هل يستمر عبء الرجل الأبيض

د. محمد عبد الستار البدري

TT

كتب الشاعر البريطاني «كيبلينغ» قصيدته الشهيرة «عبء الرجل الأبيض» في 1899 ليدعو فيها للاستعمار وسمو رسالته فقال مناشدا قيادة الولايات المتحدة لتحتل الفلبين «..هيا تحملي عبء الرجل الأبيض، ابعثي بأفضل ما عندك من شباب، اذهبي وابعثي أولادك إلى المنفى حتى نخدم مطالب من تستعمرينهم». بمثل هذه الأشعار لجأ المفكرون والساسة الغربيون للتبرير الفكري والفلسفي لموجة الإمبريالية الثانية والكبيرة في أواخر القرن التاسع عشر، وفحوى هذا المفهوم هو أن العالم الغربي عليه عبء كبير لتثقيف وتطوير ونشر الحضارة في العالم النامي، أي رسالة سامية لشعوب أقل نموا.

لقد بدأت الدول الأوروبية تسعى بقوة للحصول على مزيد من المستعمرات إضافة لما كان لديها، وهو ما كان له أكبر الأثر في وضع مسألة الاستعمار على أولوية التعاملات بين الدول الغربية، ويلاحظ أن هذه الموجة لم تحسمها القوة العسكرية بين الدول الغربية ولكن أغلبها جاء بالاتفاق فيما بينهم، ولعل «مؤتمر برلين» الشهير عام 1884 والذي قرر فيه توزيع أراضي القارة الأفريقية على الدول الغربية يعد خير مثال على ذلك، وحتى العالم العربي دخل في تبعات هذه الموجة بموجب بعض الاتفاقات بين الدول الغربية ومنها الاتفاق الودي بين فرنسا وبريطانيا والذي بمقتضاه تم الاعتراف بينهما على نفوذهما في العالم العربي، فاعترفت فرنسا بالنفوذ البريطاني في مصر والسودان بينما اعترفت بريطانيا بنفوذ فرنسا في الشام، وهو التفاهم الذي تم تقنينه بموجب الاتفاقيات التي أبرمت أثناء الحرب العالمية الأولى مثل سايكس بيكو وبعدها.

ولكن الظاهرة التي تصاحب أي تحرك مثل هذا هي ضرورة أن يحظى بغطاء فكري وفلسفي وإنساني لتبريره، وفكرة التنوير الحضاري في حقيقة الأمر لم يكن لها ما يبررها، فدول مثل الصين أو مصر والتي كانت منارات للحضارة والفكر لم تكن بحاجة لأحد لينتشلها من ظلام حضاري، بل إن كثيرا من القيم في هاتين الدولتين كانت أرقى من القيم الغربية، ومع ذلك فالتبرير الفكري والقيمي لم يسقط، وانتشرت فكرة «عبء الرجل الأبيض» دون إدراك أن هذه الحركة الاستعمارية كان لها أهدافها وعلى رأسها:

أولا: أكدت النظرية الماركسية والتي تبناها لينين قائد الثورة الروسية في كتيبه الشهير «الإمبريالية: آخر مراحل الرأسمالية» أن حملة الاستعمار الثانية كانت امتدادا طبيعيا للتوسع الرأسمالي للعالم الغربي وزيادة المنتج الرأسمالي، بالتالي الحاجة إلى أسواق جديدة لتصريف البضائع والسلع الرأسمالية، ولكن لينين أخذ هذا الطرح إلى ما هو أبعد من ذلك مشددا على أن تشبع الأسواق الجديدة سيؤدي لخلخلة النظام الرأسمالي وهو ما سيؤدي بدوره لانهيار هذا النظام بأكمله للصراعات بين أطرافه، وهو ما أثبت التاريخ عدم حدوثه، ولكن الجزء الأول من النظرية ظل سليما لحاجة الدول الصناعية للأسواق الجديدة.

ثانيا: أن العالم الغربي وصل لمرحلة من التصنيع جعلت هناك حاجة شديدة لضمان الموارد الأولية بأسعار رخيصة، وهو ما تطلب استغلال هذه الدول ومواردها الطبيعية خاصة أن الثورة الصناعية الثانية كانت في أوجها فرفعت الطلب على المواد الخام مما جعل الدول الأفريقية والأسيوية الهدف لكونها غنية بالمواد الخام من نحاس وحديد وفحم الخ..

ثالثا: تلاحظ أيضا وجود سبب غير منظور أدى للاستعمار ولكننا لا يمكن إخضاعه للبحث العلمي، وهو مفهوم «الزهو القومي» الذي دفع الدول لامتلاك مستعمرات والتي من شأنها أن ترفع من القيمة الثقافية والمعنوية للدولة المستعمرة، أي إن «الموضة السياسية» دفعت الدول للتسابق للحصول على المستعمرات، فنرى بلدا صغيرا مثل بلجيكا يسعى جاهدا للحصول على مستعمرات كبرى مثل الكونغو.

وكل هذه الأسباب كانت وراء الاستعمار ولكن الدول الغربية كانت في حاجة لصياغة فلسفة سياسية تشرع للغربي أمام الرأي العام الداخلي والدولي فكرة احتلال دولة أخرى وتسخير اقتصادها لخدمة القضايا القومية له على حساب مصالحها. حقيقة الأمر فإن حركة الاستعمار والإمبريالية أدت للعديد من السلبيات التي لا يمكن حصرها هنا ولكننا نستطيع أن نبرز بعضها على النحو التالي:

أولا: اتباع الدول المستعمرة مبدأ هاما لسياسيين مثل تشرشل وهو «فرق تسد»، فكانت النتيجة الطبيعية لهذا التطبيق هو تفتيت التكتلات الوطنية وزرع النزاعات الإثنية والثقافية واللغوية بين أبناء الوطن الواحد، وهو ما بات يهدد الكثير من الدول النامية، فيد المستعمر عبثت بشكل خطير في هذه الدول، حتى إن الدول الأفريقية لجأت لاتباع القاعدة القانونية Uti possidetis juris أو إبقاء حدود الدولة المستقلة على ما كانت عليه وقت الاستعمار منعا لنشوب الصراعات الحدودية.

ثانيا: أدى الاستعمار إلى سلب الكثير من خيرات الدول والمناطق المستعمرة، وعلى الرغم من أنه ساهم في نهوض بعضها فإن مثل هذه النهضة كانت موجهة لخدمة أغراض المستعمر السياسية والاقتصادية في الأساس، فبلا طرق أو مدن أو موانئ ما كان المستعمر يستطيع نقل المواد الخام والبضائع إلى الوطن الأم.

ثالثا: كان من نتائج فرض وصاية الاستعمار أن كثيرا من الدول لم تستطع أن تأخذ مسارها الطبيعي من التقدم والتطور والتنمية، فكثير من القيادات التي قادت حروب التحرر لم تستطع التخلي عن السلطة، فخرجت المستعمرات من الوصاية الاستعمارية إلى الوصاية العسكرية أو الديكتاتورية القومية لأبناء شعبها. أما وقد ولي عهد الاستعمار العسكري فهل تستمر نظرية «عبء الرجل الأبيض؟» هل فعلا انتهت وصاية الغرب على مسيرة البشرية؟ والإجابة في حقيقة الأمر خلافية ولكن هناك عدد من الحجج والشواهد التي قد تؤثر على شكل الإجابة منها:

أولا: تأكيد بعض النظريات الغربية أن الغرب مسؤول عن نشر الديمقراطية في العالم، فالديمقراطية في شكلها الحالي هي تركيبة غربية لها جذورها الفلسفية والعلمية والعملية في التاريخ الغربي، وتؤكد هذه النظريات أنه لولا موجة الاستعمار لما كانت هذه الدول ستعرف الديمقراطية، بل إن الاستعمار هو الذي ذرع هذه البذرة، وهذه الأطروحة في حقيقة الأمر لها معارضة تؤكد أن الشعوب المختلفة طبقت الديمقراطية بأساليب مختلفة قبل نزول المستعمر إليها.

ثانيا: النظام الاقتصادي الدولي هو أيضا تركيبة غربية مبنية في الأساس على أفكار غربية بدءا من سياسة السوق الحرة إلى تنظيم القواعد التجارية، بل إن الناظر لمنظمة التجارة العالمية اليوم سيجد الدول النامية تلهث وراء التشريعات الدولية المتوالية وتقبلها على مضض التزاما بوجودها داخل ملعب التجارة الدولي، وهي قواعد غير منصفة بأغلبية المقاييس للدول النامية وهي في أغلبها شروط غربية.

ثالثا: حتى في الأزمات الاقتصادية التي تواجهها الدول فدواؤها غربي، منه ما يعرف في الأوساط الاقتصادية بـ«روشتة الصندوق والبنك» وهي الصيغة التي يضعها الصندوق أو البنك لإقراض الدول النامية لسد العجز لديها وفقا لمحددات اقتصادية يجب على الدولة إتباعها، وهي المحددات التي لاقت انتقادات كثيرة منها كتاب «جوزيف ستجلتز» الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد بعنوان «العولمة وعدم الراضين عنها Globalization and its discontents» والتي أوضح فيها عدم حكمة بعض هذه السياسات على الاستقرار والتنمية في الدول النامية.

رابعا: في مجال حقوق الإنسان سنجد أنفسنا أمام جزئيتين، الأولي تمثل مجموعة مبادئ وحقوق أساسية متفق عليها بين الدول كلها باختلافاتها مثل الحق في الحياة والحق في الحرية الخ.. ولكن هناك شق كبير في مجال حقوق الإنسان تسعى الدول الغربية حتى الآن لمحاولة فرضه رغم الاختلافات الثقافية تحت حجة كونها معايير عالمية، وهو أمر خلافي لا سيما عندما يتعلق الأمر بدول لها حضارتها وقيمها الخاصة.

يعكس كل ما سبق أن الغرب لا يزال يؤثر بشكل كبير في مسيرة العالم، وهذا أمر طبيعي يتوازى مع القوة النسبية له والضعف النسبي للآخرين، ولكن حسابات الضعف والقوة لا تمتد للثقافة والحضارة، فهذان الرصيدان عند الشعوب لا ينفدان، تماما كما لا تسمو حضارة على أخرى.

* كاتب مصري