قائد أميركي من طراز دولي

د. محمد عبد الستار البدري

TT

يتفق السواد الأعظم من الأميركيين على حب جورج واشنطن، فهو القائد المرتبط بالكفاح المسلح الذي قاد البلاد للاستقلال ثم أصبح أول رئيس للولايات المتحدة الأميركية، كما يتفق الأميركيون على أنه كان أكثر القيادات الأميركية خلقا من ذوي المبدأ وأكثرها كاريزما واحتراما.

لقد ولد جورج واشنطن لأسرة متوسطة الدخل ولكن أحد فروعها كانت تتمتع بنفوذ سياسي واسع في ولاية (مستعمرة) فيرجينيا، وعلى الرغم من بعض الظروف المالية للأسرة بعد موت راعيها فإن جورج استطاع أن يحصل على وظيفة مساح أراض لإحدى العائلات الارستقراطية من أقاربه، ثم انخرط في الميليشيا التي كونتها فيرجينيا أثناء الحرب الفرنسية والهندية French and Indian War والتي خاضتها المستعمرات البريطانية إلى جانب الجيش البريطاني ضد القوات الفرنسية (وبعض حلفائها من الهنود) والتي كانت تملك جزءا كبيرا من أميركا الشمالية، ورغم محدودية الانتصارات العسكرية لواشنطن فإنه عُرف خلالها على أنه ضابط مجتهد، وسرعان ما بدأ يلمع من خلال اتصالات أسرته القوية بعدد من العائلات الارستقراطية في فيرجينيا والتي ضمنت له عند مرحلة معينة قيادة الميليشيا العسكرية للولاية في 1755، وعندما اندلعت حرب التحرير الأميركية وأعلن الكونغرس الأميركي عن تشكيل «الجيش القاري Continental Army» من المتطوعين لخوض حرب الاستقلال ضد الجيش البريطاني وتم اختيار واشنطن قائدا له بعد مناقشات موسعة ولأسباب تتعلق بالحساسيات والتوازنات السياسية المختلفة في ذلك الوقت بين الولايات الأميركية المختلفة رغم أنه لم يكن بالضرورة أكفأ المرشحين.

لقد كانت المسؤولية الجديدة الملقاة على عاتق واشنطن خطيرة للغاية، فلو فشل في المهمة فهذا معناه نهاية حلم الاستقلال للولايات الأميركية ومعها حياته لأنه كان سيُعدم بتهمة الخيانة العظمي، كما أن خبرته العسكرية لم تكن تساعده على هذه المهمة الجديدة، فواشنطن لم يتعلم في المدرسة العسكرية النظامية للجيوش الأوروبية، بالتالي بدأ الرجل يتعلم التخطيط العسكري الحقيقي بعد توليه قيادة الجيش، فكانت قيادته مرحلة تحول من الهواية إلى المهنية العسكرية.

لقد بدأت حرب الاستقلال الأميركية وكانت أهم معاركها الأولى معركة «بانكر هيل» في مدينة بوسطن وجاء الانتصار البريطاني فيها متأخرا وبثمن باهظ، ولكن سرعان ما أنضبط الجيش البريطاني وبدأ يحرك قواته استعدادا لحصار جيش واشنطن في مرتفعات بروكلين في نيويورك بعد هزيمته، وكادت القوات البريطانية أن تفتك بالجيش الوليد لولا الحرص الزائد للقائد البريطاني والذي آثر انتظار التعزيزات حتى الصباح، وهو ما منح واشنطن الفرصة للتسلل تحت جنح الليل لنقل قواته بالمراكب الصغيرة والعبور لنيويورك من بروكلين، فكان هذا العبور بالفعل معجزة عسكرية أنقذت فرعا أساسيا في الجيش الأميركي.

أدرك واشنطن أن قواته لا تستطيع الصمود في معارك مفتوحة فعمل على تطبيق تكتيكات الاستنزاف والإبقاء على الجيش سليما، فكان يتحرش بالجيش البريطاني لكسب الوقت لحين ما يستطيع التفوق عليه في العدة والعتاد والتدريب، وسعيا وراء تحقيق هذا الحلم بدأ واشنطن يطالب الكونغرس بالدعم المالي والخبرة العسكرية الأوروبية لتدريب المتطوعين الأميركيين أو الوطنيين Patriots كما كان يطلق عليهم، ولكن دون جدوى، فلقد نضبت موارد الكونغرس.

لعل هنا تكمن العظمة الحقيقية لجورج واشنطن القائد، فهو لم يكن قائدا عسكريا محنكا ولكنه عليم بكيفية حماية جيشه ومعه حلم الاستقلال طالما نبض هذا الجيش، فحارب الرجل الجيش البريطاني والبرد والجوع والفقر والهروب من التجنيد وخيانة بعض معاونيه مثل «بنديكت أرنولد»؛ والتزم الرجل بالصبر في مواجهة المؤامرات التي حاكها له الساسة ونظراؤه الطامعون في منصبه، فاستطاع أن يُبقي النبض الخافت لقيادته وللجيش والذي كان من الممكن أن ينكسر من وطأة هذه الضغوط.

في ظل هذه الظروف المعقدة ورغبة منه في رفع الروح المعنوية للجيش المنكسر، قام واشنطن بخطوة جريئة للغاية، فعبر بجيشه في ليلة عيد الميلاد عام 1776 نهر «الديلاوير» وحاصر قوات من المرتزقة الألمان «الهاسيين» وهجم على قريتهم ولقنهم هزيمة قاسية استسلموا جميعا بعدها، وقد كان لهذا الانتصار أثره العميق في رفع الروح المعنوية للحلم الأميركي من جديد بعد سلسلة من الهزائم والانتصارات المحدودة، ولكنه لم يكن كافيا لوقف الزحف البريطاني خاصة بعد انضمام الأسطول البريطاني.

استطاع واشنطن بعد سنوات من الجهد الشاق والتحرك الدبلوماسي النشط للكونغرس أن يجهز جيشه بشكل أحدث لا سيما بعد انضمام فرنسا - العدو اللدود لبريطانيا - للصراع بمساندة الأميركيين، فانقلبت المعادلة وبدأ الجيش القاري يستعيد ما فقده من ثقة وأرض بعد وصول الأسطول الفرنسي وقدوم المدربين الأوروبيين لتدريب الجيش الأميركي، وقد قاد واشنطن الجيش في سلسلة معارك استسلمت بعدها قوات الجنرال البريطاني «كورنواليس» تاركة القارة الأميركية لتفتح صفحة ميلاد الولايات المتحدة الأميركية عام 1781، وهو الحلم الذي ما كان ليتحقق لولا شخصية جورج واشنطن ونوعية قيادته.

تجلت عظمة واشنطن قبيل اعتزاله العسكرية عندما شهدت مرحلة ما بعد الانتصار حالة من التمرد داخل قيادات الجيش الأميركي بسبب تأخر حصولهم على مستحقاتهم المالية، فاتفقوا على حصار الكونغرس وفرض مطالبهم بالقوة، وقد علم واشنطن فدخل عليهم منكسر الرأس واستأذن في مخاطبتهم، فقال لهم وهو يخطب «أمهلوني بضع ثوان حتى أستطيع أن أُخرج نظارة القراءة.. فلقد فقدت الجزء الأكبر من بصري وأنا أخدم بلدي معكم..» فبكى الجميع وهم يسمعونه يؤكد ضرورة احترام الوطن وقيم الحرية التي حاربوا من اجلها، فازداد بكاء القادة الأميركيين، وانفضوا وانتهت خطة الاستيلاء على الحكم والقضاء على الكونغرس، ولعلها كانت أول وآخر محاولة للاستيلاء على الحكم في الولايات المتحدة من قبل العسكريين.

عند هذه المرحلة كان باستطاعة واشنطن أن يستأثر بالحكم ويعلن نفسه قائدا للبلاد كما فعل نابليون بونابرت ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما، ولكنه لم يفعل ذلك، فصارع بريق السلطة وسحرها عندما كان يفصله عنها بضع مئات من الأميال دون أي مقاومة، ولكن الرجل فضل الالتزام بدوره وتهذيب طموحاته وكبح جماحها، وسلم سيفه للكونغرس ليعلن انتهاء مهمته كقائد عظيم ودخل للتقاعد.

ولعل هذا ما دفع الجميع لاختيار واشنطن بعد اعتزاله كأول رئيس للجمهورية الأميركية بإجماع كل الأصوات، فقاد الرجل معركة البناء السياسي الأميركي بنفس القدرة فساهم في بناء الحكومة الأميركية بكل إخلاص، كما وضع الأسس التي صارت عليها السياسة الداخلية والخارجية الأميركية لحقب قادمة، واستطاع باقتدار أن يتفادى الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها الحكومة لتسديد الديون المتراكمة على الكونغرس من جراء الحرب، ثم اعتزل الرجل بنفس الهدوء للمرة الثانية ومات في مزرعته في 1799 مبكيا كل وطني وأميركي عليه.

حقيقة الأمر أن سيرة واشنطن الذاتية لا تختلف كثيرا عن سيرة الاستقلال الأميركي، ونلاحظ في هذا الصدد أهم ما يلي:

أولا: إن واشنطن لم يكن قائدا عسكريا محنكا بل إن هزائمه العسكرية غالبا ما كانت أكثر من انتصاراته، ولكنه كان صبورا، فسبح ضد التيار واستخدم كاريزماه كقائد للتغلب على الصعاب تماما مثلما أحيا الشعب الأميركي شعلة حريته ضد التيار والقوة البريطانية الغاشمة.

ثانيا: كان واشنطن بلا شك أوفر القادة حظا في التاريخ السياسي للولايات المتحدة، فالرجل حصل على كثير من المناصب من خلال اتصالاته والمركز الحساس لولاية فيرجينا التي مثلها، ولكن هذا الحظ لم ينتقص من قدراته كشخص به سمات القيادة والقدرة على اتخاذ القرار السليم والصمود.

ثالثا: هذا القائد كان من أكثر القيادات العالمية التي التزمت بالبعد الأخلاقي، فالرجل كانت له مواقفه الثابتة الرافضة للعبودية - رغم عدم تسريحه لعبيده، كما أن تعاملاته التزمت بالخلق الرفيع في كل الجوانب حتى مع جنوده وأصدقائه وهو ما امتد لأسلوب حياته.

لقد دخل جورج واشنطن التاريخ ليس كنابغة عسكري ولكن كقائد عسكري عظيم، ليس كسياسي محنك بل كسياسي مؤسس لدولة، فمثل هذا الرجل قلما تجود به الدول.

* كاتب مصري