إسرائيل وتركيا.. عندما يتخاصم حليفان

في تل أبيب ينظرون بشك كبير إلى أردوغان منذ اعتلائه سدة الحكم.. لكن المؤرخين الإسرائيليين كانوا يدحضون هذا الشك ويطالبون بتحجيمه

هل كانت تلك لحظة بداية الخصام؟.. أردوغان يغادر لقاء حواريا يجمعه بالرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريس في منتدى دافوس عام 2009، اعتراضا على تصريحات بيريس حول الحرب على غزة (أ.ف.ب)
TT

في إسرائيل يوجد كثيرون ممن يعتبرون أنفسهم أصدقاء لتركيا.. دبلوماسيون وسياسيون وعسكريون سابقون ورجال أعمال وأكاديميون وغيرهم.. أحدهم يعتبر نفسه صديقا لرئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، وهو داني جيلرمان، الذي لا يتردد في القول إنه يؤيد أن يصبح أردوغان «السلطان العثماني العصري، الذي يقود العالمين العربي والإسلامي». وجيلرمان ليس بمواطن عادي في إسرائيل. هو رجل أعمال كبير، صديق شخصي للرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريس، ومن «رجال المهام الخاصة» الذين يحملهم قادة الحكم رسائل سرية إلى مختلف أنحاء البسيطة.

ولكن أبرز وظيفة قام بها جيلرمان كانت في الأمم المتحدة، حيث عينه بيريس مندوبا دائما لإسرائيل لديها، وبقي في منصبه خمس سنوات (2003 - 2008). هو يروي أنه تعرف على أردوغان قبل عشر سنوات، أي قبل أن يصبح رئيسا للوزراء، وأنه التقى الرجل عدة مرات، في إحداها كان موضوع اللقاء الخلاف بينه وبين بيريس. ففي حينه، بعد الحرب العدوانية على قطاع غزة، التقى أردوغان وبيريس في ندوة سياسية في دافوس على هامش المؤتمر الاقتصادي العالمي. وعندما كان بيريس يتكلم عن «إرهاب حماس»، غادر أردوغان المسرح وهو يهاجمه ويهاجم السياسة الإسرائيلية العدوانية. تسبب الأمر في تدهور جديد في العلاقات بين البلدين. لكن جيلرمان تمكن من تسوية هذا الخلاف بالذات بين الرجلين وضمن أن يلتقيا في ما بعد ويتصافحا.

عندما ينظر جيلرمان اليوم إلى المشهد الإسرائيلي مع تركيا، ويرى كيف يتصرف قادة حكومته بتلك العنجهية والغرور والغطرسة، ويرفضون الإقدام على خطوة واحدة إيجابية تجاه تركيا، على الأقل لوقف مسيرة تدهور العلاقات بين البلدين، وكيف يتورطون من يوم لآخر في المساس بهذه العلاقات، يحزن ويستهجن: «كلمة واحدة في السياسة يمكن أن تكون مصيرية في علاقات بين بلدين. في بعض الأحيان، يمكن لهذه الكلمة أن تجر الدول إلى حروب»، يقول.

الكلمة التي يقصدها جيلرمان هي الاعتذار الإسرائيلي لتركيا عن مقتل تسعة مواطنين أتراك، كانوا على متن سفينة «مرمرة» ضمن أسطول الحرية الأول، عندما هاجمته قوات سلاح البحرية الإسرائيلية في شهر مايو (أيار) 2010. فتركيا تطلب من إسرائيل أن تعتذر عن هذه الجريمة وتدفع التعويضات لعائلات الضحايا حتى تعيد العلاقات معها إلى طبيعتها، بينما إسرائيل ترفض الاعتذار وتقول إنها مستعدة للإعراب عن الأسف فقط وأن تدفع التعويضات بشرط أن لا تكون هناك دعاوى قضائية ضدها.

على أثر هذا الموقف، ردت تركيا بتخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية إلى الدرجة الثالثة، بحيث أصبح الرجل الأول في السفارتين (التركية في تل أبيب والإسرائيلية في أنقرة) هو السكرتير الثالث. وتم وقف التعاون العسكري وصفقات بيع السلاح. وقالت تركيا إنها تنوي اتخاذ المزيد من الخطوات، بينها خطوات عسكرية مثل: زيادة وجود سفن سلاح البحرية التركي في البحر الأبيض المتوسط، ومرافقة سفن التضامن مع غزة بسفن حربية تركية، وشطب بند في حواسيب سلاح الجو التركي، يتعامل مع الطيران الإسرائيلي كطيران صديق، مما يعني أنه في حال أي خطأ من الطرفين ينشأ خطر إسقاط طائرة، وهكذا. ويتلبك الإسرائيليون كثيرا في هذا الوضع ويدور بينهم نقاش حاد حول كيفية تدهور العلاقات، وإذا ما كان سببه صراع الكرامات بين ديكين خصمين ركب كل منهما رأسه (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ونظيره التركي أردوغان)، أم هو مسلسل أخطاء إسرائيلي انجر إليه نتنياهو وراء وزير خارجيته المتغطرس الفظ أفيغدور ليبرمان، ولم يكن أمام أردوغان إلا أن يرد عليه؟ أم هو مسلسل خطوات مدروسة من أردوغان أراد فيها التدهور في العلاقات مع إسرائيل حتى يكسب العرب فانجر نتنياهو وراءه كالماعز وحقق له مراده؟ ويتساءلون أيضا، إن كانت القضية فعلا قضية خلافات بين البلدين أم إنها مجرد تكتيكات تخدم لكل طرف هدفا استراتيجيا؟

في إسرائيل ينظرون بشك كبير إلى أردوغان منذ اعتلائه الحكم للمرة الأولى في سنة 2003. لكن المؤرخين الإسرائيليين والمحللين السياسيين كانوا يدحضون هذا الشك ويطالبون بتحجيمه، باعتبار أن تركيا أقامت علاقات جيدة مع اليهود منذ زمن الإمبراطورية العثمانية؛ فهم يذكرون بالخير، كيف استقبل الأتراك اليهود الذين طردوا من الأندلس، جنبا إلى جنب مع العرب، فحموهم وفتحوا لهم باب العمل في الصناعات وفي التجارة وسلموهم مهام في الحكم، ثم يذكرون استمرار هذه المعاملة في العصر الحديث، عندما استقبل الأتراك بالأحضان اليهود الهاربين من التعسف الأوروبي، خصوصا مطاردات النازية لليهود ومحاولة إبادتهم.. فلم يرفضوا أي يهودي يلجأ إليهم.

ويذكرون أنه عندما قامت إسرائيل في أواسط سنة 1948، كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بها، وفي السنة التالية كانت أول دولة إسلامية تقيم علاقات دبلوماسية معها. ومع أن العلاقات أخذت تبرد مع استمرار الحروب الإسرائيلية (1958 و1967 و1982)، إلا أنها عادت لتسخن في سنة 1992. فقد بدأت إسرائيل تبحث مع تركيا إقامة «نهر السلام»، وتقصد استيراد الماء من تركيا في مشروع ضخم عبر البحر المتوسط. وقد تعثر هذا المشروع بسبب اتساع معارضة الخبراء الإسرائيليين له، إلا أن مشاريع أخرى بين البلدين بدأت تبحث في عدة مستويات، تبعتها زيارات متبادلة للرؤساء وقادة الحكومتين. وفي سنة 1997 وقع البلدان اتفاقا للتجارة الحرة. وبحلول سنة 2007، كان حجم التبادل التجاري بينهما بقيمة 3 مليارات دولار.

فقد بدأت إسرائيل تستورد السيارات المصنوعة في تركيا (من شركات سيارات أوروبية تقيم فروعا ومصانع في البلدات التركية) ومنتجات النسيج والجلد والمواد الخام للبناء والفواكه المجففة وغيرها. وصدرت إسرائيل إلى تركيا ما تنتجه من كيماويات وأجهزة ري وخبرات وأجهزة في عالم الاتصالات والتكنولوجيا العالية. وسافر نصف مليون إسرائيلي إلى تركيا للسياحة، يشكلون ما يعادل 2% من السياح الجانب.

بيد أن المجال الأكبر للتعاون بين البلدين، تطور في الاتجاه العسكري؛ فإسرائيل تبيع لتركيا أسلحة وتقدم خدمات تطوير وتحديث للدبابات والطائرات التركية بما يعادل 600 مليون دولار في السنة. ومنذ عام 2001 تقيمان علاقات تحالف عسكري، حيث إنهما يجريان تدريبات عسكرية ثنائية مشتركة، وتشترك إسرائيل في المناورات التي تجريها تركية مع حلف شمال الأطلسي مرة كل سنتين، وهي مناورات ضخمة أرسل الإسرائيليون إليها طائرات «إف16» المقاتلة. وسمحت تركيا لإسرائيل أن تجري تدريبات سلاحها الجوي فوق الأراضي التركية، وتحديدا في منطقة أنطاليا ومناطق أخرى شرقي تركيا بمحاذاة الحدود مع إيران وسوريا والعراق. وتحت شعار مكافحة الإرهاب، أقيمت علاقات تعاون خاصة بين أجهزة المخابرات في الطرفين.

عندما فاز حزب «الرفاه» بالحكم في تركيا، خشيت القيادات الإسرائيلية من تدهور في العلاقات، ولكن هذا الحزب تبنى سياسة سابقيه في العلاقات معها وواصل تطويرها. وقد عزا الإسرائيليون هذا الموقف إلى نفوذ الجيش التركي الكبير في السلطة؛ بيد أنه مع عودة التيار الإسلامي، بقيادة حزب العدالة والتنمية وبرئاسة وزراء رجب طيب أردوغان، في سنة 2006، لم تتردد إسرائيل في تجربة حظها معه بشكل إيجابي من بداية الطريق. وبادرت إلى إعلان نوايا طيبة تجاهه.

وكان من أهم هذه البوادر قيام اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة «إيباك» بإقناع أعضاء الكونغرس الأميركي بالتنازل عن مشروع للاعتراف بأن الأرمن تعرضوا لمذبحة تركية إبان الحرب العالمية الأولى. وحسب مصادر أجنبية، فإن «الموساد» (جهاز المخابرات الإسرائيلية الخارجية)، أدى دورا مهما في إلقاء المخابرات التركية القبض على رئيس حزب العمال الكردي، عبد الله أوجلان، لتكون تلك بداية القضاء على تمرد الأكراد. وحسب صحيفة «صنداي تايمز»، فإن «الموساد» يدير قاعدة له شرقي تركيا لرصد الأوضاع في إيران والعراق وسوريا.

وقد تجاوب أردوغان مع إسرائيل وواصل التعاون معها في جميع المجالات، إلا أن بصمات حزبه بدأت تظهر على سياسته الخارجية وتزعج الإسرائيليين. وكانت الإشارة الأولى في سنة 2006، بعد أسابيع من اعتقال أوجلان في كينيا، حيث استقبل أردوغان بحفاوة قائد حماس، خالد مشعل في أنقرة. وكانت الإشارة الثانية بتعميق العلاقات الودية مع سوريا، التي تعتبرها إسرائيل عنصرا أساسيا في ما يسمى «محور الشر».

بيد أن التأثير السلبي لهذه النشاطات كان يخفت في كل مرة تبادر فيها تركيا إلى خطوات إيجابية تجاه إسرائيل؛ فاشترت طائرات من دون طيار من صنع إسرائيلي، وبادرت إلى وساطة في مفاوضات السلام بين إسرائيل وسوريا، وواصلت التنسيق الاستراتيجي والعسكري، حتى في ما يسمى مكافحة الإرهاب.. ويقال، حسب مصادر أجنبية، إن إسرائيل استخدمت الأراضي التركية لدى قصفها المفاعل النووي السوري في دير الزور قبل نحو أربع سنوات. ومع أن تركيا تنفي ذلك بشكل قاطع، إلا أن وجود طائرات سلاح الجو الإسرائيلي المتواصل في تركيا، يشير إلى إمكانات واسعة للإفادة منه ولو في رصد ما يجري في سوريا.

واستمرت هذه العلاقات، إلى أن انفجرت المفاوضات السورية - الإسرائيلية في نهاية العام الماضي؛ ففي حينه رتب أردوغان محادثة هاتفية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، والرئيس السوري بشار الأسد. وكان من المفترض أن يرد أولمرت على اقتراحات الأسد الواقعية حول السلام، إلا أن أولمرت طلب العودة إلى بلاده للتشاور. ولم يعط ردا. ثم فاجأ تركيا بالحرب العدوانية على قطاع غزة. وقد خرج أردوغان بسلسلة هجمات كلامية على السياسة الإسرائيلية، فوصف ممارساتها بأنها جرائم حرب بشعة ضد الإنسانية. وراحت العلاقات تتدهور بسرعة شديدة، وتم إلغاء المشاركة الإسرائيلية في التدريبات المشتركة. وألغيت صفقة لشراء قمر صناعي تجسسي إسرائيلي.

وعرض مسلسل يظهر جنود إسرائيل، قتلة أطفال فلسطينيين، بدم بارد. وقد ردت إسرائيل بطريقة فظة عليه، حيث إن نائب وزير الخارجية، داني أيالون تعمد إهانة السفير التركي في تل أبيب، بدعوته إلى مكتبه في الكنيست وأجلسه على كرسي منخفض ومنع موظفيه من إدخال الماء أو التضييفات. فعاد السفير إلى بلاده ولم يرجع. وردت تركيا بإطلاق أسطول الحرية لفك الحصار عن قطاع غزة وردت إسرائيل بالهجوم الدموي.

صديق أردوغان في تل أبيب داني جيلرمان، يقول إن القضية بين تركيا وإسرائيل ليست قضية اعتذار فحسب؛ بل أعمق من ذلك بكثير. ومع هذا، فإنه يرى أن بإمكان إسرائيل أن تجد لها مكانا في المخطط الاستراتيجي التركي، لو أنها تحسن التصرف التكتيكي. ويؤكد أن مسألة الاعتذار هذه كان قد وجد حل ممتاز لها، لكن الحكومة الإسرائيلية قد أجهضته. ويروي المحلل السياسي ناحوم بارنياع، قصة هذا الحل الممتاز، فيقول إن طاقما إسرائيليا - تركيا شُكل خصيصا لتسوية المشكلة بمشاركة يوسي تشاخينوفار، المستشار القضائي الأسبق لوزارة الدفاع الإسرائيلية، وأزدام سنبراك، المدير العام الأسبق لوزارة الخارجية التركية، وفريدون سينير لوغلو، نائب وزير الخارجية المقرب من أردوغان، الذي كان قد شغل منصب سفير سابق في تل أبيب. وقد توصل الطاقم إلى صيغة جيدة لإنهاء الملف تقول إن «إسرائيل تعتذر عن بعض الأخطاء التي ارتكبت خلال السيطرة على (مرمرة) في العملية التي قتل فيها تسعة مواطنين أتراك».

ويضيف بارنياع أن اعتذارا كهذا سبق أن ورد في تقارير إسرائيلية علنية، أبرزها التقرير الذي أصدره الجنرال غيورا آيلاند، الرئيس الأسبق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، وهو أول من حقق في إخفاقات الهجوم على «مرمرة»، وورد في تقرير «لجنة تيركل»، وهي لجنة التحقيق الإسرائيلية في هذا الهجوم. ويقول بارنياع إن مندوب إسرائيل في الطاقم المذكور، تشاخينوفار، صعق عندما فهم أن هناك من يعترض على هذه الصيغة (بالأساس نائب رئيس الحكومة وزير الشؤون الاستراتيجية موشيه يعلون، ونائب رئيس الحكومة وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان)، خصوصا أن الحجة التي تذرعا بها بدت له هوسا جنونيا، إذ قالا: «لا يمكن الاعتماد على الأتراك. فالاعتذار لن يؤدي إلى تحسين العلاقات وسيجدون حجة أخرى يتذرعون بها للمساس بنا». فأجابهما قائلا: «قد يكون ما تقولان صحيحا، ولكن تعالوا نجري الحساب الصحيح: ما الخطر من تصديق الأتراك وما الخطر من عدم تصديقهم؟ أين نخسر أكثر؟». وأوضح لهما أن اتفاقه مع الأتراك يضمن حماية الجنود والضباط الإسرائيليين من دعاوى في القضاء الدولي ضدهم، والتراجع عن الاتفاق يفتح الباب على مصراعيه لهذه القضايا. لكنهما لم يقتنعا.

وقد حاول نتنياهو أن يغير رأي يعلون بطريقة دفعه شخصيا إلى الأتراك لاستيضاح الأمور معهم مباشرة، فأرسله إلى لقائهم، كما أرسل وزير الجبهة الداخلية للجيش، متان فلنائي، في المهمة نفسها، ولكن النتيجة كانت أن عادا بانطباعين مختلفين؛ يعلون عاد مقتنعا أكثر بأن الأتراك لا ينوون تسوية العلاقات، وفلنائي عاد مقتنعا أكثر بأن الأتراك يريدون تسوية العلاقات. وعاد الموضوع إلى طاولة نتنياهو، فكان قراره رفض الاعتذار. لماذا؟ يقول الكثيرون لأن لديه حسابات أخرى؛ داخلية، لا علاقة لها بتركيا؛ فقد خشي من أن ينسحب ليبرمان من الحكومة... هكذا على الأقل قال للأميركيين عندما طلبوا منه أن يعتذر وينهي هذا الملف. فهم لا يريدون أن يروا حليفيهما متصارعين على هذا النحو. وقد اجتمع الأميركيون مع ليبرمان وحاولوا إقناعه، فأجابهم بأنه لن يوافق على اعتذار، ولكنه وعد بأن لا ينسحب من الحكومة بسبب هذه القضية. بيد أن وعده لم يغير موقف نتنياهو، فقد يكون ليبرمان صادقا، ولكنه في الانتخابات المقبلة سيستغل القضية ضده وقد يخسر عندها كرسيين أو ثلاثة في الكنيست لصالح ليبرمان.

هنا، جاء الموقف الإسرائيلي الحائر في تفسير ما جرى. وقد استطلعنا آراء أربعة خبراء إسرائيليين بارزين في هذه العلاقات ومع سياسي واحد، فوجدنا تفسيراتهم مختلفة تؤكد هذه الحيرة بشكل واضح. يقول الجنرال المتقاعد يعقوب عميدرور، الباحث في معهد القدس لقضايا الجمهور والدولة، إن المطالبين في إسرائيل بعمل كل شيء في سبيل إعادة العلاقات بين إسرائيل وتركيا إلى سابق عهدها محقون، ولكن محاولاتهم غير مجدية، ويضيف: «علينا أن نصارح أنفسنا ونقول الحقيقة، وهي أن تركيا لم تعد حليفا استراتيجيا لنا؛ فما يجري في تركيا ليس صدفة ولا عابرا، ولا ينجم عن خطأ أو إهمال إسرائيلي لهذه العلاقة، بل لا يمت بصلة إلى سياسة إسرائيل وممارساتها في غزة.. إنه تغير استراتيجي، فقد تكون الحرب في غزة حافزا، لكنها ليست الأساس.. تركيا تشهد تغيرات جوهرية في سياستها ونظام حكمها في أعقاب تصاعد نفوذ التيار الإسلامي فيها. وفي الواقع أن هذه الحالة لا تقتصر على تركيا. فالعالم الإسلامي كله يشهد تصعيدا كهذا، وبشكل خاص في الشرق الأوسط».

ونعود إلى جيلرمان، صديق أردوغان؛ فهو يعتقد أن القيادة الإسرائيلية لا تفهم شخصية أردوغان ولا تبني مواقفها منه على أساس علمي ومهني، ويضيف: «أردوغان ليس كما يصفونه هنا بأنه معاد لليهود ولإسرائيل ويريد أن يبني مجده على أكتاف إسرائيل.. فالرجل لم يخطط لهذا الأمر على هذا النحو، بل بالعكس؛ فقد كان يرغب في أن تستمر العلاقات مع إسرائيل على أفضل وجه، حتى يطمئن الغرب لأجندته الشخصية والسياسية». ويقول المسؤول الإسرائيلي إن «أردوغان شخصية ذكية جدا ويعرف ما يريد الوصول إليه. إنه يريد فعلا إعلاء شأن الاسم المعتدل ويريد أن يعيد مجد الإمبراطورية العثمانية، التي تقود العالمين العربي والإسلامي، تحت قيادته. لقد حاول أن يحتل مكانة في الغرب كجزء من الاتحاد الأوروبي ولكنهم رفضوه ونبذوه هناك. وحاول أن يكون شريكا مع الولايات المتحدة في تسوية الصراعات في الشرق الأوسط، فأفشلت مخططاته (إسرائيل أفشلت المفاوضات مع سوريا وتفشل حاليا المفاوضات مع الفلسطينيين) وإدارة أوباما تظهر ضعفا شديدا في التعامل مع إسرائيل. فقرر اللجوء إلى الشرق. يريد أن يكون زعيما عالميا لدول الشرق».

ويؤكد جيلرمان أن هدف أردوغان هذا لا يضر بإسرائيل، بل بالعكس فقد يكون فرصة لإسرائيل: «فأنت تتحدث عن دولة إسلامية علمانية، تؤمن بحرية الأديان، وتمارس الديمقراطية وتتطور اقتصاديا بشكل سليم، ويوجد فيها أساس متين من التعاون مع إسرائيل؛ عسكريا وسياسيا وأمنيا واقتصاديا.. وتتحدث عن دولة، وجودها في رأس العالم الإسلامي يضعك في خندق واحد معها ضد إيران المتطرفة. ووجودها في قيادة العالم العربي يمنحك فرصة للتقدم في عملية سلام محمية بتحالف مع المعتدلين ضد المتطرفين». ويرى جيلرمان أن مصلحة إسرائيل أن تنهي الخلاف فورا مع تركيا وتحافظ على ما تبقى من علاقات لمنع التدهور أكثر وأن تجد طريقة لإعادة العلاقات إلى سابق عهدها وتقويتها والانسجام في مخطط أردوغان.