البعد الديني في الحضارة الفرعونية

د. محمد عبد الستار البدري *

TT

تظل الحضارة الفرعونية من الإشعاعات الحضارية الهامة في التاريخ الإنساني، وقد بُنيت هذه الحضارة على أسس علمية وثقافية واضحة لا يمكن للعين إغفالها، ولكن أكثر الأمور تعقيدا كانت وستظل التركيبة الدينية لهذه الحضارة، حيث أصبحت الديانات الفرعونية عنصرا هاما في شكل ومضمون المكون الحضاري لمصر الفرعونية، وليس أدل على ذلك من منظومة الآلهة والأساطير المرتبطة بها والتي خرجت من مجراها المتوقع لتصبح جزءا ملحوظا من أدق تفاصيل ثقافاتنا، وقد ثبت بكل يقين أن هذه المنظومة الدينية الفرعونية كانت راسخة بشكل كبير في الكيان الاجتماعي والسياسي لهذه الحضارة، ولكن قدرة المصري لم تكن في صناعة الإله فقط بل أيضا في تسويقه وتصديره لكل الثقافات المجاورة، خاصة الحضارتين اليونانية والرومانية والتي بات التشابه الديني بينهما وبين الفراعنة قويا للغاية بل يكاد يكون متطابقا في نقاط تماس كثيرة.

أذكر أنني شاركت في محاضرة ممتعة لعالم المصريات دكتور علي رضوان في المتحف البريطاني عام 2008، وكان جزء كبير منها يقدم شرحا لكيفية انتقال المفاهيم الأساسية للديانة الفرعونية والأساطير من مصر إلى حضارة ما بين النهرين، خاصة فكرة الإله الكبير وتكاثر الآلهة.. إلخ، وأذكر أنني بدأت أحاول فهم بعض التفاصيل الخاصة بالمنظومة الدينية عند الفراعنة بعد ذلك فكانت الانطباعات التي رسخت في ذهني ما يلي:

أولا: لقد كانت الديانة الفرعونية كبقيتها من الدول المجاورة تتمركز حول منظومة من الآلهة يؤثرون على مسيرة البشر، فقد خلق العقل المصري أو تأقلم مع أفكار مجاورة ليخلق منظومة آلهة مختلفة، فلكل إله دوره وهدفه، وهناك كبار الآلهة وعلى رأسهم الإله «آمون» ثم هناك آلهة أخرى للحرب والسماء والأرض والحكمة.. إلخ، ولكل منهم وظيفته، ونظرا لأن الدولة المصرية كانت دولة مركزية فإن الاستقرار والقانون كانا مهمين للغاية فجاءت فكرة الإلهة «مآت» ممثلة للتجانس والتوازن في الكون.

ثانيا: كانت لدى الفراعنة فكرة تزاوج الآلهة فيما بينهم، ففي هذه المنظومة تزوجت إلهة السماء «نط» من إله الأرض «جب» فأنجبا أوزوريس وإيزيس وست ونبثيس، وبالتالي كانت فكرة التزاوج الإلهي لتقريب المنظومة الدينية للبشر من ناحية ولفتح المجال أمام ميلاد الآلهة وزيادتها من ناحية أخرى، وهكذا بات واضحا الخصوبة الدينية للفراعنة لتبسيط الأمور للعامة والسيطرة عليهم أيضا من خلالها.

ثالثا: كانت لدى الفراعنة أيضا أساطير دينية لكيفية بدء الكون وأخرى لكيفية نهاية الكون فضلا عن فكرة البعث، وهي في التقدير أهم فكرة في المنظومة الدينية الفرعونية لأنها أثرت مباشرة في العديد من الظواهر الاجتماعية والسياسية في البلاد، فكانت فكرة رحلة الإنسان من دنياه إلى آخرته، ثم تطورت فكرة الحساب على أيدي اثنين وأربعين إلها يحاكمون المُبعث ليعترف بما فعل في دنياه من خلال أسئلة نافية فيما عرف بالاعتراف السلبي.

رابعا: لعل أخطر ما أفرزته الحضارة الفرعونية ما عرف بأسطورة «إيزيس» و«أوزوريس»، اللذين تزوجا فقتل «ست» أخاه أوزوريس، ولكن زوجته أحيته من جديد وأنجبت منه ابنهما «حورس» دون اتصال مباشر، ولكن «ست» قتل «أوزوريس» مرة أخرى ووزع أشلاءه في سائر أنحاء البلاد فجمعته زوجته إيزيس وبدأ حورس في الانتقام لأبيه فتصارع مع «ست» مما انتهي بمثولهما أمام مجمع الآلهة الذين أنصفوا حورس ونفوا الأخير من البلاد، وأصبح أوزوريس منذ ذلك التاريخ إله العالم السفلي.

لعل أخطر ما في هذه الأسطورة كانت «إيزيس» والتي أصبحت رمزا دينيا هاما عرف «بطائفة إيزيس أو Cult of Isis» فأصبحت تمثل قوة إلهية لكونها استطاعت أن تبعث زوجها بعد وفاته وأن تحمل منه بابنهما دون أي اتصال جسدي، كما أنها مثلت القدرة على البعث ورمز الأسرة وحنان الأمومة والقوة في آن واحد، وهو ما جعل هذه العبادة تجذب انتباه الكثير بل انتشرت حول حوض البحر المتوسط كما سيجيء ذكره.

لقد مثل هذا عرضا سريعا لبعض أوجه منظومة الآلهة عند الفراعنة، ولكن أثر هذه المنظومة كان غاية في الأهمية على الحضارات المجاورة، وكانت أولى هذه الحضارات هي الحضارة اليونانية (الهيلينية) ومن بعدها الرومانية، ويمكن تتبع هذه الآثار من خلال أهم النقاط التالية:

أولا: لقد نقل اليونانيون منظومة الآلهة بالكامل ولكن بعد تغيير أسمائها كما أضافوا عليها فكرة وجودهم جميعا في مكان واحد وهو مدينة أوليمبيا، ومن هناك بدأ الآلهة يؤثرون على مسيرة البشرية، ونقلوا عن الفراعنة صفة لكل إله، وهو نفس ما فعلته الحضارة الرومانية بنفس التقليد، ففي الفرعونية كان هناك «آمون» كبير الآلهة، وفي اليونانية كان هناك «زيوس» وفي الرومانية سموه «جوبيتر»، وزوجة كبير الآلهة كانت هيرا في اليونانية و«جونو» في الرومانية، إلهة الحب عند الفراعنة كانت هاثور ولدى اليونانيين كانت «أفروديتي» فتحولت عند الرومان إلى «فينوس».. إلخ.

ثانيا: انتقلت الأساطير الفرعونية بأشكال مختلفة من خلال تزاوج الآلهة مع بعضهم البعض أو من خلال زواج الإله بإنسية، فنجد مثلا أسطورة «هيركيوليس» ابن زيوس من إنسية وغيرها مما خلق أنصاف آلهة أو ما شابه ذلك، وكانت هناك أيضا فكرة الموت في سبيل الآلهة، ولعل أنشودة القائد «هوراشيو كوكلز» أثناء دفاعه عن الجسر المؤدي لروما في مواجهة الأعداء تعكس هذا، فقد كتب الشاعر فيه «يأتي الموت لكل رجل في الأرض عاجلا أم آجلا، فكيف يموت الإنسان ميتة أفضل من مواجهة ما هو أكبر منه، من أجل رفات آبائه ومعابد الآلهة».

ثالثا: لقد ورثت هذه الأديان أيضا فكرة معاقبة الآلهة للبشرية على سوء سلوكها أو الإساءة إلى الآلهة، وفي هذا الصدد نجد مثلا فكرة الإلهة المنتقمة «سخمت» والتي أرسلت للأرض فأغرقتها دما عقابا للبشرية، وهو نفس ما وجد في المنظومة الدينية الرومانية من حيث الأساطير والوحوش التي ترسلها الآلهة لعقاب البشر، ففي اليونان كان هناك ما عرف بالنمسيس Nemesis إلهة الانتقام.

رابعا: لعل أهم وأكبر الأثر على الإطلاق كان ما أشرنا إليه «بديانة إيزيس» والتي انتشرت انتشارا واسعا في حضارات البحر المتوسط، وقد كان الحاكم «بطليميوس سوتر» أحد الأسباب وراء انتشار هذه الديانة حيث أراد أن يقرب بين الثقافة الفرعونية واليونانية لأسباب سياسية تسمح لأسرته التي منحت حكم مصر أن يكون لها تقارب مع اليونان، فنشر هذه الديانة من خلال تحويلها للإغريقية تحت اسم الإله «سيرابيس Serapis» ولكنها في حقيقة الأمر كانت أقرب ما تكون لأسطورة إيزيس، وقد وصل الأمر إلى حد عدم القدرة على السيطرة على هذه الديانة، وهو ما انتهى إلى اعتناق بعض القياصرة الرومان لهذه الديانة مثل «فيسباسيان»، ويقال إن هذا الدين كان من الأسباب التي أخرت اعتناق المسيحية في اليونان والدولة الرومانية.

وعلى الرغم من انتشار الديانة الفرعونية فإن الاستثناء عن هذه القاعدة كان أول فكرة للتوحيد في البشرية ممثلة في فكر الفرعون «اخناتون» عندما حث الجميع على عبادة الإله «آتون» باعتباره الإله الأوحد، أو القوة التي كانت فوق أي إله آخر، ولكن هذا الدين الجديد لم يلق القبول لدى الشعوب والحضارات المختلفة حول المتوسط الذي كان مرتبطا بالآلهة ومنظومتهم الدينية، فما كان من الممكن قبول التوحيد لأنه ضرب الأساس الديني والمجتمعي القائم للمنظومة الدينية الفرعونية والأديان الموازية التي تفرعت عنها.

لقد كانت هذه مجرد خواطر تعكس مدى عمق البعد الديني في الحضارة الفرعونية القديمة للحد الذي جعل الفرعوني يصنع آلهة وثنية من وحي خياله، ثم يطورها وفق مفاهيمه المختلفة، ثم يصدرها للثقافات المجاورة.

* كاتب مصري