السبسي.. منقذ المرحلة الانتقالية في تونس

يتمتع برصيد سياسي جمعه طوال سنواته الـ85.. ومقدرته على التحاور والإقناع

TT

لا يمكن الحديث عن فترة الانتقال الديمقراطي في تونس دون الحديث عن الباجي قائد السبسي، رئيس الحكومة المؤقتة الذي جاء إلى رئاسة الوزراء في وقت دقيق من عمر الثورة. الكثير من المراقبين قالوا إن الرجل ابتعد عن عالم السياسة وعايش 5 بايات من حكام تونس، ولم يعد على صلة وثيقة بالتطورات الهائلة التي عرفتها الساحة السياسية. ولكن عودته يوم 27 فبراير (شباط) الماضي، خلفا لمحمد الغنوشي كانت من الباب الكبير، فقد تمكن في لحظات وجيزة من إعادة الأمور إلى نصابها بعد حالة من الانفلات الأمني التي عقبت الإطاحة بنظام بن علي.

الباجي قائد السبسي من مواليد 26 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1926، وهو بعد أيام قلائل سينهي عامه الخامس والثمانين. خبرته السياسية، وتتلمذه على يد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، جعلت منه سياسيا قادرا على إدارة الأزمات، وما أكثرها في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة. فقد تولى بين 1963 و1991 عدة مسؤوليات مهمة في الدولة التونسية. ولكنه من بين التونسيين القلائل الذين حضروا مجلسين تأسيسيين، الأول سنة 1956 وهو يؤسس للدولة التونسية الناشئة والثاني سنة 2011، وهو يؤسس بدوره لمرحلة سياسية جديدة تحمل عنوان «الجمهورية الثانية».

نشأ قائد السبسي في كنف عائلة قريبة من البايات الحسينيين ودرس في كلية الحقوق في باريس التي تخرج فيها عام 1950 ليمتهن المحاماة بعد سنتين. وهو يعتبر من أعيان البلاد في تونس، أو ما يطلق عليهم التونسيون عبارة «البلدية»، نسبة إلى تونس العاصمة والمدن الكبرى الأخرى. انضم الباجي قائد السبسي إلى الحزب الحر الدستوري الجديد في عقد الأربعينات إلى جانب الحبيب بورقيبة وكبار المناضلين السياسيين المطالبين باستقلال تونس عن فرنسا. وهذا ما أهله إلى أن يعتمده بورقيبة بعد الاستقلال. عمل مستشارا ثم مكلفا بإدارة جهوية في وزارة الداخلية. ومطلع عام 1963 عين على رأس إدارة الأمن الوطني بعد إقالة إدريس قيقة على خلفية المحاولة الانقلابية التي كشف عنها في ديسمبر (كانون الأول) عام 1962 التي اتهمت بتدبيرها مجموعة الأزهر الشرايطي عام 1965.

وتمكن الباجي قائد السبسي من الوصول إلى خطة وزير للداخلية سنة 1965 بعد وفاة الطيب المهيري أحد رموز النضال التونسي ضد الاستعمار. وساند قائد السبسي التجربة التعاضدية (تجربة اشتراكية) التي قادها أحمد بن صالح، إلا أن فشل التجربة وتعرضها لانتقادات كثيرة من قبل الحبيب بورقيبة جعلت الباجي قائد السبسي يتولى حقيبة بعد إقالة بن صالح في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1969، وبقي في منصبه لغاية 12 يونيو (حزيران) من سنة 1970 ليعين سفيرا في باريس.

ولكنه لم يكن منغلقا من الناحية السياسية، وهو المحامي من حيث التكوين، تماما مثل الحبيب بورقيبة. ولعل الجيل الأول للاستقلال قد توزع بين التشبه ببورقيبة في شخصيته و«الكاريزما» السياسية التي كان يتمتع بها، أو أنه خالفه المسار وبنى شخصية خارج «خيمة» بورقيبة. وتمكن من الدخول إلى عالم السياسة قريبا من بورقيبة إلا أنه في الوقت المناسب خرج عن بورقيبة وهو ما جعل هذا الأخير يجمد نشاطه في الحزب الاشتراكي الدستوري (الحزب الحاكم منذ استقلال تونس سنة 1956)، وكان ذلك سنة 1971. وكان قد أيد حينها دعوات إصلاح النظام السياسي وهو ما ظل التونسيون يحسبونه لقائد السبسي بل إنه سنة 1974 خرج تماما من الحزب لينضم للمجموعة المطالبة بالانفراج السياسي إلى جانب أحمد المستيري، وهو ما أدى لاحقا إلى تأسيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين سنة 1978. وتولى في تلك الفترة إدارة مجلة «ديمكراسي» (ديمقراطية) المعارضة، علما أنه معروف بنزعته الليبرالية.

ولكن توالي الأمور العصيبة على تونس نهاية عقد الثمانينات ودخول بورقيبة ما يسميه المؤرخون مرحلة «الرجل المريض»، جعلت قائد السبسي يعود من جديد إلى الحكومة التونسية وكان ذلك في 3 ديسمبر 1980. وعين وزيرا معتمدا لدى الوزير الأول الذي كان حينها محمد مزالي الذي سعى إلى الانفتاح السياسي. وفي 15 أبريل (نيسان) من سنة 1981 عين وزيرا للخارجية خلفا لحسان بلهوجة. وبقي في خطته تلك لمدة ست سنوات أي إلى غاية سنة 1986. ودائما يحسب للباجي قائد السبسي عدم انغماسه في الفساد المالي والسياسي وهو ما جعل رجوعه إلى عالم السياسة بعد الثورة يجد القبول الجيد من قبل كل الفرقاء السياسيين.

وعلى الرغم من تعاظم دور الإسلاميين مع منتصف عقد الثمانينات فإن الباجي قائد السبسي لم تصدر عنه مواقف سياسية ضد تلك الحركات ومرت الفترة بين 1984 و1987 سنة وصول زين العابدين بن علي إلى الحكم دون مشاكل تذكر وهو ما أهله إلى أن ينتخب في الانتخابات البرلمانية الأولى التي أجريت سنة 1989 في العهد الجديد لابن علي بل إنه تولى رئاسة مجلس النواب بين 1990 و1991.

ومع انتهاء ولايته كنائب سنة 1994، عاد لممارسة مهنته كمحام وبقي دائرة الحسابات السياسية لابن علي، ولم يسع الباجي قائد السبسي بخبرته السياسية الواسعة إلى الدخول إلى المشهد السياسي لمعرفته المسبقة بطبيعة نظام بن علي وأدى دور المتفرج بامتياز ولم تصدر عنه أية تعليقات تذكر حول ملف حقوق الإنسان أو أثناء المحاكمات السياسية أو كذلك خلال سنوات قمع الحريات الفردية والجماعية ورجع لممارسة مهنة المحاماة في إطار محايد تماما.

قائد السبسي أعادته مخلفات الثورة وخلافاتها إلى الواجهة كوجه سياسي قادر على إدارة صراع المرحلة السياسية الجديدة في تونس بعد الإطاحة بنظام بن علي. وعلى الرغم من النجاح السياسي الذي يحسب له في إيصال البلاد إلى موعد انتخابات المجلس التأسيسي دون خسائر فادحة، فإنه اليوم وهو يصرح بأن السياسي لا يتقاعد من عالم السياسة يلمح إلى إمكانية لعب دور سياسي جديد في مرحلة شرعية المجلس التأسيسي، خاصة بعد الخلافات التي طفت على السطح بين الأحزاب السياسية الثلاثة التي فازت بالمراتب الأولى في انتخابات المجلس، وهي: حركة النهضة، والمؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات.

ويرشحه التونسيون من جديد لرئاسة الجمهورية كوجه سياسي قادر على التوفيق بين الفرقاء السياسيين. ومع النجاح السياسي الذي حققه طوال نحو ثمانية أشهر، فإن القبول النهائي بوجوده لا يزال محل أخذ ورد. فالمنصف المرزوقي، زعيم المؤتمر من أجل الجمهورية، دعا قائد السبسي وكل «الوجوه القديمة في الحكومة» إلى أن يتركوا المجال لغيرهم لخدمة تونس في المرحلة الانتقالية الجديدة. وقال: «نشكر السيد الباجي قائد السبسي على نجاحه في قيادة البلاد نحو الانتخابات ويكفيه هذا الدور». وأشار إلى «وقوع حكومته في أخطاء عددناها في إبانها». ومع ذلك فقد تمسك بإجراء انتخابات المجلس التأسيسي في موعدها ونجح في تثبيت ذلك الموعد على الرغم من الدعوات الكثيرة إلى التأجيل مرة وراء أخرى. تمكن الباجي قائد السبسي من تجاوز محنة تصريحات فرحات الراجحي وزير الداخلية بعد الثورة، وأخرج مناشدي الرئيس السابق بن علي من سباق انتخابات المجلس التأسيسي، وتمكن من تكوين حكومة لا تضم وزراء سابقين في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.

هدد قائد السبسي أكثر من مرة بالاستقالة من رئاسة الحكومة المؤقتة، وذلك تحت ضغط الملفات الشائكة التي كانت تعرض عليه، إلا أن العملية كانت من قبيل المناورة السياسية لا غير حسب المتابعين للمشهد السياسي التونسي، فهو يعمل من خلال تلك التهديدات لمعرفة مدى قبول التونسيين لوجوده على رأس الحكومة المؤقتة. ولذلك تمكن رغم الضغوط الهائلة التي رافقت الأشهر التي تلت الإطاحة بنظام بن علي، من المحافظة على توازنه وواصل تسيير البلاد مناديا أولا بإرجاع هيبة الدولة التونسية وهو ما شاطرته فيه كل القوى السياسية.

ولكن تعثره في افتتاح أشغال ندوة دولية حول «العدالة الاجتماعية ومقاومة الإقصاء في زمن الانتقال الديمقراطي»، أقيمت في تونس العاصمة، أثار تساؤلات حول حالته الصحية. وطالب التونسيون بملف صحي للباجي ولفؤاد المبزع (رئيس الجمهورية المؤقت) وكلاهما تجاوز الثمانين من العمر، إلا أن رده في كل مرة أن حالته الصحية حسنة وأنه سيواصل السياسة، وأن السياسي لا يتقاعد، قائلا باللهجة التونسية «أنا فخار بكري ما نتكسرش (لا أنكسر) بسهولة». ولكنه مع ذلك تعثر عثرة قوية. فقد تعرض يوم 6 سبتمبر (أيلول) الماضي لاعتداء من قبل أحد المتظاهرين على خلفية وصفه لأعوان الأمن بـ«القردة» وهو صف خلف امتعاضا كبيرا لدى أوساط مختلفة من التونسيين واعتبره البعض من قبيل زلات اللسان لا غير.

وواجه قائد السبسي موجة شديدة من الغضب في أوساط رجال الأمن وبعض السياسيين والحقوقيين في تونس إثر تصريحاته، والتي أتت بينما تشهد البلاد حالة من التوتر الأمني قبيل أسابيع على موعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي. ومع ذلك فقد تمكن بحنكته السياسية وتجربته الطويلة من امتصاص الغضب الشعبي، ولكن بعد أن قام بإيصال الموقف الذي أراد والذي قد يكون يعنيه واعتذر بعد ذلك عما صدر عنه.

قد يغادر الباجي قائد السبسي قصر الحكومة بالقصبة خلال الأيام القليلة القادمة وهو يؤكد أن انتخابات 23 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي مثلت حدثا هاما يضع تونس في قلب اهتمام العالم. ويردد من ناحية أخرى أن الحكومة يكفيها فخرا النجاح في ضمان انتخابات حرة ونزيهة كي تقول بأنها نجحت في المهمة التي أتت من أجلها ووفقت في الحفاظ على الأمانة التي عهدت إليها.

قد تختلف مع قائد السبسي وطريقة إدارته للبلاد واللين الذي أظهره في فترة ما تجاه الاحتجاجات السلمية، ولكن كل المتتبعين للفترة التي قضاها في رئاسة الحكومة يشهدون له بالقدرة الفائقة على التحاور وعلى الإقناع وعلى تأجيل بعض الملفات بالإضافة إلى قدرته الكبيرة على الظهور كرجل دولة في كافة المحافل الدولية وهو ما قد يفتقده الساسة الجدد الذين قضوا وقتا طويلا على كراسي المعارضة ولم يتمكنوا من ممارسة ما يسمى «منزلقات السلطة».

يتمتع قائد السبسي برصيد سياسي هائل برهن عنه خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة. فقد عايش أجيالا سياسية من مختلف التوجهات والأعمار وهو ما يجعل الكثير من السياسيين يتغافلون عنه في بعض الفترات ولكنهم سرعان ما يعودون إليه عندما تغلق كل السبل وهو يدرك تماما أن مفتاح كثير من الملفات لديه.

والآن يبدو أن الباجي قائد السبسي يعد حقائبه ويستعد للخروج مجددا من المشهد السياسي الذي أصبح يتصدره حزب حركة النهضة ورئيسه الشيخ راشد الغنوشي فهل السياسي الذي نشأ وترعرع بين دهاليز السياسة يمكن أن يضع يوما حدا لمغامرته السياسية. كل الأحداث تقول إن قائد السبسي يعود بين فترة وأخرى وهو لا يعترف بالزمن وله قدرة كبيرة على التأقلم مع الظروف السياسية ومحاورة حلفائه وخصومه فهل يجد فرقاء ما بعد انتخابات المجلس التأسيسي الحل في عودة قائد السبسي من جديد؟

وقبل قرار بقائه في رئاسة الحكومة من عدمه، يقول الباجي قائد السبسي إنه «يتمنى أن يحترم من سيأتون بعده الالتزامات التي عهد بها إليهم وأن يسلموا الأمانة لمن يأتي بعدهم»، فهل هذا إعلان صريح عن نيته مغادرة قصر الحكومة بالقصبة؟