الدولة ورجل الدولة

TT

كثيرا ما نستخدم لفظ رجل الدولة statesman لنعبر عن الشخصية السياسية المحنكة وذات القدرات العالية التي يمكن لها أن تقود بلادها داخليا وخارجيا سواء في الظروف الصعبة أو حتى الطبيعية، والأمثلة التاريخية عديدة على رجال الدولة، منهم تشرشل ومترنيخ وشارل ديغول ومحمد علي وغيرهم، وعلى الرغم من عدم وجود تعريف محدد لمفهوم رجل الدولة فإننا يمكن أن نضع له بعض المعايير، فيقال إن الصفة الأساسية هي أن هذا السياسي تكون عنده القدرة على القيادة وأن يرتكز هدفه الأساسي على دولته ورفعتها، ومن سمات هذه الشخصية أيضا القدرة على وضع رؤية استراتيجية نافذة لتحقيق أهداف الدولة ناهيك عن القدرة على تحقيق هذه الرؤية بما ينعكس على قوة وعظمة الدولة، ويضاف إلى كل ما سبق أن تكون لدى هذه الشخصية القدرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب تحت أي ضغط؛ فما فائدة الرؤية والقيادة والعمق الفكري في حالة غياب القدرة على اتخاذ القرار وتنفيذه؟

هذه بصفة عامة هي الصفات الأساسية لرجل الدولة، ولكن تطور هذا المفهوم في العصر الحديث ارتبط بشكل مهم بالتطورات السياسية على الساحة الدولية، خاصة الأوروبية والتي كانت المقياس الأساسي للتقدم السياسي في ذلك الوقت، ويمكن أن نُرجع الجذور الحديثة لمفهوم «رجل الدولة» في السياسة إلى القرن السابع عشر، وهي الفترة التي كانت تتخلص فيها أوروبا من المفاهيم التقليدية لتكوينات الدولة على أسس إقطاعية وفساد المؤسسة الدينية وحلم الدولة الأوروبية الواحدة.

عند هذا الحد بدأت أوروبا تتجه نحو مفهوم «الدولة القومية»، أي الكيان السياسي المبني على الأسس القومية والعرقية ووحدة الشعوب وليس الإقطاعية أو الدينية، وقد أسفرت حرب «الثلاثين عاما» بين الإمبراطورية الرومانية المقدسة والمقاطعات الألمانية الداخلية بسبب خروج هذه المقاطعات عن الديانة الكاثوليكية السائدة، وهي الحرب التي سرعان ما انتشرت إلى قطاع كبير من أوروبا فأدت لظهور البذور الحقيقية للدولة القومية الحديثة في أوروبا، وقد تلازم مع ظهور مفهوم الدولة القومية ظهور مفهوم القيادة السياسية غير المرتبطة بالإقطاع أو الإمبراطور أو الكنيسة، ولكنها مرتبطة بالدولة وتضع قوتها وترابطها كأولوية قصوى.

وعلى عكس كل التوقعات، فإن الفضل الحقيقي لظهور مفهوم رجل الدولة يرجع لسياسات شخصية تاريخية دينية فرنسية معروفة هي «الكاردينال ريشيليو» الذي كان رئيسا لوزراء البلاد في 1624 لقرابة عقدين من الزمان، فهو رجل دين تدرج إلى أن وصل لأرفع المناصب الكنسية، ولكنه في السياسة كان له وجه مختلف تماما عن عباءته الدينية، فسياساته كانت تصب في مصلحة الدولة الفرنسية بلا أي قيد ديني أو شرط أخلاقي، فلقد كان الرجل يساند الدويلات البروتستانتية في حروبها ضد الإمبراطور مخالفا عقيدته الشخصية وعقيدة بلاده الكاثوليكية لأنه كان يرغب في كسر سلطة الإمبراطور النمساوي ودولته لمنافستهما فرنسا وذلك من خلال تقوية الحركة الثورية الداخلية ضد الإمبراطور من خلال الإقطاعيين، فما كاد الإمبراطور يكسر شوكة البروتستانت حتى تدخل «ريشيليو» بالدعم الفوري للأمراء البروتستانت في الوقت الذي أنفذ فيه قوانين داخلية حازمة لتقوية دور الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، وهو ما عكس تناقضا صريحا لدى البعض، ولكن هذه السياسة كانت مرتبطة بمصلحة الدولة الفرنسية، فالديانة الكاثوليكية مهمة للشعب الفرنسي ولكن تأييدها خارجيا على حساب مصلحة الدولة الفرنسية أمر يختلف تماما وغير مقبول.

إزاء هذا التناقض الفج في الولاءات فقد ابتكر «ريشيليو» غطاءً شرعيا لسلوكه بطرح مفهوم جديد أصبح اليوم سلعة دارجة في قاموس أي سياسي وهو «Raison d’etat أو لأسباب متعلقة بالدولة»، أي إن مرجعية سلوك أي سياسي يجب أن يكون خدمة أهداف الدولة ممثلة في مصلحتها، وأي سلوك يجب أن يُحكم بهذا وليس بالمصلحة الفردية أو الأبعاد الأخلاقية، فالمصلحة الجماعية لأفراد الدولة هي في تقدير البعض أسمى أنواع الأخلاق، بل إن البعض قد يعتبر الدولة ذاتها أعلى تعبير أخلاقي للجماعة الوطنية، وخدمتها في النهاية خدمة للفرد ذاته، وهكذا كسر «ريشيليو» فكر القرون الوسطى الساعي لفرض النظرية الأخلاقية العامة Universal Morality على كل المسيحية بهدف تقوية سلطة كنيسة روما والإمبراطور، وليس مفهوم الأخلاق في حد ذاته.

هكذا طلق «ريشيليو» الأخلاق عن سياسة الدولة في تحرك أصبح جزءا من قاموس وسلوك الساسة من بعده، وقد برر «ريشيليو» سياسته من خلال جملة شهيرة له هي «إن الإنسان خالد لأنه سيذهب إلى الدار الآخرة... ولكن بقاء الدولة يعتمد على سياستها اليوم والآن»، وهكذا فصل الرجل بين الإنسان والدولة، فلكل بوصلته، الإنسان بوصلته الأخلاق والدولة بوصلتها المصلحة.

لقد كان تأثير «ريشيليو» حاسما في منح الشرعية للدولة وضرورة إرجاع السياسات لحماية الدولة ومصلحتها العليا، فكلما اصطدم سلوك أو سياسات بمعايير فردية عليا، فإن الإجابة كانت في مصلحة الدولة لأنها الممثل الجماعي للأفراد، وقد كان هذا سببا جديدا لكسر سلطة بابا الفاتيكان والذي حارب ريشيليو بكل قوة، وينسب لبابا الفاتيكان مقولة شهيرة أطلقها بعدما سمع نبأ وفاة «ريشيليو» قال فيها «... إن الرجل لديه الكثير من التبرير ليقدمه بين يدي الله... أما لو كانت معتقداتنا خاطئة فإن الرجل سيكون قد عاش حياة ناجحة وسعيدة جدا».

ولكن هل يختلف رجل الدولة اليوم عما قصده «ريشيليو» عندما ابتكر مفهوم «Raison d’etat»؟، هنا يرى الكثير ضرورة القضاء على مفهوم رجل الدولة التقليدي على ضوء تطور السياسة داخليا وخارجيا وثبات مفاهيم الديمقراطية والعدالة ومفاهيم العولمة وأنه حان الوقت لاستبدال رجل الدولة بمفهوم عصري جديد يُخرج السياسة من المفاهيم التقليدية للمصلحة واللا-أخلاقية، على أن تتولي مؤسسات الدولة جزءا من هذه المهمة، وهذه أصبحت بالفعل مطلبا لدى قطاع لا بأس به من الشعوب المختلفة.

ولكن اعتقادي أن الأمر يحتاج منا لأن ندرك أن لعبة السياسة واضحة المعالم ولم تتغير قواعدها حتى مع تغير الظواهر السياسية التي حولنا، فسياسة الدول الخارجية ما زالت مبنية على مفهوم المصلحة البحتة، أما السياسات الداخلية فهي مبنية على مفهوم توازن المصالح في إطار من الشرعية المتفق عليها داخل المجتمع من خلال عقده السياسي، وفي كلتا الحالتين فالحاجة لم تنتف لرجال الدولة، بل أصبح وجودهم الآن ضرورة ملحة في بعض الأوقات سواء في العالم المتقدم أو في الدول النامية خاصة التي تحارب في معركة البناء الاقتصادي والديمقراطي، فرجال الدولة هم القادرون على إدراك فكر التحول برؤيتهم الشاملة وقدراتهم القوية على وضع دولهم في الأولوية التي تستحقها، كما أنهم القادرون على مواءمة عملية المصالح والمصالحة الناجمة عن التغيير الداخلي والتأقلم مع العالم الخارجي، وتقديري أن السؤال الحالي لا يجب أن يكون حول مدى الحاجة لرجل الدولة من عدمه، فالحاجة موجودة، ولكن هناك حاجة لصياغة مبادئ عامة تضمن صراحة التزام «رجل الدولة» ومعه الساسة بمبادئ أولها أن الأمة هي مصدر السلطات وأن شرعيتهم مستقاة من رأي الأغلبية وعليهم التزامات عند صياغة السياسات بالأخص الداخلية، لا سيما مع وجود نمط تاريخي يتكرر في بعض الأحيان يدفع رجال الدولة للتحول من رواد حرية لرموز ديكتاتورية.

*كاتب مصري