ثم «هارفي» ثم «آيرين». والآن ظهر في الأفق «هوزي»، وظهر بعده «كاتيا».

في البداية كانت كل الأسماء تقريبا نسائية، قبل أن تحتج منظمات ليبرالية ونسائية، فصارت الأسماء النسائية والرجالية تتعاقب واحدا بعد الآخر. وكان دافع عن الأسماء النسائية مذيعون قالوا إنهم يحسون إحساسا خاصا عندما يتهمون الأسماء النسائية بالتدمير، لكن في عصر المساواة يبدو أن التدمير صار متساويا.

أكبر إعصار مدمر في تاريخ الولايات المتحدة الحديث كان في سنة 2005، عندما قتل «كاترينا» قرابة ألفي شخص، وأحدث خسائر بلغ حجمها مائة مليار دولار.

وفي سنة 2008 سجل «أندرو» المرتبة الثانية، وأحدث خسائر ثلاثين مليار دولار. («آيرين» في الأسبوع الماضي أحدث خسائر عشرة مليارات، ولا تزال التقديرات ترتفع بسبب الفيضانات التي سببها).

الأعاصير والسياسيون بالإضافة إلى أن «كاترينا» كان الأكبر، كان الأول الذي أثار مشكلات سياسية، وذلك عندما اتهم قادة الحزب الديمقراطي الرئيس السابق بوش الابن بأنه قصر.

ولأن صور الدمار كانت على شاشات التلفزيون صباحا ومساء، انخفضت شعبية بوش. واتهم ليس فقط بالإهمال، إنما بالعنصرية أيضا، وذلك لأن أغلبية الضحايا في مدينة نيواورليانز كانوا من السود الفقراء.

لهذا عندما اقترب «آيرين» وصار واضحا أنه سوف يكون مدمرا، ظهر الرئيس باراك أوباما على شاشات التلفزيون وهو يحذر المواطنين، ويقول إنه سوف يكون «إعصارا تاريخيا». ورغم أن الإعصار، حقيقة، أحدث أضرارا كثيرة، كان واضحا أن أوباما يريد استباق غيره بتصوير اهتمامه الكبير بالشعب الأميركي. رغم أن رؤساء الجمهورية عادة يجب أن لا يشتركوا في إثارة الخوف والذعر وسط الشعب.

وفي الحال هبّ مرشحو رئاسة الجمهورية من الحزب الجمهوري وفعلوا ما لم يفعل أوباما، زاروا الولايات التي تتوقع الإعصار، ثم زاروها بعد الإعصار. ولم ينسوا أن تلتقط التلفزيونات والفيديوهات صورهم وهم يواسون المتضررين، ويحملون الأطفال، ويقبلون كبيرات السن.

حكام الولايات واستغل الإعصار حكام الولايات التي مر بها. وكان من أكثر الذين ظهروا في التلفزيونات والفيديوهات، الجمهوريان بوب ماكدونيل، حاكم ولاية فرجينيا، وكريس كريستي، حاكم ولاية نيوجيرسي. والديمقراطيان أندرو كوومو، حاكم ولاية نيويورك، ومارتن أومالي، حاكم ولاية ماريلاند.

ولم تكن صدفة أن كل هؤلاء يتطلعون لرئاسة الجمهورية يوما ما. صحيح أن هؤلاء حكام ولايات وليسوا فقط مرشحين سياسيين، وواجبهم الأول هو حماية ولاياتهم. وفعلا، يبدو أنهم بذلوا كل ما في وسعهم للحد من الإصابات والفوضى.

وقال ناثان داتشلي، مسؤول سابق في اتحاد حكام الولايات: «عندما تكون حاكم ولاية يرتبط حظك السياسي بما تفعل لمواجهة الكوارث، لا بما تعد به الناخبين خلال حملتك الانتخابية». وأضاف: «خيرا أو شرا، تحدد قدرك كسياسي كارثة أو إعصار أو حرب. فرانكلين روزفلت، وجون كيندي، وجورج دبليو بوش، كلهم حددت الكوارث مصيرهم وسمعتهم. الكفاءة في أوقات الأزمات حاسمة جدا. إذا نجحت كسياسي في هذا الاختبار تدخل التاريخ، وإذا فشلت تكون ضيعت فرصتك».

وأيده فيل ماسار، مدير سابق لاتحاد حكام الولايات الجمهوريين، وقال: «بالنسبة للسياسي، وخصوصا حاكم ولاية، أو عمدة مدينة، لا يحل محل أي مبلغ من المال، أو أي فصاحة أو استراتيجية، أو أي مناورات أو مزايدات، محل إرضاء الناس وهم في حالة خوف وفزع».

ويبدو أن حكام الولايات التي تعرضت لإعصار «آيرين» يفهمون ذلك. فحاكم ولاية نيوجيرسي، كريس كريستي، كان الأكثر إثباتا لوجوده، خصوصا بعد حملة من النقاد في الشتاء الماضي بعد أن رفض قطع إجازته في «ديزني لاند»، في ولاية فلوريدا الدافئة، عندما غطت عاصفة ثلجية ولايته. لكن يبدو أنه بالغ أحيانا في الاهتمام بالإعصار «آيرين»، فظهر صباحا ومساء على شاشات التلفزيون وفي فيديوهات الإنترنت. وذهب إلى بلاج «جيرسي شور»، وانتقد الذين كانوا يلهون هناك لأنهم لم ينفذوا أوامره بالإجلاء قبل وصول الإعصار، ثم ذهب إلى بلاج «اسبري بارك»، وصاح في الناس: «بحق الجحيم اخرجوا من هنا».

أما مايك بلومبيرغ، عمدة نيويورك، فقد قال في مؤتمر صحافي: «الذين لم يسمعوا كلامي، ولم يجلوا من الجزء الجنوبي من نيويورك، عليهم أن يدفنوا أنفسهم عندما يقتلهم الإعصار، لأن البلدية لن تتحمل نفقات دفنهم».

وأخيرا...

هل يفعل هؤلاء السياسيون هذا إشفاقا على الناس فعلا؟ أم لتصوير أنهم يشفقون على الناس؟

يبدو أن كل السياسيين يعرفون هذه «اللعبة»، وذلك لأن توم كين، الحاكم السابق لولاية نيوجيرسي، قبل كريس كريستي، قال: «كرس يعرف جيدا أن الناس يحبون السياسي الذي يشفق عليهم» (أو يدّعي أنه يشفق عليهم).