حوار مع نابليون بونابرت

TT

لقد استهوتني القراءة عن الشخصية السياسية والعسكرية لنابليون بونابرت إلى الحد الذي سأستسمح فيه القارئ بأن أسبح معه في حوار خيالي معه في منفاه الأخير يكون مبنيا على رؤيتي لشخصيته وانطباعاتي عن سيرته الذاتية، وهو كالتالي:

دخل نابليون شاحب الوجه وعليه علامات الإجهاد من مرض معدته وزيادة وزنه، ولكن عزة نفسه وكبريائه كانتا في مأمن من شر السنين، فنظرته فيها حدة وتبعث الرهبة، فجلس وسرعان ما بادرني قائلا: «تفضل.. أنت في حضرة الإمبراطور»، فسألته: لو عاد بك الزمن.. ماذا كنت ستفعل لتغير الحاضر؟

نابليون: «سؤال أكرره لنفسي.. بداية ما كنت لأنقض معاهدة (تلست) مع القيصر الروسي في 1807، فكنت بذلك سأغلق الجبهة الشرقية، ثم أحتل إنجلترا بدلا من ذلك».

أنت كورسيكي المولد وفرنسا كانت وطنا غريبا عليك.

نابليون مقاطعا: «لا جدال على فرنسيتي! وهل كانت القيصرة كاترينا الكبرى روسية؟!.. كانت ألمانية، فلا داعي لخلط الأمور، أصبحنا فرنسيين، وتعلمنا اللغة الفرنسية.. صحيح أنهم كانوا يعايرونني لوجود لكنة إيطالية في لساني.. ولكني أصبحت رمزا للقومية الفرنسية».

ماذا عن أسرتك؟

نابليون متنهدا: «أمي كانت امرأة صعبة لم ترض بشيء، وإخوة كثيرون لي كانوا مزعجين جدا، وكنت عائل الأسرة على الرغم من ذلك».

هل كنت من المتفوقين في الكلية الحربية؟

نابليون: «كنت من الأوائل في الرياضة ومادة التكتيك العسكري.. والمسائل اللوجستية تعلمتها على كبر».

سؤال: كيف تقيم معركة «تولون» بعد تخرجك في الكلية العسكرية مباشرة؟

نابليون ضاحكا: «يومها أصبت بشدة ولكنني صمدت بعد أن حركت المدفعية بسلاسة لحماية المدينة من الاحتلال البحري الإنجليزي.. هذا حال العند الكورسيكي، وهذا العند سخرته لخدمة السياسة».

ولكنك لم تلفت النظر بقوة إلا بعد إخمادك الثورة الملكية المضادة وقتلك مئات الفرنسيين.

نابليون مقاطعا: «نعم دافعت عن حكومة (الديركتوار) الثورية ضد بقايا الملكية، ولولاي لفشلت الثورة الفرنسية على أيدي الملكيين والذين كانوا يحومون حول الحكم بعد سقوط السفاح روبسبيير في 1794، أنا لست متسلقا، وكان لا بد من استخدام المدفعية لأنها الوسيلة الوحيدة لحسم الصراع».

سؤال: تصعيدك السياسي في سن مبكرة وتعيينك قائدا للجيش الفرنسي في إيطاليا كان ثمنا لإهدار دم الثوار بمدفعيتك! نابليون بضيق: «التصعيد كان على أساس الكفاءة والقدرات، وهو ما تفتقر إليه أنت في إدارة الحوار مع الإمبراطور». يقال إن الحظ خدمك.

نابليون مقاطعا: «.. عندما كانوا يعرضون علي أسماء الجنرالات كنت أستفسر دائما عما إذا كان الشخص محظوظا إلى جانب كفاءته.. فما قيمة الكفاءة لو أن الحظ لا يبتسم لك أثناء الحرب، هل تعرف معنى الحرب؟ إنها الحركة! الدماء! صليل خيل! تشكيلات تتحرك!.. صرخات آلام!.. رائحة الموت التي إن لم تتجاهلها تملكتك، في هذه الظروف كيف تريد أن تكون عبقريا بلا حظ؟!».

سؤال: لماذا المغامرة بمحاولة احتلال روسيا؟

نابليون: «ولماذا ذهب الإسكندر لحدود الصين؟!.. لماذا احتل جنكيز خان كل هذه الأراضي؟! إنها السياسة والقوة والمجد».

أولم تتعلم من تجاربهم؟

نابليون ضاحكا: «وهل معرفتك بالمرض تقيك شره؟! ما أدراك ما سكرة السلطة والقوة والمجد!».

وماذا عن المجد الشخصي؟

نابليون: «وهل هناك أعظم من مجدي؟! فأنا ستتزين بي كتب التاريخ، وينحني لي جنرالات المستقبل، انظر إلى معركة (مارنجو) في إيطاليا، ومعركة (أوسترلتز) في النمسا عام 1805، ومعركة (ينا) في 1806 ضد البروسيين ..». ولكن في «مارنجو» بإيطاليا عام 1800 كدت تُهزم لولا..

نابليون مقاطعا: «.. لولا أن ديسيي حول الهزيمة لنصر.. ولكن هذا بتعليمات مني.. فلقد وجهته للقيام بالمناورة قبيل هزيمتنا، ثم ما الضرر في ذلك؟! فأنا من اخترته.. وبالمناسبة فقد سميت فرسي العربي الأصيل الذي لم يفارقني باسم المعركة، فكان (مارنجو) معي حتى النهاية».

ما انطباعك عن الحملة الفرنسية على مصر في صيف 1798؟

نابليون ضاحكا: «كان الجو حارا.. أما المصريون فانتفضوا مرارا، ولولا (نلسن أبو عين واحدة) وإغراقه للأسطول الفرنسي في معركة (أبو قير) ما فشلت الحملة، ولكنني لا أستطيع أن أنكر أنني مفتون بمصر وعبق تاريخها».

سؤال: لماذا حاولت خديعة المسلمين بالتقرب للإسلام؟

نابليون: «لا خديعة في السياسة، فالمصريون شعب متدين وهذه كانت وسيلة التقرب منهم حتى لا يثوروا.. ولكنهم ثاروا ضدي مرتين في غضون أشهر قليلة.. حتى إنني أعتقد أن الثورة الفرنسية انتقلت لمصر ولكن بدلا من محاربة الطغاة حاربوا المحررين».

سؤال: محررين.. كيف؟! نابليون بثبات: «ألم أنقل لمصر ما لم تعرفه من تقدم ورقي بعد قرون من الغفلة في الحكم العثماني الفاسد، وهذا ما فتح لها المجال للتطور؟!».

هل هروبك من مصر تخلّ عن جيشك؟

نابليون: «لقد كانت حملة ميؤوس من نجاحها بعد محاصرة الأسطول الإنجليزي لها.. فهل كنت تريدني أن أستسلم لهم؟! ثم إن وجودي في فرنسا حسن أمورا كثيرة وأعاد التوازن لفرنسا».

وهل هروبك كان لطموح شخصي؟

نابليون متحديا: «ولم لا؟!.. أنا كنت طموحا ولا أجد غضاضة في ذلك.. ولا تنسى أنني قدمت لبلادي ما لم يقدمه أحد لها، ثم إنني جئت بحب الشارع وبقيت برضا الشعب».

سؤال: ألم تدمرها؟! نابليون بعصبية: «كلام فارغ!.. لو أنني انتصرت في (واترلوو) لكنت سأعيد لها رونقها».

لماذا تزوجت جوزفين وهي تكبرك بسنوات، كما أنها لم تكن جميلة؟

نابليون ضاحكا: «لها مميزاتها.. كما أنها ساعدتني في التواصل الاجتماعي، وفي المقابل أعطيت لها حياة مادية مريحة.. فلا تنسى أنني كنت عاشقا للنساء، كما أنني وقعت في حب أولادها، خاصة ابنتها أورتانس».

ألم تخنك وأنت في حملة مصر؟! نابليون ضاحكا: «الخيانة نسبية.. فأنا لم أتزوجها وهي قديسة.. لقد غضبت ولكني عفوت.. من قال إنني لا أعفو؟! ثم إنني كنت أنا نفسي عاشقا للجنس اللطيف».

ماذا عن زواجك من الأميرة ماري لويز؟

نابليون ضاحكا: «لعن الله تاليراند وزير خارجيتي الخائن!.. فهو الذي زوجني هذه الزيجة التعيسة لضمان علاقة صداقة مع النمسا، أما ماري فقد علمتني التعفف من النساء.. بالله عليك هل رأيت شكلها؟! إن عائلة الهابسبورغ كانوا على علاقة عداء مع الجمال، انظر إلى ذقونهم جميعا فهي مثل الكمثرى المقلوبة!».

سؤال: ماذا عن ابنك؟

نابليون بحزن: «هو قريب لي جدا لكن الأقدار شاءت أن نفترق، ولكني تركت له اسما خالدا يكفيه».

سؤال: وماذا عن البولندية ماريا والوسكا؟ ألم يؤلمك أن تنجب من امرأة متزوجة من غيرك مقابل السماح باستقلال بولندا؟! نابليون: «هي كانت تعرف منذ البداية أنني أريدها، وزوجها كان يعلم أيضا، وكل شيء تم برضائهما!».

هل أحبتك ماريا؟

نابليون بنظرة غرور: «ما من امرأة أوليتها اهتمامي إلا وأحبتني.. ماريا لا تختلف عنهن جميعا».

سؤال: على الرغم من ذلك فـ«دستور نابليون» لفرنسا لم يمنح للمرأة حقوقا.

نابليون ضاحكا: «طبعا، لأن الطبيعة وهبت للمرأة نفوذا على الرجل، فرأى الدستور أن يسحبها منها ولا يعطيها حقوقا إضافية.. ألست محقا؟!».

سؤال: متى أدركت أن الحلم ضاع؟

نابليون متحسرا: «عندما عدت بعد الحملة الروسية الفاشلة، ثم بعد معركة (ليبزيج) أو حرب العالم كما يسمونها في 1813 التي انهزمنا فيها لتكالب التحالف ضدي».

سؤال: هل كنت مبتكرا في إدارتك لهذه المعركة، ثم في «واترلوو» بعدها؟

نابليون: «ألست تعرف أن أعظم إنجازات الإمبراطور العسكرية كانت حرب الدفاع عن فرنسا عندما بدأ الحلفاء غزوها بعد (ليبزيج)؟!.. لقد كنت مدركا لكل شيء وعندي الابتكار لأقدمه، ولكن الظروف لم تكن مواتية».

لماذا لم تحاول استقطاب الأعداء خاصة الإنجليز والروس؟

نابليون: «الإنجليز دولة أصحاب متاجر، وهذا رأيي فيهم من البداية».

أختلف معك ولكن..

نابليون مقاطعا: «من قال لك إنني لم أحاول السلام معهم؟! الإنجليز لم يرغبوا في ذلك لأنهم يريدون كسر فرنسا، لقد حاولت في صلح (أميين) عام 1802، أما الروس فالقيصر الإسكندر لا يفهم شيئا.. وكان متأرجح المزاج وتنتابه حالات دينية لا أفهمها، وهو ما دفعني لعدم الوثوق به».

ماذا كان شعورك يوم التوقيع على وثيقة التنازل في «فونتانبلو»؟

نابليون: «كانت أتعس لحظات عمري، خالجني شعور يومها بالفراغ والإخفاق.. كنت كارها للأقزام الذين أذلهم سيفي فانتصروا علي.. أما من أحسنت إليهم فقد كانوا رموزا للحقارة، ولكن ما الجديد؟!».

لماذا لم تستطع السيطرة على الظروف بعد هروبك من منفى جزيرة ألبا؟

نابليون: «لم يكن سهلا لمّ الشمل الفرنسي، صحيح أن الشعب كان معي، ولكن المؤسسات لم تكن كذلك، الشعبية شيء وإدارة الدولة شيء آخر، كيف أديرها والخزانة خاوية والجيوش متربصة بنا من كل اتجاه، والعدو الإنجليزي ولينجتون في الشمال، لذلك قررت محاربته حتى أستطيع التقاط الأنفاس وكسب وقت يسمح بإعادة تنظيم الدولة، ولكن الجيش لم يكن مستعدا على الرغم من أن الشعب كان يتشوق لانتصار جديد؟!».

سؤال: لماذا اخترت قيادات ضعيفة معك؟

نابليون: «الظروف اضطرتني لذلك، فأنا لم أكن معجبا بصولت Soult وزير الدفاع، فقد كان ثقيل الظل، موظف التوجه.. لكنه كان متاحا، ولكن ندم عمري كان على الغبي جروشي في معركة (واترلوو).. فلو كنت انتصرت لكنت قد قتلته كما قتلتم هذه الملكة في مصر واسمها..!».

تقصد شجر الدر.

نابليون: «أجل أجل.. والله بالقباقيب على أم رأسه! لعنة الله عليه أينما كان، فلقد تاه وتوه معه ثلث جيشي في البحث عن فلول الجيش البروسي الذي هزمته قبلها بيومين دون جدوى، فكانت النتيجة أنني حاربت الإنجليز والبروسيين بثلثي جيشي.. هل هذا عدل؟!».

سؤال: هل أصبحت متدينا؟

نابليون ضاحكا: «أولم تقرأ شيئا عن علاقتي بربي؟!.. سأتركك تخمن ولقرائك التقدير، وبالمناسبة أنا رفضت سلطة البابا علي وعلى فرنسا، حتى إنني توجت نفسي إمبراطورا وليس البابا».

عند هذا الحد همّ الرجل واقفا، وتحرك ببطء صوب الباب قائلا: «لقد هزمني الكم الكبير من الجيوش وليس جنرالاتهم.. فما الذي يجعلك تعتقد أنك تستطيع أن تطل بعينك في أعماقي؟!». ثم استدار وفتح الباب، وخرج الرجل في لحظة صراع بين النهار والليل على جزيرة نائية في المحيط الأطلنطي.. فاختفى الرجل من أمامي ولكنه سرعان ما اختفى من الحياة في 5 مايو (أيار) عام 1821، فمات من حاول تغيير وجه التاريخ فغير التاريخ حياته، ومات الرجل محسورا في جزيرة «سانت هيلينا» بعيدا عن الجميع ليعود جثمانا يرقد الآن في «الإنفاليد» بباريس وسط زائرين من الفرنسيين يمثل لهم الإعزاز والقومية، وآخرين يريدون العظة من رفات قاهر أوروبا وهو يرقد في قبره وخلفه ميراث من الحب الفرنسي لم يستطع أحد منافسته عليه.

* كاتب مصري