أذن جنكينز والحروب الغريبة الأخرى

TT

لا تكاد أي نظرية أو توجه في العلاقات الدولية يخلو من محاولة التوصل إلى أسباب الحروب بين الدول، وهناك من النظريات المختلفة التي سعت لشرح الحرب ودوافعها من خلال دراسات متعمقة لحالات حروب مختلفة، وقد صبت أغلبية هذه النظريات في أن الدول تستخدم القوة في علاقاتها مع الدول لأسباب أربعة هي:

أولا: استخدامات القوة لأغراض دفاعية، أي عندما تقوم الدولة بنشر القوات بهدف التصدي لهجوم أو لخفض حجم الضرر الذي سيلحق بها في حالة هجوم متوقع على أراضيها أو مصالحها، وهنا ينقسم هذا إلى ما يسمى بـ«الضربات الاستباقية» Preemptive Strikes عندما تستخدم الدولة القوة لأنها تشعر بأنها ستتعرض لهجوم وشيك أو لكي تضيع الفرصة التكتيكية التي قد تكون للخصم، ويكون هذا الاستخدام تحت ضغط من الوقت (ساعات أو أيام قليلة). أما الاستخدام الثاني فيتمثل في الضربات المانعة Preventive Strikes والتي لا تكون محكومة بضغط الوقت ويكون هدفها القضاء على قدرات محددة للخصم على مدى زمني أبعد.

ثانيا: استخدام القوة بغرض الردع ويكون ذلك من خلال نشر الدفاعات للتأكيد على أن استخدام القوة سيواجه برد فعل أكبر وستكون عواقبه وخيمة لحث الدولة الخصم على عدم اتخاذ خطوة ما كانت لتتخذها لولا هذا الاستعراض للقوة. ويلاحظ هنا أن القوة لا تستخدم ولو استخدمت القوة يكون الردع قد فشل.

ثالثا: الاستخدام القهري للقوة بهدف تغيير موقف اتخذه الخصم أو لحثه على اتخاذ مواقف أخرى تصب في مصلحة الدولة، ويكون الاستخدام للقوة كاملا في هذه الحالة، أي اللجوء للحرب بنوعياتها المختلفة.

رابعا: الاستخدام الشكلي للقوة، ويكون غالبا لأهداف استعراضية أو لبناء هيبة للدولة مقابل الدول الأخرى، وهنا يمكن أن تستخدم القوة أو لا تستخدم وفقا للظروف، ولكنها في كل الظروف يتم الإعلان عنها.

إذا كانت هذه هي الخطوط العريضة لاستخدامات القوة في العلاقات الدولية، فإنها لم تتضمن بطبيعة الحال الأسباب غير المنطقية للحروب ونماذجها المتعددة في العلاقات بين الدول، ولعل من أطرف وأبرز الأمثلة على الاستخدام غير المنطقي للقوة هو «حرب أذن جنكينز War of Jenkins’ Ear»، وهي الحرب التي غالبا ما تفوت على المؤرخين ويسخر منها الساسة الإنجليز، فهي حرب بدأت في 1739 وانتهت في 1748، وتشير المصادر التاريخية إلى أن هذه الحرب بدأت عندما ألقت القوات الإسبانية القبض على قبطان السفينة الإنجليزية التجارية «ريبيكا» واسمه «الكابتن جنكينز» في 1731 وتعاملت معه بعجرفة شديدة وعنف، ويقال: إن القائد الإسباني بعد أن ضربه قام بقطع أذنه وقال له إن ملك إنجلترا سيلاقي نفس المعاملة لو سولت له نفسه الحضور لمنطقة الكاريبي للتجارة في ممتلكات إسبانيا، وبعد إطلاق سراحه احتفظ الكابتن جنكينز بأذنه المقطوعة في وعاء من الكحل وعاد لبلاده يشكو في طرقات الحكومة سوء المعاملة الإسبانية له، ولكن الساسة في لندن رفضوا سماع شكواه، ولم يلق أذنا صاغية في البرلمان لأذنه المقطوعة، ولكنه لم ييأس فظل محتفظا بأذنه لسنوات حتى استطاع أن يضمن لقاء في مجلس العموم البريطاني في 1738 فاستمع له البرلمانيون الذين هالهم منظر أذنه المقطوعة، فاستثار المنظر النخوة القومية الإنجليزية فتمت مخاطبة إسبانيا لتقديم الاعتذار وتعويض بريطانيا عن هذه الأضرار ولكن بلا أي مردود سياسي، فلجأ البرلمان للضغط على رئيس الوزراء «اللورد والبول» لإعلان الحرب على إسبانيا في 1739.

وإذا كانت الأسباب التي دفعت لهذه الحرب تدعو للاستغراب، فإن سير الحرب ذاتها كان أكثر غرابة، فلا تذكر المصادر العسكرية معارك جادة باستثناء هجوم على ميناء «بورتوبيلو» في «بنما»، إضافة إلى أن أغلبية الحملات البرية البريطانية على الأراضي الإسبانية فشلت بسبب المنازعات بين البحرية والجيش، ثم سرعان ما انتهت هذه الحرب في الكاريبي بسبب دخول إنجلترا كحليف للنمسا فيما عرف بـ«حروب الوراثة النمساوية»، فاستدعى ذلك الدخول في حروب ضد إسبانيا وفرنسا وبعض الدول الأخرى التي كانت تحارب النمسا لخلع الإمبراطورة «ماريا تيريزا» من العرش، ومن ثم كان من المنطقي أن يتحول مسرح العمليات من الكاريبي إلى القارة الأوروبية والبحر المتوسط. حقيقة الأمر أن هذه الحرب بدأت لأسباب تتعلق بالتجارة الدولية، فالعالم في ذلك الوقت كان يطبق النظرية الميركانتيلية Mercantilism في التجارة الدولية، أي أن كل دولة كانت تحظر تجارة أي دولة أخرى مع مستعمراتها، فكان التجار الإنجليز يرغبون في فتح الأراضي الإسبانية الشاسعة للتجارة معها، خاصة المستعمرات البريطانية في أميركا الشمالية، فكان هذا هو الدافع الأول لإعلان هذه الحرب الغريبة.

هذه لم تكن أغرب الحروب في العالم، فهناك نماذج أخرى لحروب لا تقل غرابة، مثل حرب كرة القدم الشهيرة بين السلفادور وهندوراس في وسط أميركا عام 1969 عندما أدت مباراة كرة قدم في إطار التأهل لمونديال 1970 بين الفريقين لحرب بين الدولتين، ولكن المباراة كانت السبب النهائي لهذه المشكلة، فالحقيقة الثابتة أن هندوراس كانت تستضيف أعدادا كبيرة من مواطني السلفادور، وهو ما أدى لاحتكاكات كثيرة ومتعددة بسبب سوء معاملة السلفادوريين ناهيك عن توترات ممتدة عبر الحدود لسنوات بينهما، وهو الأمر الذي تفجر في النهاية من خلال مباراة كرة القدم وأدى لتدخل منظمة الدول الأميركية لاحتواء الأمر وإقرار السلام بينهما.

ومن الحروب الغريبة أيضا ما تضمنته رائعة الكاتب اليوناني القديم «هومير» والمعروفة بـ«حروب طروادة» التي نشأت بسبب هروب زوجة أحد ملوك المقاطعات اليونانية مع ابن ملك طروادة، وهي الحرب الضروس التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الضحايا من أجل امرأة، ولكن حتى هذه الحرب رغم عدم ثبوتها تاريخيا حتى اليوم، فإن لها من الأسباب الاستراتيجية والسياسية التي دفعت دويلات يونانية لمحاولة القضاء على طروادة حيث كانوا يطمعون في ممالكها وموقعها الاستراتيجي الذي كان حائلا أمام طموحاتهم عبر الأزمنة.

ولا يفوتنا الحرب الأهلية الرومانية بين فريق القيصر أوكتافيوس وخصمه ماركوس أنطونيوس وتحالف الأخير مع كليوباترا ملكة مصر بسبب حبه الشديد لها ووقوعه في غرامها تماما مثل قائده السابق «يوليوس قيصر»، وكانت مشورة كليوباترا له بائسة في معركة «أكتيوم» لأنها فرضت عليه أن يحارب بحرا بينما كانت قوته معروفة بتفوقها البري، فكانت الهزيمة من نصيبهما فانتحرا، ولكن هذه الحرب لم تكن بسبب حب ماركوس أنطونيوس وولعه بكليوباترا، ولكنها كانت حربا أهلية لها أسبابها خارج نطاق الغرام والجنس، وقد علق أستاذ العلاقات الدولية الشهير «إيمانويل والرشتاين» على هذه الحرب باستفسار طريف مؤداه «أين كان التاريخ سيذهب لو أن منخار كليوباترا كان كبيرا أو قبيحا»، في إسقاط مباشر على حب يوليوس قيصر وماركوس أنطونيوس لكليوباترا وتأثيرها على الرجلين ومن خلالهما مسيرة التاريخ. إذا كانت الحكمة البوليسية الفرنسية تشير إلى «ضرورة التفتيش عن المرأة» لمعرفة سبب الجرائم فإن ظاهرة الحرب في العلاقات الدولية يجب أن تقترن بحكمة مماثلة وهي «ضرورة البحث عن المصلحة»، فالدول لا تدخل الحروب لفتنة قائد بامرأة أو لأذن قطعت أو حتى لمباراة كرة قدم خسرت، ولكن الدول تدخل الحروب تحقيقا لمصالح عليا أو طمعا في قوة إضافية أو هدفا استراتيجيا تحتاج له.

* كاتب مصري