«احتل وول ستريت».. الرأسماليون يكسبون الجولة الأولى

نجح رجال الأعمال بنيويورك وعدد من المدن الأميركية في معركتهم ضد المتظاهرين ودفعوا بهم لإخلاء الساحات

TT

صباح الثلاثاء الباكر، هجمت شرطة نيويورك على متظاهري «وول ستريت»، وأجلتهم، واعتقلت الذين قاوموا الإجلاء. وكان يرافق الشرطة عمال النظافة، الذين جمعوا بقايا الخيام والملابس والطعام والشراب في أكوام. وكانت ترافق عمال النظافة سيارات جمع الأوساخ التي جمعت الأكوام. وخلال ساعات قليلة، عاد ميدان «زوكوتي» ميدانا جميلا كما كان قبل ثلاثة شهور، قبل أن تبدأ حملة «احتل وول ستريت».

وقال مايكل بلومبيرغ، عمدة المدينة، إنه اضطر لأن يفعل ذلك، ليس لأنه ضد حرية التعبير، ولكن لأن المكان صار غير صحي، وغير آمن. وقال: «إذا خيرت بين الحرية والأمن والصحة، لا بد أن أضحي بقليل من حرية الفرد من أجل أمن وصحة المجتمع».

لكن، صار واضحا أن رجال الأعمال والمسؤولين في الشركات والبنوك في «وول ستريت» ضغطوا على العمدة. وصار واضحا أن «وول ستريت» انتصرت على «الاحتلال»، ولو مؤقتا.

ليس في نيويورك فقط، ولكن في مدن أخرى كانت شهدت «الاحتلال». وكانت جان تشيوان، عمدة أوكلاند (ولاية كاليفورنيا) أمرت بالشيء نفسه، وقالت إن ذلك جزء من حملة منسقة في 18 مدينة. غير أن عمدة واشنطن العاصمة وعمد مدن أخرى، رفضوا الانضمام إلى الحملة، وظل «المحتلون» في ميداني «ليبرتي» و«ماكفرسون» القريبين من البيت الأبيض.

خلال الشهر الأول من «الاحتلال»، وخاصة في «وول ستريت»، بدا وكأن رجال الأعمال ورؤساء الشركات والبنوك خائفين على أنفسهم وعلى النظام الرأسمالي كله، وذلك لأن «الاحتلال» صار عالميا، وبدا وكأن العالم كله سوف يثور ضدهم. لكن، في وقت لاحق، تحول الخوف إلى تحد: إن مجموعة من الشباب والعاطلين والمشردين لن تقدر على إسقاط النظام الرأسمالي.

في الحقيقة، وبعد أيام الحماس الأولى، صار واضحا لكثير من الناس، وليس فقط لرجال الأعمال، أن الحملة ضد الطمع والجشع يجب أن لا تتحول إلى معسكر خيام. ثم انتشرت أخبار عن وقوع جرائم وسط الخيام، وعن ما سمي «فري سكس» (الجنس المجاني) وسط المتظاهرين والمتظاهرات. وعندما طالب متظاهرون ومتظاهرات بتوفير تسهيلات لمنع انتشار مرض «الايدز»، صار واضحا أن الكيل قد طفح، وأن الهدف الأخلاقي من المظاهرات قد تلطخ بأشياء غير أخلاقية.

ووجد رجال الأعمال فرصتهم. وبدأت احتجاجهم، قبل نيويورك، في أوكلاند.

هناك أرسلت الغرفة التجارية برقية إلى العمدة جاء فيها: «لا يبدو أن العمدة وأعضاء مجلس المدينة يدركون أن أعمالنا التجارية والنشاط الاقتصادي في المدينة تعتمد على نسبة التسعة وتسعين في المائة. ها نحن نرى أن نسبة واحد في المائة من الزبائن والمستهلكين أضرت بمصالح التسعة وتسعين في المائة».

هذه إشارة (لا تخلو من خبث) إلى شعار «الاحتلال» بأن نسبة واحد في المائة من الأميركيين تسيطر على الاقتصاد الأميركي، على حساب نسبة التسعة وتسعين الباقية. ومثلما كان «الاحتلال» انتشر في مدينة بعد أخرى، انتشرت «المقاومة» بالطريقة نفسها.

في نيويورك، كانت أول الذين احتجوا في حملة صحافية وتلفزيونية هي ماليسا اندريف، صاحبة محل لبيع الشوكولاته في «وول ستريت»، وهو محل صغير، لكنه أنيق. وطبعا، أكثر زبائنه من موظفي وموظفات «وول ستريت»، وليس من شباب وشابات «الاحتلال». وهو قريب جدا من مبنى البورصة.

قالت اندريف: «انخفض عدد زبائني إلى الصفر تقريبا. كيف أعيش مع هذا الاحتلال؟» وأضافت أن المشكلة ليست فقط المتظاهرين والمتظاهرات، ولكن، أيضا، الشرطة التي وضعت الحواجز، وسيارات الحريق والإسعاف، والحمامات المتنقلة، ورائحة الطعام التي تصدر من الخيام. وقالت: «ربما يمكن أن تسقط الرأسمالية بهذه الطريقة، بأن لا يقدر الناس على أن يشتروا ويبيعوا. لكن، هل هذا هو الهدف؟» وأضافت: «لست ضد المتظاهرين، لكني أريد أن أعمل، ولا أقدر على أن أعمل بسببهم».

وقليلا قليلا، تأكد ما كان البعض أشاروا إليه منذ البداية، وهو أن «الاحتلال» ليس هو الحل، رغم تأييد كثير من الناس للاحتجاج على الفساد والطمع. وفي استفتاء أجري في كل الولايات المتحدة، قالت نسبة سبعين في المائة تقريبا من الأميركيين إنهم متأكدون من وجود فساد وطمع في «وول ستريت». لكن، قالت نسبة ثمانين في المائة في واشنطن إن «الاحتلال» ليس هو الحل.

ومن المفارقات، أن المحتجين كانوا اشتكوا في البداية من إهمال الإعلام والصحافيين لهم. ولهذا، قبل شهرين، تحركوا في نيويورك وخرجوا من منطقة «وول ستريت» إلى شوارع وجسور قريبة، واشتبكوا مع الشرطة. وقالوا إنهم فعلوا ذلك للفت أنظار الصحافيين. وفي البداية، نجحوا، وأسرعت كاميرات التلفزيون تصورهم، وتصور خيامهم. لكنها في وقت لاحق، بدأت تصور أكوام القاذورات، والمشردين الذين انضموا إلى المتظاهرين. ثم جاءت أخبار «الجنس المجاني» و«الايدز». ثم انقسم قادة «الاحتلال».

ونشرت الصحف ونقلت كاميرات التلفزيون وامتلأت مواقع الإنترنت بنقاشات وسط منظمي المظاهرات حول أثر المظاهرات على الصحة العامة، والأمن العام، والبيع والشراء. وفي أوكلاند (في ولاية كاليفورنيا)، نقلت التلفزيونات عراكا بين قادة المظاهرة هناك لأن بعضهم ذهب واعتذر لأصحاب المحلات التجارية التي تأذت بسبب المظاهرات.

وأيضا، من المفارقات أنه بينما كانت الحركة بدأت بمحاولات المتظاهرين كسب «الأغلبية الصامتة» وسط الأميركيين، انتهت بأن كسب الرأسماليون هذه الأغلبية، متمثلة في أصحاب المتاجر الصغيرة وزبائنهم. وفي أوكلاند، حيث انهار «الاحتلال» قبل نيويورك، نقلت التلفزيونات آراء «الأغلبية الصامتة»:

قالت شاري ريفر، صاحبة مقهى «تولي كوفي»: «أنا استأجر جزءا من مبنى يطل على ساحة فيها الخيام والمعسكرات. وأريد من عمدة المدينة أن تعوضني وتدفع لي الإيجار لمدة الأربعة أيام التي اضطررت خلالها لإغلاق المقهى بسبب توتر الموقف في المكان بسبب حملة الشرطة ضد المتظاهرين». وأضافت: «دمروا المكان، وكسروا النوافذ، وتبعثر وتحطم كل شيء. صار مثل منظر في فيلم مخيف. في الحقيقة، جلست وسط الأكوام وبكيت».

وقال هنري جوانيانيا، المهاجر من المكسيك والذي يجر عربة يبيع فيها أطعمة ومشروبات خفيفة، وكان مكانه المفضل هو حيث نصب المتظاهرون خيامهم: «هؤلاء فقراء، ولا يشترون مني. ثم إنهم يطبخون ويأكلون ويشربون اعتمادا على تبرعات الناس. لن يشتروا مني ولا سندوتشا واحدا، ولا علبة كوكا كولا واحدة. لماذا هذا الظلم؟» وأضاف: «بعض المتظاهرين (الطيبين) اعتذروا لي. لكن بعضهم قال: (نحن معك إذا صرت معنا. أنا لست مع أحد، ولست ضد أحد. أنا مع عربتي هذه، وأريد أن أعيش)».

وهكذا، أسقط في أيدي قادة «الاحتلال». وجدوا أن حربهم مع طمع وجشع رجال الأعمال ورؤساء البنوك تحولت إلى حرب مع أصحاب المتاجر الصغيرة، ومع زبائنهم. وصار المتظاهرون وكأنهم نسبة واحد في المائة، ضد نسبة التسعة وتسعين في المائة من الشعب الأميركي.

لكن، في واشنطن العاصمة استمر «الاحتلال». وتحدث إلى «الشرق الأوسط» عدد من «الصامدين» في ميدان «ماكفرسون». فقالت ميليسا راندولف، طالبة جامعية من ماديسون (ولاية ويسكونسن)، إنها تركت الجامعة للفترة الدراسية الحالية، والتي ستنتهي مع بداية عطلة عيد الميلاد، حتى تقدر على أن تشارك في «الاحتلال». وقالت: «أعرف أننا أقلية وهم أغلبية، وأننا ضعفاء وهم أقوياء. هذا مثل صراع (ديفيد أند غولياث). لكن، هل تعرف من الذي انتصر في النهاية؟».

غير أن ماثيو غريبالون، وهو أسود كبير في السن، قال إنه قضى كل حياته يتظاهر «من أجل الضعفاء والمساكين»، وكان يحمل الكتاب المسيحي المقدس في يده، قال: «نحن هنا مسالمون. ونحن لا نعرقل عمل الموظفين والذين يريدون أن يشتروا أو يبيعوا. نعم، أخطأ المتظاهرون في نيويورك عندما خرجوا من ميدان (وول ستريت)، واحتلوا كوبري (بروكلين). ونعم، أخطأ المتظاهرون في أوكلاند عندما اشتبكوا مع الشرطة، وحطموا النوافذ الزجاجية للمحلات التجارية». وأضاف: «هنا أنا أقول لهم إن رسالة الإنجيل هي السلام. كيف نقدر على تحقيق العدالة إذا لم نحقق السلام. أنا أقول إن السلام أولا، ثم العدالة».

ورفض ثالث نشر اسمه، لكنه تحدث كثيرا عن «ظلم» الصحافيين للمتظاهرين. وقال إن التغطية الصحافية كانت، في البداية، إيجابية، ثم صارت سلبية. وقال: «ماذا أقول؟ لقد صرتم جزءا من الرأسمالية التي نحاربها. صرتم جزءا منها إما لأنهم اشتروكم، أو لأنكم خائفون منهم». كان يحمل جهاز تلفزيون نقالا، وقال: «كل ما أشاهد في التلفزيون هو مناظر العلب والزجاجات الفارغة. أين القضية؟ أين الحق؟» واستمر يشتكي كثيرا وبصوت عال.

لكن، الذي يزور المكان يرى، حقيقة، أكوام القاذورات، وعلب المشروبات، وأكياس المأكولات، وصناديق البتزا والهامبورغر. ولحسن الحظ، وضعت بلدية واشنطن حمامات متنقلة بالقرب من المتظاهرين.

السؤال هو: إلى متى؟ متى سيقدر «الاحتلال» على إصلاح مفاسد الرأسمالية، إن لم يكن إسقاطها؟ بعد «احتلال» ستة شهور؟ ستة سنوات؟

غير أنه لا بد من الاعتراف بحسن نية وحماس عدد كبير من المتظاهرين والمتظاهرات. ويبدو أنهم الأغلبية وسط آخرين يبدو أنهم مشردون، أو غوغائيون، أو فوضويون، أو ربما حتى مجرمون، اندسوا وسط المتظاهرين.

وهناك جدية وسط أكوام القاذورات. نظموا الخيام، وصارت هناك «شوارع» بينها. ووضعوا خيمة المطبخ إلى جانب، وقسموا العمل بين الذين يقدمون قهوة الصباح، والذين يوفرون عوامات للفطور، وغيرهم. وهناك مولد كهرباء في الميدان، وخيمة للإسعافات الأولية، وخيمة عبارة عن مكتبة (من بين الكتب فيها: «ثروة الشعوب» الذي كتبه أبو الرأسمالية، أدم سميث).

هل سينتهي «احتلال» واشنطن؟ ومتى؟

قال ديفيد شلوستر، المتحدث باسم «بارك بوليس» (شرطة الحدائق والميادين التي فيها البيت الأبيض ومبنى الكونغرس والنصب التذكارية): «في مرات، اشتبك متظاهرون مع الشرطة. واشتكى من الإزعاج أصحاب المحلات التجارية القريبة. وفي المنطقة ارتفاع في الجريمة. وفيها اعتقالات بسبب اعتداءات على ناس وممتلكات، وحيازة مخدرات، والسلوك المخل بالنظام».

لكنه أضاف: «الآن نحن نعمل على تسهيل حقوقهم في حرية التعبير حسب الدستور».

وقالت ماري شيه، عضو مجلس بلدية واشنطن عن المنطقة التي فيها الميدان: «أعتقد أن علينا أن نواصل مراقبة الوضع. عندما تصبح الصحة في المكان وفي المرافق الصحية مشكلة تهدد المنطقة، أو عندما تصبح السلامة قضية، سنريد أن نطلب منهم مغادرة المكان بالليل». وقالت إن القضية لم تكن قط حرية التعبير، ولم تكن حتى نوم المتظاهرين في الميدان ليلة واحدة مثلا. لكن، العيش والأكل والشرب والإقامة في خيام وسط المدينة لا يبدو شيئا إيجابيا أو صحيا أو أمنيا.

وأول من أمس، قالت كاثي لانيير، مديرة شرطة واشنطن: «مؤخرا، زادت مواجهاتنا معهم». ومثلما حدث في أوكلاند وفي نيويورك وفي مدن أخرى، اشتكى أصحاب المحلات التجارية المجاورة.

وقالوا كلهم، الشرطة ورجال الأعمال، إنهم يأملون في أن يدفع البرد الشديد القادم المتظاهرين للتخلي عن النوم في الخيام، والبحث عن غرف في فنادق، أو العودة إلى من حيث أتوا.

وأخيرا، هل سيهزم البرد «الاحتلال» نهائيا، بعد أن هزمته «المقاومة» من قبل رجال الأعمال وأصحاب المحلات التجارية والمشفقين على الصحة العامة والأمن العام؟

انتهى «الاحتلال» أو لم ينته، سبب مشكلات صحية وأمنية أو لم يسبب، فإنه أثار اهتمام الأميركيين والشعوب الأخرى بقضية تاريخية وحتمية، وهي الصراع بين الأغنياء وغيرهم. ولم تكن صدفة أن «احتلال» وول ستريت انتشر إلى لندن وباريس وروما وسيدني وغيرها من عواصم العالم. لكن، أخطأ المتظاهرون في نصب خيام يعيشون فيها من دون تحديد هدف معين، أو مدة معينة.