وقفات في حياة الإسكندر الأكبر

TT

يظل الإسكندر الأكبر بكل إنجازاته إحدى أغرب الشخصيات التاريخية، فقد أنجز في عمر مبكر ما لم ينجزه غيره في قرون، بل إنني أذكر مقولة أستاذ لي في علم الاستراتيجية تؤكد على أن الإسكندر وجنكيز خان هما الوحيدان اللذان يمكن تصنيفهما على اعتبارهما «قيادات عالمية»، لأنهما احتلا قارات وأراضي شاسعة في العالم المعروف أكثر من غيرهما، ومن أي قيادة عسكرية أتت بعدهما. وهذه المقولة لها ما يبررها في التاريخ والعلوم العسكرية، لكن الإسكندر كانت له إسهامات كثيرة في كل الجوانب، كما أن شخصيته كانت محل اختلاف بين المؤرخين. وقد حاول المخرج السينمائي العظيم «....» رسم صورة قريبة لشخصية الرجل، لكننا هنا سنقتصر على بعض الجوانب الخاصة بحياة الإسكندر الأكبر لطبيعتها المختلفة وهي على النحو التالي:

أولا: إن العلاقة الزوجية بين والد الإسكندر وأمه كانت مضطربة للغاية، لكن أخطر ما في الأمر كان تأثير أمه السلبي عليه، فمن المعروف تاريخيا أن الملك فيليب والد الإسكندر أخضع إقليم مقدونيا لحكمه، لكنه كان يعاني بقوة من شعور بالنقص الثقافي، والقيمة الثقافية كانت مهمة للغاية، وهو ما دفعه لأن يتزوج أم الإسكندر، وكانت من خدمة المعبد وكانت تنظر له بنظرة تدن، وسرعان ما ترجمت هذه النظرات إلى قناعة بأنها على علاقة بالآلهة وأنها على اتصال بالإله زيوس، بل تشير بعض المصادر التاريخية إلى أنه في إحدى الليالي دخل فيليب على زوجته فوجدها تضحك وتغازل رجلا لكنه لم يجد شخصا، فلما سمعته هددته بأن زيوس ما كان ليسمح بذلك وأنه سيعاقبه، وبالفعل في المعركة التالية فقد فيليب إحدى عينيه، ومنذ ذلك التاريخ اقتنع الرجل بأن زوجته محبوبة الإله، فابتعد عنها وخشي الاقتراب منها.

ثانيا: ارتباطا بما سبق، فإن والدة الإسكندر سرعان ما أقنعته بأنه سليل الآلهة، وأن لديه رسالة للإنسانية حملته إياها الآلهة، وبالفعل بدأ الطفل يقتنع بكلام والدته، وهذا ما دفعه للذهاب إلى واحة سيوة بمجرد أن احتل جيشه البلاد للقاء كبير كهنة معبد آمون، وقد استغرقت هذه الرحلة قرابة سبعة أسابيع، وقد اختلفت الروايات في تفسير هذه الزيارة، فعلى حين يرى البعض أن الإسكندر فعل ذلك للتقرب من المصريين، فإن الثابت تاريخيا هو أن الرجل لم يكن يأبه بالمصريين أو بمصر نفسها التي كانت مجرد أرض جديدة يحكمها في إطار تنفيذ حلمه، لكنه كان متأثرا بشكل كبير بالعقيدة الفرعونية بسبب أمه، ولأنها كانت مصدر الفكر الديني الهيليني فكان الهدف الأساسي هو حسم قضية نسبه للآلهة، وقد استحسن الرجل ما سمعه وعرف بعدها أنه من سلالة إلهية، كما أنه لم يكن ليلام على مقتل أبيه، ويقال إن خوذته التي كان يلبسها على رأسه كانت تشمل جناحين، الأول للإله زيوس كبير الآلهة اليونانية، والثاني لآمون كبير آلهة الفراعنة، واللذين كانا واحدا لكن يُرمز لهما بجناحين، وهكذا ثبت يقين الرجل بأنه نصف إله.

ثالثا: تعد معركة «جواجاميلا» أو «أرابيلا» أهم معركة حربية للإسكندر، حيث تجلت خلالها قدرته كمغامر قبل أن يكون قائدا عسكريا محنكا، وتجدر بنا الإشارة هنا إلى أنه على عكس ما يشاع أيضا عن دور الإسكندر في تشييد الجيش المقدوني، فإنه من الثابت تاريخيا أن الرجل ورث جيشا قويا عن أبيه، برجاله وتسليحه وعتاده وبالأخص جنرالاته. وقد دخل الإسكندر معركته الشهيرة وجيشه فقير مقارنة بجيش الملك «داريوس» ملك الفرس، فكان تعداد الجيش الفارسي يفوق تعداد جيشه قرابة خمسة أو ستة أضعاف، لكنه كان يعاني من علل الجيوش الفارسية المتعاقبة وعلى رأسها الثقل الحركي وعدم التجانس العرقي، وقد رأى الإسكندر في هاتين الوسيلتين فرصته الذهبية، فعقد العزم على استخدام مناورة من بنات أفكاره لم تستخدم من قبل، فقاد خيالته وحرسه وتحرك بهم شرقا لمسافة كيلومترات على امتداد جيش فارس، وقد أربك هذا التحرك فكر «داريوس»، وفي لحظات قرر الإسكندر اختراق الجيش الفارسي بميل متجها نحو قلب الجيش حيث يجود الملك الفارسي بكل قوته وثقله، فما كان من الأخير إلا أن هرب تاركا جيشه بلا قيادة، فانهزم الفرس شر هزيمة وتشتتت أوصال جيشهم.

إن المتأمل للفكر التكتيكي التلقائي للإسكندر سيجد أنه التزم بالقاعدة العسكرية الأولى وهي بساطة الخطة، فكلما تعقدت الخطة العسكرية قلت فرص نجاحها، كما أنها كانت بكل المعايير حاسمة وسريعة تغلب خلالها على نقص العدد والعتاد بالتركيز التكتيكي على عنصر ضعف جيش الخصم.

* كاتب مصري