مصر تتخطى «سنة أولى» ديمقراطية.. بنجاح ساحق

برلمان الثورة يولد بجسد إسلامي ووجوه جديدة حائرة بين «الحرية» و«النور»

الجيش المصري ينقل صناديق الاقتراع تمهيدا لفرزها في الانتخابات النيابية التي جرت مطلع الأسبوع (أ.ب)
TT

أثارت مشاهد المشاركة الكثيفة في المرحلة الأولى في الانتخابات البرلمانية في مصر آمالا كبيرة في أن تكون أول خطوة حقيقية تجاه انتقال البلاد نحو الديمقراطية، لكن البعض يتخوف من سيطرة الأحزاب الإسلامية على المشهد السياسي وما قد يصاحبها من انحسار الديمقراطية والحريات العامة مرة أخرى.

ويأمل المصريون في أن تكون هذه الانتخابات أولى النتائج الحقيقية لثورة المصريين في 25 يناير (كانون الثاني) الماضي على نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي اتسم بنوع من الديمقراطية الشكلية التي تمثلت في وجود مؤسسات ديمقراطية منزوعة السلطات التي تركزت في أيدي رجال الحزب الحاكم الذي صدر قرار بحله في 16 أبريل (نيسان) الماضي، ولكن تلك الآمال بديمقراطية حقيقية بدأت تتحول إلى مخاوف وكوابيس خاصة مع سيطرة التيار الإسلامي على المشهد السياسي في مصر في الأشهر القليلة الماضية وسيطرتهم على نتائج المرحلة الأولى التي جرت الأسبوع الماضي، وهو ما قد يهدد حلم ملايين المصريين بدولة مدنية حقيقية.

وجرت الانتخابات في مصر في مناخ من الحرية والشفافية والإقبال الجماهيري التاريخي، بعد عقود من انتخابات كانت نتائجها معروفة سلفا وكانت نسب الامتناع عن التصويت فيها قياسية، وشارك أكثر من 75 في المائة من أصل 17 مليون ناخب يحق لهم الانتخاب في تسع محافظات هي محافظات المرحلة الأولى من انتخابات 2011، وهو ما لم يحدث عبر عقود، فذاكرة المصريين لا تستدعي انتخابات دون تزوير وبهذا الإقبال الجماهيري في مصر إلا انتخابات عام 1987، والتي جرت بنظام القائمة، واتسمت بمناخ ديمقراطي، واستبشر المراقبون حينها بأن تكون هذه الانتخابات بداية إقامة الحياة الديمقراطية السليمة عن طريق برلمان منتخب وممثل للشعب ويستطيع أن يقوم بوظائف الرقابة والتشريع على أكمل وجه، إلا أن تلك الآمال تبخرت بقرار من المحكمة الدستورية العليا التي قضت بعدم دستورية هذه الانتخابات بسبب نظام القائمة والذي خالف الدستور الذي ينص على أن يكون 50 في المائة من أعضاء مجلس الشعب من العمال والفلاحين، لتجرى انتخابات جديدة سيطر الحزب الوطني فيها على أغلبية مقاعد البرلمان، ليتحول البرلمان إلى شكل دون جوهر أو فاعلية.

ولم تشهد تسعينات القرن المنصرم أي تجربة انتخابية نظيفة، وانتظر المصريون 18 عاما حتى عام 2005، حيث جرت انتخابات برلمانية تعد الثامنة منذ اعتماد التعديل الدستوري سنة1971، على ثلاث مراحل، وهي الانتخابات التي اعتبرها الكثيرون اختبارا لموجة الإصلاح السياسي في مصر التي أعلن عنها مبارك في نهاية 2003 وبداية 2004، وفازت جماعة الإخوان المسلمين (المحظورة حينها) في هذه الانتخابات البرلمانية بـ88 مقعدا من أصل 444، بينما فاز الحزب الوطني الحاكم بـ177 مقعدا عبر مرشحيه، في حين حقق حزب الوفد الليبرالي خمسة مقاعد وحصل كل من حزب التجمع اليساري وحزب الغد على مقعد واحد لكل منهما وحصل المستقلون، الذين تحول 153 منهم للانضمام إلى الحزب الوطني، على باقي المقاعد.

وبالعودة مرة أخرى لنوفمبر (تشرين الثاني) 2011، تختلف الانتخابات البرلمانية عن هاتين التجربتين البرلمانيتين السابقتين، ليس فقط لأن النظام الانتخابي في هذه المرة أكثر تعقيدا ويضم النظام الفردي جنبا إلى جنب نظام القائمة، ولكن لأنها أتت في مرحلة انتقالية بالغة الخطورة تعيشها مصر والمنطقة العربية كلها.

وتتابع الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الأوروبيون هذه الانتخابات حاملين آمالا بتفتح براعم الديمقراطية في أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان وإحدى أهم الدول العربية تأثيرا في منطقة الشرق الأوسط ومخاوف من وصول الإسلاميين المناوئين لإسرائيل والغرب إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع خاصة جماعة الإخوان المسلمين جيدة التنظيم والتي كانت محظورة في عهد مبارك، لكن السلطات كانت تتغاضى عن نشاطها، إلا أن حزب الحرية والعدالة ذراعها السياسية حقق نتائج جيدة للغاية خاصة في المرحلة الأولى، ويتنافس في هذه المرحلة 3809 مرشحين في نظامي الفردي والقوائم، يتنافسون على 168 مقعدًا، منهم 2357 مرشحًا على مقاعد الفردي البالغ عددها 56، و1452 على نظام القوائم البالغ عدد المقاعد المخصصة لها 112 مقعدًا، وسط تراجع لكثير من الأحزاب الليبرالية واليسارية التي كان مسموحا لها بالعمل في ظل نظام مبارك.

وبعد اختفاء الحزب الوطني من المشهد والذي سيطر لعقود على البرلمان، غلب على تصويت الناخبين في المرحلة الأولى حالة من الاستقطاب سواء الاستقطاب السياسي الليبرالي - الإسلامي، أو الاستقطاب الديني بين مسلمين ومسيحيين، لكن رجل الشارع البسيط يحلم أن تكون انتخابات 2011 بداية لاستقرار الأوضاع في البلاد بغض النظر عن الفصيل الذي ستأتي به هذه الانتخابات على رأس البرلمان القادم، ويقول حسين عبد الله (60 عاما): «هناك حالة من التخويف ضد التيارات الإسلامية، وهو نفس ما كان يفعله الحزب الوطني (المنحل) ضد الإخوان»، ويضيف عبد الله، الذي يعمل كفني لحام بأحد المصانع: «لا أهتم بمن تحديدا سيحكم مصر، لكن ما أهتم به أن يحكم بالعدل وأن تستقر البلاد»، ويبدو أن مطالب عبد الله في الاستقرار تتقاطع مع رغبة عدد كبير من المصريين في أن تكون هذه الانتخابات مصدرا لاستقرار الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد فوفقا لأحدث استطلاع أجراه مركز غالوب لاستطلاعات الرأي، أكد نحو 84 في المائة من المصريين رغبتهم في استقرار الأوضاع في البلاد وأن استمرار الاحتجاجات يؤثر بالسلب على مستقبل مصر، الأمر الذي يمثل زيادة كبيرة بأعداد من ينتابهم شعور بالتشاؤم بشأن مستقبل مصر بعد نجاح ثورة 25 يناير في إزاحة نظام مبارك، كما عبّر قطاع كبير ممن شملهم الاستطلاع عن ثقتهم في أن تكون الانتخابات البرلمانية التي تجرى في مصر حاليًا عادلة ونزيهة وبعيدة عن أشكال التزوير المتعمد التي كانت سائدة من قبل، وعلى الرغم من الثقة الزائدة في نزاهة الانتخابات البرلمانية، فإن هناك انخفاضا حادا في نسب المصريين الذين يشعرون بالتفاؤل حيال تحسين ظروفهم المعيشية بعد الثورة، حيث عبر 51 في المائة ممن شملهم الاستطلاع عن تفاؤلهم بتحسن ظروفهم المعيشية وارتفاع مستوى الخدمات في التعليم والصحة والمرافق، وزيادة فرص العمل وارتفاع الأجور.

وقال عبد الله، بعد أن وجه نظره نحو أصغر أطفاله البالغ 15 عاما: «كل ما أطلبه من الإسلاميين إذا كانوا سيصلون إلى الحكم خلال البرلمان الجديد، أن يجد ابني فرصة عمل عندما يكبر، ليتزوج ويعيش حياة كريمة.. نظام مبارك لو كان نظام عادل كان استمر»، وتابع بحرقة: «أنا لدي 3 بنات واضطررت للاقتراض من البنوك حتى أوفر لهن مصاريف زواجهن ولم تكن هناك عدالة في الأجور أو كرامة للمواطن لذا انتخبت الإخوان»، لكنه استدرك قائلا بحزم «لكن لو الأمور لم تتغير سأكون أول من يثور ضدهم».

ويبدو أن المستقبل لدى البعض لا يرتبط باسم أو توجه فصيل سياسي معين ولكن بأفعاله أو الإجراءات التي سيطبقها على أرض الواقع، ويخشى الكثير من المصريين هيمنة الأحزاب الإسلامية بجناحيها في مصر (الإخوان والسلفيون) على الساحة السياسية إذا ما حصلا معا على أغلبية مقاعد البرلمان المقبل بحسب المؤشرات الأولية لنتائج المرحلة الأولى، حيث سيكون لهم اليد الطولى في تشكيل اللجنة المعدة لصياغة الدستور القادم مما يخشى معه أن يهدد الحريات الاجتماعية في بلد يبلغ عدد سكانه أكثر من 80 مليون نسمة يمثل الأقباط نحو عشرة في المائة منهم. ويقول عماد عادل، صاحب أحد المحلات بمنطقة شبرا ذات الأغلبية المسيحية: «أنا أعطيت صوتي لحزب الوسط ذي التوجه الإسلامي لأنه يمثل تيارا معتدلا في مواجهة التيارات المتشددة كالسلفيين أو الإخوان»، وأضاف: «أنا أريد حكما مدنيا وأريد من البرلمان القادم وضع دستور مدني يحفظ لي الحريات والحقوق.. أنا لست مع الدولة الدينية سواء كانت إسلامية أم مسيحية». ويصوت عادل (29 عاما)، لأول مرة ولكنه يأمل أن يراعي الجميع مصلحة مصر ويكون على قدر مسؤولية الثورة في البرلمان الذي سيحدد مصير الثورة المصرية.

ويأمل الكثيرون أن تؤدي هذه الانتخابات إلى تحسن الأوضاع الاقتصادية، وقد أدى تقاطر الناخبين المصريين على مراكز الاقتراع ليومين متتالين للمشاركة في مرحلتها الأولى، إلى تحسن التوقعات بازدهار الاقتصاد المصري عقب هذه الانتخابات، وقفزت البورصة المصرية بعد بدء المرحلة الأولى للانتخابات وربحت أكثر من 13 مليار جنيه (نحو ملياري دولار) في اليوم الأول للانتخابات في المرحلة الأولى، بعد أن انخفضت قيمة الجنيه المصري الأسبوع الماضي لأدنى مستوى له منذ يناير (كانون الثاني) 2005 كما انخفضت الاحتياطات من العملة الصعبة بنحو الثلث هذا العام إلى 22 مليار دولار.

ويقول الخبير الاقتصادي رشاد عبده إن «استقرار الأوضاع الاقتصادية مرتبط ارتباطا مباشرا باستقرار الأوضاع السياسية في البلاد، ولكن نجاح المرحلة الأولى من الانتخابات لا يمكن اعتباره مؤشرا على ازدهار اقتصادي، فالأمر يتوقف على القرارات والسياسات التي سيتخذها هذا البرلمان والتوجهات الاقتصادية التي تتبناها الأحزاب الإسلامية إذا ما حصلت على الأغلبية وليس فقط مجرد نجاح مرحلة من ثلاث مراحل للانتخابات».

وبعد سنين من الإبعاد والتهميش، ظهر التيار السلفي كقوى سياسية حديثة النشأة في المعترك السياسي المصري، ويلعب حزب النور السلفي دورا كبيرا في حشد السلفيين في مصر خلف التوجه السياسي للتيار السلفي، وفيما يتخوف كثيرون من سيطرة الإسلاميين على البرلمان القادم، فإن آخرون يبدون تخوفا أكبر من حداثة عمل التيار السلفي في عمله بالسياسة وعدم وجود تاريخ سياسي قوي يدعمهم. ويقول محمد عصام (37 عاما): «التيار السلفي لا يفهم في السياسة وظل طويلا محصورا داخل المساجد وفي العمل الدعوي بعكس الإخوان، وانتخابهم في برلمان الثورة يعني وأد الثورة»، وأضاف عصام، والذي يعمل كمحام: «أنا في صف أي تيار يدخل البرلمان، لكن الأهم أن يكون على وعي ودراية بالسياسة وليس مشاركا في البرلمان ليتحدث عن الحجاب والنقاب».

ويقول الدكتور عبد الفتاح ماضي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الإسكندرية: «الانتخابات أول طريق الديمقراطية التي لا تولد مرة واحدة ولكن عبر خطوات متتابعة، والتخوف من الإسلاميين غير موضوعي لأن كل التيارات السياسية كانت في يوم من الأيام حديثة العهد بالسياسة وهم فصيل وطني ودخولهم حلبة السياسة سيعطيهم المزيد من الاعتدال في الآراء والتوجهات مع الوقت». وأضاف ماضي: «شعبية هذا البرلمان ستجعله ينتزع ما يريد من صلاحيات تمهد طريق الديمقراطية في البلاد، والأهم أن يكون أعضاؤه على قدر المسؤولية التاريخية التي سيتحملها هذا البرلمان».

ويواجه برلمان الثورة في مصر عاصفة من الانتقادات خاصة بالنسبة للخلافات حول صلاحيات هذا البرلمان، فمن غير الواضح مدى النفوذ الذي سيتمتع به هذا البرلمان في مصر في ظل بقاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة في السلطة، ولكن هذا البرلمان على الأقل سيحظى بشرعية شعبية يفتقد إلى كثير منها المجلس العسكري مما قد يدفع باتجاه إبراز صلاحيات أخرى للبرلمان بجانب اختيار اللجنة المكلفة بإعداد الدستور القادم للبلاد، بينما يطالب كثير من الأحزاب الإسلامية التي تتوقع أن تحظى بالأغلبية في هذا البرلمان خاصة بعد نتائج المرحلة الأولى بإعطاء البرلمان الجديد سلطات أوسع تتعلق بتشكيل الحكومة والقدرة على سحب الثقة منها وهو ما لم يتم طوال 30عاما من حكم مبارك حيث لم يكن مسموحا به في دستور 1971 خاصة تشكيل الحكومة في بلد نظامه رئاسي.

وفي وقت سابق أعلن اللواء ممدوح شاهين عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن البرلمان الجديد لن يملك صلاحيات سحب الثقة من الحكومة ولن يحق له إقالتها أو تعيين وزراء جدد.

وتقول الدكتورة نهى بكر، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية بالقاهرة: «احترام اختيارات الشعب هي أولى خطوات ترسيخ الديمقراطية، وصلاحيات البرلمان من تشكيل للحكومة وسحب الثقة منها سيحددها الدستور المقبل الذي سيضعه هذا البرلمان وهي كذلك التي ستحدد شكل الدولة سواء أكان النظام برلمانيا أم رئاسيا»، وأضافت بكر: «أعتقد أن نجاح المرحلة الأولى هي نقطة مضيئة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وتوضح رغبته في تسليم السلطة للمدنيين الذين يختارهم الشعب الذين نتمنى أن يكونوا على قدر المسؤولية التي تضعهم أمام رسم الطريق الذي ستسلكه البلاد سواء طريق الديمقراطية أم أي طريق آخر».

ورغم أن الإسلاميين لم يكونوا من أطلق شرارة الثورة أو من حملوا راية الربيع العربي في تونس ومن بعدها مصر ثم ليبيا، لكن الأحزاب الإسلامية برزت في الأشهر القليلة الماضية في الانتخابات التشريعية في المغرب وتونس وأظهرت المرحلة الأولى من انتخابات البرلمان المصري تفوقا واضحا لهذه الأحزاب حيث يريد الإسلاميون في مصر مواكبة النجاحات التي حققتها هذه الأحزاب الإسلامية في كل من المغرب وتونس.

ويعتقد عصام العريان، نائب رئيس حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية للإخوان المسلمين، أنه كما حدث في تونس والمغرب فإن الإسلام السياسي سيفوز في مصر وسيرغم العالم على قبوله، وذلك وفق ما صرح لوكالة الصحافة الفرنسية قبل يومين. وفي مصر على وجه الخصوص، امتلأت الميادين في بداية الثورة بالشباب ذي الطابع العلماني، ولكن مراقبين يرون أن عقود الاستبداد التي عاشتها مصر إبان حكم مبارك أنتجت بيئة متدينة، وهو ما شجع لاحقا على بروز تيارات الإسلام السياسي الذي عمل على الاستفادة من هذا الواقع الثوري ليعزز نفوذه في أوساط الجماهير، وسط قوى تقدمية هامشية ومشرذمة ليتصدر الإسلام السياسي مشهد الربيع العربي، وفي حين هتف ميدان التحرير في بداية الثورة بالحرية والكرامة والوحدة الوطنية، وإسقاط الاستبداد وتحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن ملايين آخرين هتفوا في نفس الميدان في مليونيات مختلفة من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية والدولة الدينية.