هل يستعيد العراق سيادته الكاملة بعد الانسحاب الأميركي؟

الأميركيون أعلنوا انسحابهم نهاية العام ولكنهم غير قادرين على الاطمئنان على مستقبل البلاد

جنود أميركيون يغادرون بغداد عائدين الى بلادهم (أ.ب)
TT

هناك فرق شاسع بين أول انتخابات تشريعية أجراها العراق عام 2005، وبين آخر انتخابات جرت في مارس (آذار) عام 2010. ففي الانتخابات الأولى، وطبقا لما تقوله ميغان أوسيلفيان نائبة مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس الأميركي السابق بوش الابن، فقد كان القلق مسيطرا عليهم في البيت الأبيض، خصوصا عند رؤيتهم لأول رئيس انتقالي للعراق «الشيخ غازي الياور» يدلي بصوته في تلك الانتخابات، في مركز خال على نحو يبعث على الانقباض... وكيف تحول هذا الانقباض إلى فرح غامر عندما تدفق العراقيون بالآلاف إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم لتلبية ما سمي بنداء الحرية أو الديمقراطية التي كانت قد بشرت بها الولايات المتحدة.

أما الانتخابات التي جرت عام 2010، فإنها جاءت عقب سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، كان في مقدمتها أحداث العنف الطائفي التي كادت تتطور إلى حرب أهلية شاملة بعد تدمير قبتي الإمامين العسكريين في مدينة سامراء، في 22 فبراير (شباط) 2006.

بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الفارق بين الفترتين، يعكس على نحو جدي طبيعة القلق الأميركي، الذي لم يكن أحد يتوقع أن يتطور فيما بعد، ليس إلى مجرد قلق، وإنما إلى أزمة ستظل على الأرجح مفتوحة على كل الاحتمالات. فالفترة الأولى التي جرت فيها الانتخابات، كان يُراد لها أن تؤسس لديمقراطية جديدة في هذه البلاد بعد عقود من أنظمة الحكم الشمولية، وهو ما جعل الرئيس الأميركي بوش الابن آنذاك، ينتظر بحماس نتائج تلك الانتخابات، مثلما تقول أوسيلفيان. أما الانتخابات التي جرت عام 2010، فإن نتائجها ترتبط هذه المرة بمسألة انسحاب القوات الأميركية من العراق.

ومن دواعي القلق الأميركي بين الفترتين، أن الحكومة العراقية التي سيتم تشكيلها في ضوء نتائج هذه الانتخابات ستكون في السلطة حتما خلال عام 2011، وهي الفترة التي سيتم خلالها سحب القوات الأميركية من العراق، طبقا للاتفاقية التي تم توقيعها بين بغداد وواشنطن عام 2008. من النواحي الشكلية كافة، حصل كل ما حلمت به الولايات المتحدة والمعارضة العراقية التي تسلمت السلطة بعد سقوط النظام السابق. فالنظام السابق بزعامة صدام حسين، الذي كان يشكل أرقا دائما لواشنطن ولمعظم أصدقائها في المنطقة، سقط بالفعل في التاسع من أبريل (نيسان) 2003.

بالنسبة للمعارضة العراقية التي يصنف العراقيون معظمها على أنها جاءت على ظهور الدبابات الأميركية، بينما ظهرت على مدى السنوات الثماني الماضية زعامات جديدة في العراق، فإنها اليوم وبعد هذه السنوات، وعند هبوب أولى نسائم الربيع العربي، بدأت تتحدث علنا على أن ما حصل في العراق كان هو الحافز الأول لهذا الربيع العربي. لكن المفارقة التي لا بد من الالتفات إليها، أن أحدا لم يعد يشكر الولايات المتحدة من معظم، إن لم يكن كل الزعامات العراقية. فالزعامات السياسية العراقية، سواء على شكل كتل أو أحزاب أو طوائف، انقسمت على الأرجح إلى ثلاثة أقسام تحول كل واحد منها إلى خصم للولايات المتحدة.

فالذين اقتربوا من إيران، وبسبب الصراع المحتدم بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران على ملفات كثيرة، فإنهم تحولوا إما إلى أعداء صريحين للولايات المتحدة من خلال كتائب مسلحة باسم المقاومة الإسلامية، أو إلى خصوم سياسيين بسبب ما اعتبروه أخطاء ارتكبتها الولايات المتحدة في العراق. وذلك على الرغم من كل ما كتبه الأميركيون، سواء كانوا سياسيين أم عسكريين أم صحافيين كبارا، وتناولهم لسلوك بعض قادة المعارضة العراقية ممن كان لهم الدور الأبرز في تزيين الدخول إلى العراق، بمن في ذلك تقديم معلومات ظهر فيما بعد أنها «مضللة» أو «كاذبة»، ويقف أحمد الجلبي في مقدمة من تحول إلى خصم للولايات المتحدة، بعد أن كان أبرز أصدقائها و«عراب الاحتلال» كما يقول العراقيون، أو تحول قسم آخر منهم إلى خصوم سياسيين للولايات المتحدة من المنطلقات والدواعي ذاتها، أو على الأقل محايدين جدا.

أما الذين يقفون في الضد من إيران، وما يعتبرون أنه سياسيات توسعية تقوم بها في العراق والمنطقة، فضلا عن تدخلها في الشأن العراقي، فإن منهم من تحول إلى عدو صريح للولايات المتحدة الأميركية، برسم المقاومة المسلحة، أو إلى خصم، لا لسبب إلا لكون الولايات المتحدة كانت قد سلمت العراق إلى إيران.

أما الأكراد، فإنهم وإن كانوا الأقرب إلى الولايات المتحدة الأميركية حتى قبل إسقاط نظام صدام حسين، فإنهم باتوا يشعرون بالخذلان منها لأنها لم تظهر ما يكفي من اهتمام بهم، لا سيما على صعيد مخاوف كثيرة جدا وعلى غاية من الأهمية في العراق، منها قضية المناطق المتنازع عليها بين العرب والأكراد. واليوم، حيث يحين موعد الانسحاب الأميركي من العراق نهاية هذا العام، فإنه وإن كان مقررا منذ عام 2008 طبقا للاتفاقية الأمنية، فإن ما صدر من بيان تلاه الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي كان أحد أبرز الرافضين للحرب، يعبر عن «غصة» حقيقية لخصت على نحو واضح قصة الحرب التي وإن انتهت أميركيا بقرار الانسحاب، فإنها لم تنته عراقيا.

فأوباما يقول إن كل جنوده سيكونون في الولايات المتحدة بحلول أعياد رأس السنة الميلادية، إلا أنها ستظل مفتوحة على كل الاحتمالات، سواء لأسباب وعوامل داخلية تتعلق بالعراق، أو بسبب عوامل خارجية تتصل بما يحصل الآن من ثورات وانتفاضات في معظم الدول العربية، وهو ما لم يكن متوقعا مثلما تذهب كل الدراسات والتحليلات السياسية أو الاستراتيجية. ولعل ثمة سؤال كثيرا ما يجري تداوله، وهو: هل يستأهل الأميركيون هذا «العقوق» الذي باتت تواجههم به الطبقة السياسية العراقية التي تسلمت السلطة على جثث أكثر من 4000 جندي أميركي فضلا عن عشرات آلاف المعاقين وتريليونات الدولارات التي أرهقت الاقتصاد الأميركي وناء بها كاهل دافع الضرائب الأميركي؟

هناك من يقول إن الطبقة السياسية قد ضربت بالفعل ظهر المجن للإدارات الأميركية المتعاقبة وتشظت؛ إما إلى جهات معادية للولايات المتحدة بسبب قرب هذه الجهات من إيران. وهنا ينصرف الحديث عن التحالف الوطني الشيعي، أو معادية للولايات المتحدة بسبب هذه الجهات من إيران، والمقصود هنا القائمة العراقية التي يعتقد معظم قادتها ورموزها أن السياسات الخاطئة التي ارتكبتها الولايات المتحدة في العراق، هي التي منحت إيران الفرصة الذهبية للتدخل بالشأن العراقي من أوسع أبوابه... أو مخذولة من الدور الأميركي برمته، بعد أن كانت من أشد مؤيديه، والمقصود هنا الأكراد على الرغم من أنهم يشعرون أن ما قامت به الولايات المتحدة على طريق إسقاط النظام العراقي السابق هو الذي منحها فرصة بناء تجربتها الخاصة في الحكم الفيدرالي، في إطار العراق الاتحادي، خصوصا بعد أن تم إقرار الدستور الذي يتمسك به الأكراد إلى الحد الذي باتوا فيه يعتبرون أن التمسك به هو معيار صلتهم بالعراق، لا سيما بعد أن كثرت الدعاوى الخاصة بتقرير المصير بالنسبة لهم وصولا إلى إعلان دولتهم المستقلة. وفي كل الأحوال، فإن جميع هذه القوى والكتل والطوائف تعتقد أن السياسات الأميركية الخاطئة التي تم اتباعها في العراق منذ إسقاط صدام حسين وحتى اليوم هي السبب المباشر في كل ما حصل. وعندما تسلم حزب البعث السلطة، ومع صعود صدام حسين السريع إلى مواقع المسؤولية، تم اختزال الدولة بكل مؤسساتها بشخصه وشخصيته التي قادت البلاد إلى سلسلة من الحروب والمآسي المهلكة التي سهلت في النهاية من مهمة الولايات المتحدة الأميركية في غزوه وإسقاط ليس النظام بل الدولة كلها حتى بات سقوط الدولة بكامل مؤسساتها رغبة معظم قوى المعارضة التي أرادت أن تصحح المعادلة التاريخية فوقعت فيما بعد في سلسلة من الأخطاء والكوارث التي يدفع كل العراقيين، سواء كانوا سنة أم شيعة أم قوميات أم طوائف أخرى، ثمنها.

والسبب المباشر في ذلك أن الطبقة السياسية العراقية الحالية لم تتمكن طوال السنوات الثماني الماضية من بناء الدولة العابرة للحدود القومية أو العرقية أو المذهبية سواء في إطار عقد اجتماعي جديد أو من خلال الاستفادة من أخطاء الماضي. وفي وقت يعلن فيه الأميركيون انسحابهم من العراق نهاية العام الحالي، فإنهم يشعرون أنهم ما زالوا غير قادرين على الاطمئنان على مستقبل العراق. فالعلاقات الداخلية منها والخارجية ملتبسة لأنها إما مع أو ضد. وإذا كان من أبرز مقومات سيادة الدولة هو الجيش القادر على حماية حدودها وأجوائها وبرها وبحرها، فإن الجيش العراقي وبسبب التسليح لا يبدو قادرا على التصدي للتحديات خارجية بينما يجري الحديث عن عقود تسليح بمليارات الدولارات. والأمر نفسه ينطبق على ملف الخدمات الشائك وفي المقدمة منه الكهرباء.

فعلى الرغم من أن ما أنفق على الكهرباء ومشتقات الوقود والفواتير طوال السنوات الثماني الماضية زاد على الـ 120 مليار دولار، طبقا لما أعلنه وزير المالية العراقي، فإن مجموع ما تم إنفاقه من أموال طوال تلك السنوات بلغ نحو 300 مليار دولار، طبقا لما أعلنه وزير المالية السابق باقر جبر الزبيدي والذي كان قد رد عليه رئيس الوزراء نوري المالكي بأن مجموع ما تم إنفاقه هو 191 مليار دولار، وهو ما يعني أن الفارق بين ما قاله وزير المالية المختص ورئيس الوزراء، نحو 170 مليار دولار. والأمر على الصعيد السياسي يبدو أكثر التباسا عندما باتت العلاقة التي تحكم الكتل والمكونات هي إما مع هذا الطرف أو ذاك أو هذه الدولة أو تلك أو ضد هذا الطرف أو هذه الدولة أو تلك. فمن هو مع إيران لا بد أن يكون ضد السعودية أو من هو ضد إيران لا بد أن يكون مع تركيا والسعودية معا. ومن كان ضد سوريا قبل سنة تحول إلى داعم لها الآن دون أن يجري تحديد العلاقات مع الدول، مهما كانت عربية أم أجنبية، شقيقة أم صديقة، على أساس المصالح العليا للدولة. وبين هذا وذاك ومع قرب انتهاء الانسحاب الأميركي من العراق فإن أيا من القضايا العالقة مع الآخرين لم تحل، فلا قضية العلاقة بين بغداد وأربيل وجدت لها حلا وفق الدستور، ولا قضية الحدود بين العراق من جهة وكل من إيران وتركيا من جهة أخرى، لا سيما قضية حزب العمال الكردستاني، فضلا عن قضية مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة بالإضافة إلى مسألة العلاقة مع الكويت والتي بدأت تزداد تعقيدا مع بزوغ قضية ميناء مبارك الكويتي الذي يعترض عليه العراق.

وحتى في هذه المسألة الوطنية، فإن هناك أكثر من طريقة للتعامل معها حتى داخل مجلس الوزراء العراقي بين وزارتي النقل والخارجية وصلت حد الاتهامات بتلقي رشاوى مالية من الكويت لهذا الطرف الحكومي أو ذاك. ولعل قضية العلاقة مع الكويت تظل مرهونة بما هو أهم وهو الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يسعى العراق للخروج منه لكي تكتمل سيادته. غير أن كل المؤشرات تذهب إلى القول بأن العراق ومع خروج آخر جندي أميركي نهاية هذا العام، ليس بوسعه الحديث عن سيادة كاملة لأنه وإن خرج آخر الجنود الأميركيين، فإن العراق بحاجة إلى أن يخرج هو الآخر من البند السابع وهو ما يحتاج إلى تفاهم كامل مع الكويت يبدأ باعتراف العراق الرسمي بالقرار 833 الصادر عن مجلس الأمن الدولي.