برلسكوني.. «الفارس» المهزوم

سجل رقما قياسيا في البقاء رئيساً لوزراء إيطاليا وشغل البلاد بفضائحه مع النساء

TT

بعد هزيمة حكومة سيلفيو برلسكوني اليمينية في مجلس النواب، أعلن رئيسها منذ أيام، أنه سيترك الحكم إثر الموافقة البرلمانية على الموازنة الجديدة وخطة التقشف المالي أو ما يسمونها «خطة الاستقرار»، وهكذا انتهت حقبة تاريخية في إيطاليا يمكن تسميتها «نهاية الجمهورية الثانية» بعد تحول الملكية إلى الجمهورية الأولى في نهاية الحرب العالمية الأخيرة. يقول الممثل الهزلي والناشط السياسي الإيطالي بيبي غريللو «لقد طرد ملك إيطاليا الديكتاتور موسوليني كرئيس للوزراء عام 1943 لأنه خسر الحرب العالمية الثانية، والآن يتكرر نفس المشهد مع برلسكوني لأنه أسهم في خلق كارثة اقتصادية على مستوى أوروبا.. في الماضي استسلمت إيطاليا للولايات المتحدة وها هي تستسلم الآن لألمانيا وفرنسا بعد انهيار هذه الحكومة المضحكة من الوزراء والوزيرات المطيعات.. سنعود مجددا إلى (دولة ذات حرية محدودة)».

كيف استطاع رجل الأعمال الناجح الملياردير برلسكوني (75 عاما) الملقب بالفارس (كافالييري بالإيطالية)، صاحب الثروة المقدرة بتسعة مليارات دولار (أي الثري رقم 118 في العالم)، من زيادة ديون بلاده إلى 120 في المائة من إنتاجها الإجمالي إثر تسلمه الحكم للمرة الثالثة عام 2008، وحصوله على الرقم القياسي كأطول رئيس وزراء للبقاء في حكم إيطاليا؟

ولد برلسكوني في ميلانو بشمال إيطاليا عام 1936، وكان والده مديرا لأحد البنوك، وقد اضطر أثناء دراسته الحقوق إلى الغناء في السفن السياحية لتمويل قسم من نفقات دراسته الجامعية، ثم بدأ حياته العملية كمقاول للبناء في ميلانو. وتزوج وطلق مرتين وأنجب 5 أولاد من الزوجتين. كما أنشأ عام 1980 أول قناة تلفزيونية خاصة في إيطاليا، واشترى منذ ربع قرن نادي ميلان إيه سي لكرة القدم، وأصبح أغنى رجل في إيطاليا يمتلك عدة مؤسسات إعلامية بينها ثلاث قنوات تلفزيونية خاصة وشركات إعلان وتأمين ومصارف وأغذية وبناء. وآخر مشاريعه الإعلامية كان استثماره المشترك مع رجال الأعمال التونسيين طارق بن عمار ونبيل وغازي القروي في قناة «نسمة» الناطقة بالعربية لأنه يحب لعب دور «الأمير العربي» كي يغرق السوق العربية ببرامج الترفيه الإيطالية والإعلانات التجارية.

دخل برلسكوني عالم السياسة عام 1994، وكون حزب «إيطاليا إلى الأمام» مستلهما هتافات محبي كرة القدم، وتسلم الحكم لأول مرة بعد فضائح تمويل الأحزاب السياسية وقيام ما يسمى «الجمهورية الثانية»، لكنه لم يصمد سوى بضعة أشهر ثم عاد مجددا كرئيس للوزراء عام 2001 وبقي في منصبه في تلك الفترة لمدة 5 سنوات متواصلة.

قلد برلسكوني راعيه السياسي بينيتو كراكسي المدفون في تونس، وزعيم الحزب الاشتراكي الإيطالي سابقا الذي شجع برلسكوني على إنشاء قنوات التلفزيون الخاصة، وكانت له مجموعة من المعجبات والعشيقات. لم تتحمل الممثلة فيرونيكا لاريو، الزوجة الثانية لبرلسكوني، ملاحقة زوجها للفتيات الشابات، وطلقته منذ عامين، مما ساهم في مبالغته في علاقاته مع الجنس اللطيف حتى لو أدى الأمر إلى الفضائح التي تزكم الأنوف والملاحقة القضائية مثلما جرى مع الشابة المغربية كريمة المحروق الملقبة بـ«روبي سارقة القلوب» التي أخرجها برلسكوني من السجن مدعيا أنها حفيدة الرئيس المصري السابق حسني مبارك. وبعدها انتشرت أخبار الحفلات الصاخبة في فيلا برلسكوني والكلمة الأفريقية «بونغا بونغا»، أي الرقص ثم المداعبة الجنسية.

يقول ميكيله سانتورو، الإعلامي الإيطالي المشهور بعدائه لبرلسكوني «إن روبي سمعت برلسكوني يصرح في إحدى الليالي بأنه تعلم هذه العبارة لأول مرة بعد لقائه العقيد الراحل معمر القذافي». ويضيف سانتورو «النفاق هو الصفة الأساسية لبرلسكوني، فهو صديق للقذافي يقبل يده ليحصل على العقود التجارية، ثم يضطر لمحاربته كي لا يغضب دول حلف الناتو، ويدعي أنه رب عائلة صالح نهارا، ثم يتحول إلى مغامر عاشق ليلا».

تقول إحدى التسريبات لمكالمات برلسكوني الهاتفية إنه كان يصرح لإحدى الفتيات اللواتي يختلي بهن حين سألته عن مهنته «إنني أعمل كرئيس وزارة في وقت الفراغ». كما أنه قال وهو يتباهى بفحولته رغم بلوغه الخامسة والسبعين وتجديد شعره ووجهه في عمليات تجميل «لن يتمكنوا من اتهامي بأي فساد أو رشوة سوى ملاحقة النساء.. سأغادر هذا البلد القذر الذي سبب لي المرض».

يقول زعيم الحزب الديمقراطي اليساري المعارض بيير لويجي برساني «لقد جرت قضايا برلسكوني الشخصية البلاد نحو التهلكة وطغت على المشاكل الاقتصادية وأزمة الديون، وعليه أن يستقيل من أجل إنقاذ الوطن». لكن برلسكوني بأسلوبه الساحر وابتسامته الفاتنة ولسانه الذلق، حاول مرارا خلق الجو المناسب الإيجابي لتجاوز الأزمة وتسويف المواقف دون اتخاذ قرار حاسم بالتقشف والإصلاح، بل إنه سبب في تهكم الساسة عليه وحتى الصدام مع وزير الاقتصاد الصارم جوليو تريمونتي. وكانت آخر تصريحاته المثيرة للعجب منذ أسبوع «عن أية أزمة تتحدثون؟ المطاعم كلها مليئة بالزبائن والفنادق تعلن أنه لم يبق لديها غرف للحجز ومقاعد الطائرات ممتلئة تماما في الرحلات القادمة والمغادرة لمدة بضعة أشهر» مما يذكر المراقب للأوضاع في إيطاليا بتصريحات إيجابية مخدرة لبرلسكوني منذ سنوات حين دعا المستثمرين لدخول السوق الإيطالية قائلا «لدينا أجمل نساء وسكرتيرات في العالم»! وعد برلسكوني الاتحاد الأوروبي بكثير من الإجراءات لحماية عملة اليورو وخفض الدين العام في إيطاليا لكنه عدل مشروع الميزانية عدة مرات وبقي الوضع هشا يحيطه القلق والخوف من أن تحذو إيطاليا حذو اليونان. فحاول برلسكوني التغلب على الصعوبات بالوجه الواثق المبتسم والنكات التي يطلقها في كل المناسبات، ويقول: «المزاح ليس خطيئة بل يستدعي الضحك». لكن منتقديه يجمعون على أنه نجح في جعل إيطاليا «أضحوكة العالم» لعدم جديتها واستخفافها بالمشاكل التي تحيط بها كالبطالة (23 في المائة في أوساط الشباب) والهجرة غير الشرعية والإنفاق المسرف على الإدارة الحكومية وصندوق التقاعد والتأمين الصحي. وتناقص مؤيدوه تدريجيا حتى أمبرتو بوسي زعيم حزب «رابطة الشمال» المشارك في الحكم وقبله تخلى عنه جانفرانكو فيني زعيم حزب «التحالف الوطني» (الفاشي سابقا) ورئيس مجلس النواب وبيير فرناندو كاسيني زعيم أحد أجنحة الحزب الديمقراطي المسيحي سابقا الذي تحول إلى المعارضة. وكان برلسكوني يصفهم بـ«الخونة»، لكن ثمانية «خونة» جدد تسببوا في عدم حصول حكومة برلسكوني على الأصوات الكافية للثقة في البرلمان منذ أيام. وقد سجل برلسكوني أسماءهم في «لائحته السوداء» أثناء جلسة التصويت، وهو متجهم الوجه على غير عادته. لعله كان يظن أنه قادر على البقاء بأساليب الترغيب والترهيب ولو زال غيره أما الآن فهو يسعى لأن يخلفه جاني ليتا من حزبه «شعب الحرية»، ووزير شؤون رئاسة الوزراء المقرب منه ويده اليمنى في الحكومة أو أحد موظفيه السابقين المحامي في شركاته الخاصة الذي عينه وزيرا للعدل وهو الشاب الطموح أنجلينو ألفانو.

لكن الوضع الضبابي السائد لا يسمح بالكثير من التكهنات الجدية. فالأمر بيد رئيس الجمهورية جورجيو نابوليتانو بعد جولات من الاستشارات خلال الأسابيع القادمة. الأسماء المطروحة حاليا لخلافة برلسكوني أو تشكيل حكومة مؤقتة حتى الانتخابات التشريعية المبكرة في أوائل العام المقبل تشمل: ماريو مونتي المفوض الاقتصادي السابق في الاتحاد الأوروبي وجوليانو أماتو رئيس الوزراء اليساري السابق وكلاهما يحظى باحترام وتقدير أغلب التيارات السياسية.

المشكلة التي تواجهها إيطاليا والتي لا يمكن تحاشيها باللعبة السياسية التقليدية أو النكات الظريفة هي أن إيطاليا تمثل ثالث أكبر اقتصاد في أوروبا وتستطيع أن تهز العالم والاقتصاد الأوروبي والعالمي وتهدد بإلغاء اليورو ومن ثم تفكيك الاتحاد الأوروبي. فالدين الإيطالي بلغ نحو تريليوني يورو (أي أكثر من 2.5 تريليون دولار) وبرلسكوني وإن تملص بذكائه ومناوراته خلال العشرين سنة الفائتة من 106 محاكمات ودفع 200 مليون يورو من النفقات القانونية لمنع صدور حكم نهائي بحقه، لا يمكنه تصور الأزمة الحالية وكأنها مواجهة عصابات الجريمة المنظمة أو جمع القمامة في نابولي بل يبدو وكأنه لم يستوعب بعد طبيعة وأبعاد الأزمة الاقتصادية الراهنة وضرورة إعادة التوازن إلى أوروبا والثقة للممولين في إيطاليا لكي تلعب ألمانيا وفرنسا دورهما القيادي طالما أن إيطاليا غارقة في الديون وتدفع أعلى نسبة من الفائدة للاقتراض (6.7 في المائة)، كما أنها مترددة في القيام بإصلاحات جذرية بل يبدو أنها قد تحتاج إلى حزمة إنقاذ مثل اليونان والبرتغال وآيرلندا.

تستمر الحياة العادية في إيطاليا مهما تبدلت الحكومات وتبقى المطاعم ممتلئة خلال الأزمات، وإن كان الشعور العام هذه الأيام يميل إلى القلق والتشاؤم أكثر من أي وقت مضى. لكن قوة إيطاليا الاقتصادية تعتمد على الإنتاج الفردي والتصدير وتنظيم المجتمع على المستوى المحلي والعائلي، أما السياسة الخارجية فمتروكة لعدم إغضاب الحلفاء وسياسة الحكومة الداخلية متروكة للسياسيين المحترفين الذين يكونون طبقة سياسية منفصلة تتبادل المنافع والبعض من الساسة يفهم الانتخابات المقبلة على أنها فرصة له للتوزير. ولا عجب في ذلك لأن الكاتب السياسي الأول نيكولو ميكيافيللي، والمفضل لدى برلسكوني، ذكر في كتابه الشهير «الأمير» عام 1532 حين قامت إيطاليا الحديثة المكونة من دويلات صغيرة، أنه يجب وضع النتائج السياسية للحكم قبل الفضيلة والمبادئ الأخلاقية، وعلى الحاكم (أو الأمير) أن لا يكون ضحية للحظ بل عليه أن يتكيف مع الظروف ويبتعد عن القيم التي تحد من المرونة السياسية والسيطرة على الحكم بثقة وشجاعة.

هل من نكتة جديدة قد يطلقها برلسكوني قبل تنحيه وتركه الحكم نهائيا وموافقة البرلمان على الموازنة وإجراءات التقشف لتدخل التاريخ؟ وهل يجرؤ الآن على وصف الألمان بأنهم «متكبرون أجلاف، من ذوي الشعر الأحمر، ويتجرعون الجعة»، كما فعل مع أحد المسؤولين الألمان عام 2003 مما سبب إلغاء المستشار الألماني شرودر إجازته السنوية في إيطاليا؟ حين سألوا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قبل أسبوعين عن رأيها في سياسة برلسكوني الاقتصادية تحاشت الإجابة ونظرت إلى السقف ثم ابتسمت!