لماذا ولدت أميركا ديمقراطية؟

د. محمد عبد الستار البدري *

TT

تشير النماذج الديمقراطية إلى أن الشعوب تحصل على الديمقراطية بالصراعات أو الثورات أو المتغيرات التدريجية، إلا الولايات المتحدة فهي الدولة التي تكاد تكون منفردة في أنها ولدت ديمقراطية، فلم تدخل هذه الدولة في صراعات سياسية واجتماعية داخلية لتحصل على ديمقراطيتها بعد الاستقلال ولم تعان مرارة الديكتاتورية بعدما أصبحت دولة، وهذا يرجع لظروف ميلاد هذه الدولة والتي تضمنت أهم ما يلي:

أولا: إن ظروف المستعمرات البريطانية الثلاث عشرة التي كونت الولايات المتحدة الأميركية في عام إعلان الاستقلال 1776 كانت ذات طبيعة خاصة تختلف عن أغلبية المستعمرات البريطانية أو غير البريطانية على مستوى العالم، فهذه المستعمرات تبلورت بفضل ظهور طبقة تجارية - سياسية قوية مما دفع البعض ليطلق عليها مجازا لفظ Corporate Colonies «المستعمرة الشركة» لأنها خلطت بين الطابع الاقتصادي والسياسي؛ ورغم ولاء هذه المستعمرات وطبقاتها القيادية للملك فإنهم كانوا يتمتعون بنوع من الحكم الذي يقرب الحكم الذاتي باستثناء السياسة الخارجية والدفاعية والتي تولتها لندن بكل قوة. وقد نمى هذا النوع من الحكم الشعور بالاستقلالية التدريجية لدى الأميركيين على كافة الأوساط والطبقات مما فتح المجال أمام تطور القومية الأميركية المبنية على وحدة المصلحة وبالتالي وحدة المصير، وكان لهذا الأمر أكبر الأثر في مسيرة الاستقلال الأميركي لأنه مجتمع أصبح مبنيا على نظم تجارية وزراعية مستقلة ومختلفة، وهو ما ساعد على بلورة فكرة المصلحة المشتركة والاعتمادية المتبادلة والتي هي أساس توازن المصالح.

ثانيا: إن الشعور بالمصالح المشتركة أخذ عقودا طويلة لكي يتحول من شعور عام إلى شعور قومي، وسنوات أخرى ليتحول من شعور قومي لعمل وطني مشترك لطرد القوات الإنجليزية والانسلاخ من الملكية البريطانية وإعلان الدولة المستقلة، فلقد بدأ الشعور القومي يتبلور بين المستعمرات تدريجيا اقتناعا منهم بوجود مستقبل أو مصير مشترك، وهو ما دفعها لإرسال ممثليها إلى الكونغرس الذي جمع المستعمرات ووحد كلماتها، وهي الاجتماعات التي بدأت تأخذ طابع الدورية لبحث أمورهم وشؤونهم الداخلية، فكانت هذه هي مؤسسية الاتحاد الأولى، واللبنة الحقيقية للكيان الديمقراطي الأميركي الفيدرالي، وهو ما لم يكن ليتبلور إلا من خلال ميزان تمثيلي حر ومصلحة مشتركة، وهو ما لن يتأتى إلا بالديمقراطية والتمثيل المناسب.

ثالثا: الملاحظة المعروفة هي أن تحرك المستوطنات نحو الاستقلال جاء لتعارض المصالح الاقتصادية والتجارية مع الدولة الأم، فالسياسة الميركانتيلية التي اتبعتها بريطانيا وفرضتها على المستوطنات الأميركية لم تسمح لها بحرية التجارة المأمولة، ونظرا لأن الطبقة التجارية والوسطي كانت تكون القوة الأساسية لهذا التجمع فإن هذا أدى لاختلاف المصالح مع التاج البريطاني، وهذا كان مربط الفرس، فالعراقيل أمام التوسعات التجارية للمستعمرات أضيفت إليها العديد من الخطوات غير الموفقة من جانب البرلمان البريطاني والتي أدت لترسيخ الهوة بين الوطن الأم والمستعمرات ومنها قانون السكر والذي منع بمقتضاه التجارة في المولاس مع فرنسا ومستعمراتها وقانون الإيواء Quartering Act والذي فرض على المستعمرات إيواء الجنود البريطانيين ناهيك عن قانون الدمغة Stamp Act والذي فرض الضرائب الباهظة على كل الدمغات والأوراق، فضلا عن قرار رئيس الوزراء البريطاني بمنع الاستعمار غربا خوفا من الصدام مع السكان الأصليين (الهنود)، وقد أضيف إلى هذه الضغائن والمشكلات شعور عام بالكراهية للتاج البريطاني عندما لجأ إلى معاقبة ولاية ماساشوستس بحصار ميناء بوسطن عقابا لهم على ما فعله بعض تجار الجملة من إلقاء 17 مليون رطل شاي إنجليزي في المحيط حتى لا تتأثر أوضاعهم التجارية، وقد زاد من الأمر تعقيدا استخدام القوات البريطانية العنف لقمع الثوريين.

وبعد فشل كل المحاولات اضطر الكونغرس الأميركي الثاني للموافقة على إعلان الاستقلال عام 1776، وهو ما كان إيذانا بحرب ضروس بين القوات القارية بقيادة وتمويل الكونغرس والجيش البريطاني النظامي، وقد استمرت الحرب لسنوات حتى اضطرت بريطانيا للتسليم والانسحاب ومنح الولايات المتحدة استقلالها بعد دخول فرنسا الحرب لصالح الكونغرس.

لعل الديمقراطية الأميركية كانت بالفعل في حالة بلورة حتى قبيل إعلان الاستقلال من خلال المداولات والقرارات التي اتخذها الكونغرس الأول والثاني، فلم يكن هناك ديكتاتور أو مهيمن على أعمال الكونغرس، بل إن ممثلي كل المستعمرات كانوا يتخذون قراراتهم بأنفسهم وبالتصويت إذا ما لزم الأمر، وهو أمر طبيعي حيث إن تشكيل الكونغرس ذاته لم يكن يسمح بغير ذلك، فهو عقد اختياري بين كل المستعمرات لا إكراه أو إجبار فيه، ومن ثم لم يكن هناك مجال إلا للديمقراطية والشورى والحوار كوسيلة لاتخاذ القرار وهو نفس المنحى الذي اتبعه الدستور بعد ذلك.

كان الدستور الذي تم وضعه عام 1787 هو المحك الحقيقي للديمقراطية الأميركية بعد مداولات ممتدة بين المستعمرات ومخاوف وتوترات فيما بينها لتحديد شكل الدولة القادمة وضمان صوت كل ولاية، ولعل من أظرف التعليقات كانت مقولة «إن الدستور الأميركي كتبه مجموعة من المفكرين وشبح، والشبح كان لأوليفر كرومويل»، ومدلول هذه العبارة هام للغاية، فكرومويل مثل الديكتاتورية التي كانت تخشاها كل القوى الليبرالية الإنجليزية حتى لا تنحرف بمسار الثورة أو الاستقلال إلى استبداد جديد، ولكن هذا لم يكن ممكنا في الولايات الناشئة والتي ولدت ديمقراطية منذ انعقاد الكونغرس الأول أو قبله.

واقع الأمر أن شبح الديكتاتورية كان بعيدا عن هذا الكيان الوليد للأسباب التالية:

أولا: أن طبيعة المستعمرات وتكويناتها الاقتصادية والسياسية جعلت المصلحة وتوازنها هي الأساس الذي سيبنى عليه أي نظام سياسي، فلم يكن من الممكن أو المعقول أن يتم صيانة هذا المبدأ إلا من خلال الليبرالية.

ثانيا: أن انضمام المستعمرات الواحدة تلو الأخرى لهذا الاتحاد الجديد ما كان ليتم إلا على أسس توازن المصالح والقوة بين الولايات وفقا لإعلان مبادئ الحقوق الأميركية وذلك حفاظا على المصلحة المشتركة للولايات المنضمة، وإلا فالولايات لن تنضم، ولعل هذا يفسر سر هزيمة المقترح الذي كان يدعو للكونفيدرالية بديلا عن الفيدرالية الأميركية، ولا يحمي هذا ويصون توازن القوى بين المؤسسات المختلفة والمصالح المتباينة إلا دستور وآلية حكومية مبنية على ضمانات سياسية وحريات أساسية وصحة التمثيل على المستوى الفردي أو الولاية.

ثالثا: جاء السياق العام للأحداث بريح الحرية قبل التحرر، فامتزجت ريح القومية بريح الحرية، فجعلت الديمقراطية هي السبيل الوحيد للدولة الوليدة، خاصة بعدما تأثرت المستعمرات بأفكار وريح الليبرالية في الوطن الأم لا سيما أفكار جون لوك وغيره من فلاسفة عصر التنوير، وبالتالي ما كان يمكن أن يسفر المخاض الثوري والاستقلالي عن جنين للديكتاتورية لتستبدل أمة بمستبد آخر.

والاستفسار الذي يأتي للذهن مباشرة هو سبب عدم انكسار الديمقراطية الأميركية أسوة بنماذج أوروبية جاءت بعدها بحقب قليلة، واعتقادي أن الإجابة عن هذا السؤال متعددة أهمها أن النظام السياسي الأميركي وضع بتوازن فائق من الدقة لم يكن بمقدور أي جنرال أو شخصية قوية اختراقه بسهولة لتكوين ديكتاتورية جديدة، كما أن توازن النظام جعل من المستحيل استبداد أي قوة أو فرد داخل النظام السياسي، ولكن السؤال الأخطر هو سبب تأخر الاعتراف بالحقوق والحريات الأساسية للسود والهنود وغيرهما من الفرق التي عانت لقرون طويلة من الكبت والحرمان، والإجابة تكمن في أن الديمقراطية الأميركية الوليدة لم تكن إلا ديمقراطية النخب الاقتصادية والسياسية والطبقة الوسطى، تماما مثل ديمقراطية أثينا التي قصرها أرسطو على المواطن اليوناني دون المرأة والطفل والعمال والعبيد، فحتى قانون التجنس عام 1790 منع الزنوج والعبيد من الجنسية، وهي أمور لم تتغير إلا بالضغوط الاجتماعية تباعا.

هكذا ولدت أميركا ديمقراطية وقدمت نموذجا فريدا للميلاد الديمقراطي ولكنها كانت أيضا من أواخر الدول الليبرالية التي أعطت فئات من مواطنيها حقوقها المتأخرة، والسبب الحقيقي في الحالتين قد يكون سيطرة رأس المال على المصلحة السياسية ولكن هذا أمر متروك للاجتهادات مختلفة.

* كاتب مصري