العيساوي: من جراحة العظام.. إلى «كسور» السياسة

وزير المالية العراقي وقيادي «العراقية».. نجاحاته تؤهله لأعلى المناصب.. وخصومه يقولون إنه الهدف التالي بعد الهاشمي

TT

رافع العيساوي وزير المالية العراقي والقيادي البارز في القائمة العراقية، التي يتزعمها إياد علاوي، والذي تعرض لمحاولة اغتيال أخيرا، هو أحد الأرقام الصعبة في المعادلة السياسية العراقية الحالية. وسطوع نجمه ونجاحاته السياسية تجعله محط أنظار، قد تؤهله لأعلى المناصب السياسية مستقبلا.

طبيب تخصص في جراحة العظام والكسور من جامعة البصرة جنوب العراق، عام 1999، لكنه الآن يعالج كسور العملية السياسية العراقية. رافع العيساوي وعلى الرغم من حداثة سنة، مواليد 1966، فإنه يعد اليوم أحد القادة الذين يتسمون بالاعتدال والحكمة وبعد النظر.. قليل الكلام، إلى حد يجعل من الصعب معرفة دوافعه وتحليل أفكاره، بعكس قادة آخرين سواء في القائمة التي ينتمي إليها (القائمة العراقية) أو الكتل والقوائم الأخرى التي كثيرا ما كانت التصريحات التي يطلقونها هنا أو هناك سببا في تدمير مستقبلهم السياسي أو تجعلهم ضحايا دائمين أو يلعبون دور الضحية.

تنقل العيساوي في المناصب الطبية بين بغداد والانبار، من بينها مدير مستشفى الفلوجة العام (بمحافظة الانبار) وهي المدينة التي ينتمي إليها، وولد فيها. وقد تولى منصب مدير عام صحة الانبار خلال الأحداث التي عصفت بمدينة الفلوجة التي تعرضت لواحدة من أكبر مآسي الحرب ومنها استخدام الأسلحة المحرمة دوليا. وهو ما يجعله شاهدا على كل ما حدث لأبناء مدينته.

أكدت دراسة بريطانية أن ما حدث في مدينة الفلوجة عام 2004 فاق في بشاعته كل التصورات، كما فاق حجم الكارثة التي تعرضت لها مدينتا (هيروشيما وناجازاكي) اليابانيتان اللتان قصفتا بقنبلتين نوويتين عام 1945. ونسبت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية إلى الدراسة التي أشرف عليها الطبيب (كريس باسبي) من جامعة أولستر في أيرلندا الشمالية قولها: «إن مدينة الفلوجة التي تعرضت في عام 2004 لقصف وحصار القوات الأميركية عدة أسابيع شهدت خلال الأعوام السبعة الماضية زيادة في معدلات الوفيات لا سيما في أوساط الأطفال جراء الإصابة بمختلف أنواع السرطان وأمراض الدم (اللوكيميا)».

ومع أنه تولى خلال الفترة 2004 - 2005 منصب مدير عام صحة الانبار فإنه أصبح نائبا في البرلمان العراقي في الانتخابات التي جرت عام 2005 ومن ثم تولى منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية (2006 - 2007). جمع بين العمل التشريعي كنائب في البرلمان لدورتين وبين الأعمال التنفيذية حيث كان في كل دورة برلمانية يتحمل منصبا تنفيذيا: وزير دولة للشؤون الخارجية ومن ثم نائبا لرئيس الوزراء عام 2008 عقب استقالة سلام الزوبعي. وخلال انتخابات عام 2010 حيث فاز العيساوي بعضوية البرلمان العراقي بعد أن دخل ضمن ائتلاف العراقية في إطار التجمع السياسي الذي يتراسه «تجمع المستقبل الوطني» والذي يضمه مع عدد من أبرز قادة العراقية ومنهم سلمان الجميلي رئيس كتلة العراقية في البرلمان وظافر العاني رئيس الهيئة التنسيقية للقائمة العراقية. وكان احد القادة السياسيين الذين رشحتهم القائمة لأن يحتل الوزارة السيادية التي أصبحت من حصة العراقية وهي وزارة المالية والتي تعد واحدة من أهم الوزارات وأخطرها في العراق اليوم.

يعد رافع العيساوي أحد الخمسة الكبار في القائمة العراقية وهم (إياد علاوي، أسامة النجيفي، طارق الهاشمي، صالح المطلك) ويوصف بأنه أكثرهم اعتدالا ووسطية. يقول عنه القيادي في القائمة العراقية عصام العبيدي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «أهم ما يمكن أن يوصف به العيساوي هو أنه قليل الكلام كثير العمل.. عرفناه هادئا في أصعب المواقف التي يمر بها هو.. أو تمر بها العملية السياسية.. أو يمر بها العراق، فهو دائما من النوع الذي يتعامل مع الأزمات بهدوء. وهو أيضا من الداعين إلى تخطي أو تجاوز الخلافات الثانوية من أجل هدف أكبر مشترك».

يضيف العبيدي الذي يشغل منصب عضو الهيئة السياسية لتجمع المستقبل الوطني أن «العيساوي يعد من بين القلة من السياسيين العراقيين الذين هم محل إجماع بين الكتل السياسية ولذلك فإنه دائما محور اللقاءات أو الاجتماعات أو الوساطات أو المفاوضات وهي ميزة لا تتوفر لأحد غيره». ويشير إلى أن «المناصب التي تحملها العيساوي منذ عام 2005 كوزير للشؤون الخارجية ونائب رئيس وزراء ووزير مالية صقلت تجربته تماما على كل الأصعدة». وردا على سؤال بخصوص الاستهدافات التي يتعرض لها بعض رموز القائمة العراقية ومن بينهم رافع العيساوي بين آونة وأخرى قال العبيدي «للأسف، حجم المشاكل والتجاذبات داخل العملية السياسية هي أكبر من رغباتنا لا سيما أن هناك أطرافا من كل الكتل لا تعطي للحكمة دورها وتسعى دائما إلى التصعيد أو حتى الصيد في المياه العكرة». واعتبر العبيدي أن «نظرة العيساوي للأمور تنطلق دائما من المصلحة العليا وليس المصالح الضيقة سواء كانت حزبية أم فئوية أم جهوية، فهو يرى أن الناس الجيدين هم حصة كل العراق بصرف النظر عن أي انتماء آخر لهم». وبشأن الاتهامات التي وجهت له من بعض الجهات أو ما يقال عن تلويح رئيس الوزراء نوري المالكي بملفات تخص العيساوي بعد الانتهاء من قضية طارق الهاشمي قال العبيدي إنه «من سوء حظ العملية السياسية أن يجري توجيه مثل هذه التهم لمثل هذه الشخصية التي كان لها أبرز الأدوار في لم الشمل وجمع الكلمة خلال المرحلة الماضية» مضيفا أن «هذه الاتهامات لا تعدو أن تكون جزءا رخيصا من التسقيط السياسي الذي دأب عليه بعض الشركاء الذين لا يريدون بناء بلد من خلال مؤسسات بل من خلال التفرد بالسلطة فقط». وكشف العبيدي أن «من بين المفارقات اللافتة للنظر أن رافع العيساوي الذي ينتمي إلى أبناء المنطقة الغربية من العراق ذات الغالبية السنية كان الوحيد من بين السياسيين من التحالف الوطني (الشيعي) الذي اختاره الناس في المناطق الجنوبية في إطار اختيار كوادر التيار الصدري وهو أمر لافت وغريب فعلا ولكنه يعبر عن عمق احترام الناس له وكونه عابرا للانتماءات المذهبية والمناطقية».

ويشير إلى أن «العيساوي كونه وزيرا للمالية فإنه المسؤول الكبير الوحيد في الدولة الذي لديه علاقات جيدة جدا مع مجالس المحافظات وهو من بين أسباب النجاح على صعيد التعامل بين السلطة المركزية والحكومات المحلية». مع ذلك فإنه وطبقا لما يجري تداوله من أنباء خلف الكواليس فإنه قد يكون الهدف الثالث من حيث الاتهامات له بعد الهاشمي والمطلك (نائب رئيس الوزراء الذي طالب البرلمان بسحب الثقة منه ومنعه من دخول مبنى مجلس الوزراء).

تهمة العيساوي مثلما يجري تداولها في بعض أوساط دولة القانون ورئيس الوزراء نوري المالكي أنه كان أحد قياديي كتائب حماس العراق. وفي هذا السياق يقول عضو البرلمان العراقي عن ائتلاف العراقية الدكتور حمزة الكرطاني في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «القائمة العراقية باتت بالفعل تخشى على رموزها ومن بينهم رافع العيساوي وغيره من التهم الكيدية والجزافية وهذا يقودنا إلى خوف وخشية أكبر على مصير الشراكة الوطنية وبالتالي على مستقبل العراق السياسي ككل». ويضيف الكرطاني قائلا: «إننا ندرك أن هناك استهدافا سياسيا لشخصيات كبيرة ولها وزن في العملية السياسية وهو أمر لا يستقيم مع مفاهيم الشراكة التي يتكلمون بها ويضع المزيد من علامات الاستفهام حيال ذلك خصوصا أن عملية كيل التهم باتت سهلة وبات تسويقها أسهل في ظل مساع مستمرة لإخضاع كل شيء للتسييس بما في ذلك القضاء».

يجيد العيساوي اللغة الإنجليزية. وكان أحد الذين وقعوا المقال المثير للجدل الذي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية بينما أعلن أسامة النجيفي رئيس البرلمان والذي كان أحد الأسماء الثلاثة التي وقعت المقال (إياد علاوي ورافع العيساوي وأسامة النجيفي) براءته منه وذلك انطلاقا من كون العيساوي مؤمن بمضمون ما ورد في المقال وأنه يعبر في النهاية عن وجهة نظر غالبية قادة الكتلة العراقية ورموزها. مع ذلك فإنه في الوقت الذي وضع فيه العيساوي وعلاوي نفسيهما أمام مواجهة مباشرة مع المالكي بعد نشر المقال، فإن وضع العيساوي أصعب من علاوي، ذلك أنه (العيساوي) يحتل منصبا رفيع المستوى (وزير المالية) في الحكومة التي يترأسها المالكي ويحلو له تسميتها «حكومة الشراكة الوطنية». أما علاوي ومع أنه لا يوجد في مسيرته السياسية سوى أنه بعثي سابق، فإنه دائما ما وجد نفسه ومنذ ظهور نتائج انتخابات مارس (آذار) 2010 في مواجهة مباشرة وغير مسبوقة مع المالكي بعد أن «نكلت» المحكمة الاتحادية بعلاوي الفائز الأول في الانتخابات عندما فسر مفهوم الكتلة الأكبر على أنها تلك التي إما تتشكل داخل البرلمان بعد استئناف جلساته أو بائتلاف كتلتين أو أكثر وهو ما بدا مفصلا تماما على (التحالف الوطني) الذي رشح المالكي لرئاسة الحكومة. مسيرة علاوي «البعثية» بخلاف تهمة العيساوي «الحمساوية» تحولت إلى ميزة له عندما أنقذه وبأثر مستقبلي ضابط المخابرات الذي أرسله صدام حسين إلى علاوي في شقته بلندن أواخر سبعينات القرن الماضي وجعله طريح المستشفى لأكثر من سنة ونصف بعد أن كان قد تصور أنه أجهز عليه تماما.

الربط بين ما يجري في العراق وما يتعرض له العيساوي من ضغوط يلخصها لـ«الشرق الأوسط» الدكتور مقداد محمود المدير الإداري لتجمع المستقبل الوطني الذي يتزعمه العيساوي وهو أحد أقرب الشخصيات إليه حيث يقول عنه: «العيساوي شخصية آسرة بكل المقاييس فهو يمتلك مهارات في العمل قل نظيرها فضلا عن أنه يمتلك إمكانيات كبيرة في العلاقات العامة ومقدرة على استحواذ وانتباه الآخرين فضلا عن امتلاكه ناصية الخطابة واللغة السليمة وتحليل الأمور والأوضاع بشكل واقعي وسليم». ويضيف محمود أن «العيساوي يمتلك كل مقومات رجل العلاقات العامة ولكن بلا ضجيج فهو يعمل بصمت بالإضافة إلى أنه غير متزمت بآرائه وأقواله بل يمكن القول إنه شخصية براغماتية حيث إنه مستعد دائما لتذليل جميع الأمور والتعامل مع مختلف أنواع التحولات السياسية بروح من الانفتاح والتفاؤل». ويرى محمود أن «العامل الأهم بالنسبة للعيساوي هو المصلحة الوطنية». ومع ذلك فإنه وطبقا لما كشفه محمود فإن «هناك الكثير من المواقف التي يقوم بها العيساوي لصالح أطراف ولكن جزاءه منها دائما يشبه جزاء سنمار ومع ذلك فإنه في النهاية يعبر عن أقصى درجات التسامح بما يجعل الآخرين يعيدون النظر بما فعلوه أو أقدموا عليه، ذلك أن سلوكه الشخصي يتطابق تماما مع سلوكه السياسي وفي كل الأحوال فإنه بعيد عن النظرة الضيقة وإنه على الرغم من حداثة سنة سواء بالقياس إلى باقي قادة العراقية أو طبقا للمسؤوليات الجسيمة التي تحملها فإنه مثار إعجاب العاملين معه وكذلك أبناء الطبقة السياسية». وكشف محمود أنه وبحكم قربه «من العيساوي الإنسان والمسؤول فإنه لم يستغل أيا من مناصبه للأغراض الشخصية حتى أن إمكانياته المادية محدودة جدا فهو ليس رجل أعمال مثل الكثيرين من الساسة ولم يستفد من المسؤوليات لكي يصبح من أصحاب الشركات أو العقارات وكل شيء لديه بسيط وأنه يخشى الله في كل عمل يقوم به أو مسؤولية يتصدى لها».

من أبرز ما لفت أنظار الكثيرين بشأن طبيعة العيساوي وطبعه هي محاولة الاغتيال التي تعرض لها مؤخرا في الطريق بين بغداد ومحافظة صلاح الدين والتي كانت قد جرت طبقا لما أخبر «الشرق الأوسط» أحد المقربين منه على بعد 100 - 150 مترا من أقرب سيطرة عسكرية. مع ذلك رفض العيساوي توجيه التهمة لأحد أو حتى إصدار بيان إدانة. اللافت للنظر أن أحدا لم يحقق في محاولة اغتياله (العيساوي) التي يصفها مقرب آخر منه طلب عدم الكشف عن اسمه وفي تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «المحاولة كانت رسالة للعيساوي فضلا عن العراقية تمثل مرحلة من مراحل جس النبض» مشيرا إلى أن «العيساوي تجاهل الأمر ولم يهتم له لأنه يعتقد أن هذه الرسائل تأتي دائما في الوقت الخطأ». وردا على سؤال حول وضع العيساوي الآن سواء داخل القائمة العراقية أو وزارة المالية فقد قال إن «موقع العيساوي قوي وهو شخصية معتدلة ويحظى بقبول كل الأطراف السياسية وغالبا ما يقود التوافقات بين العراقية والقوى الأخرى».

وأكد أن «العيساوي يحظى بتقدير التحالف الكردستاني ولديه علاقات جيدة مع القادة الكرد وكذلك مع أطراف التحالف الوطني». وحول علاقته برئيس الوزراء نوري المالكي قال إن «علاقة الرجلين مهنية فالمالكي يعرف حجم العيساوي وكفاءته ولكن العيساوي قيادي في العراقية وقد التزم بقرارها على صعيد تعليق المشاركة في اجتماعات مجلس الوزراء وبالتالي فلا حديث له مع المالكي على صعيد العمل الوزاري على الرغم من أن العيساوي يمارس عمله عبر مكتب خاص في المنطقة الخضراء حيث يتم جلب البريد المهم له ويوقعه ويجري اللازم عليه». وبشأن مسؤولية العيساوي عن الموازنة المالية للدولة بوصفه وزيرا للمالية قال المصدر المقرب منه إن «أمر الموازنة ليس مرهونا تماما بالوزير حيث إن اللجان تعمل بهذا الاتجاه فضلا عن أن تعليق العضوية من قبل العراقية لم يكن خيارا سهلا وإنه يتوجب على الأطراف السياسية دراسة الأسباب التي دعت العراقية إلى اتخاذ مثل هذا الموقف».

يعرف عن العيساوي أيضا نشاطه في مجال المصالحة الوطنية وهي القضية التي تعد إحدى القضايا الشائكة في العراق والتي بقدر ما يجري الحديث حول إجراءات خاصة بها فإنها كثيرا ما تتأرجح بين القبول الشكلي بها مرة والخلط بينها وبين الحديث عن الاجتثاث مرة والإرهاب مرة أخرى. وعلى الرغم من أن العيساوي لم يخض علنا في هذا الجدل السياسي فإنه وبعد الإعلان عن ضم كتائب عصائب أهل الحق إلى العملية السياسية أعلن العيساوي انتقاده لمثل هذه الازدواجية والمتمثلة بضم كتائب كانت مصنفة ضمن الجماعات «الإرهابية» وبين تصنيف جماعات كانت تقاتل الأميركان وليست ضالعة في قتل مواطنين عراقيين يجري تصنيفها ضمن الجماعات الإرهابية ويتم التشكيك بها وبدوافعها محذرا من إمكانية طرق أبواب الربيع العربي العراقي ذات يوم. ومخاوف العيساوي هذه عبر عنها قبل أيام ولكن بطريقة مختلفة القيادي البارز في المجلس الأعلى الإسلامي باقر جبر الزبيدي وهو وزير مالية سابق أيضا عندما اعتبر أن الربيع العربي يمكن أن يصل العراق ولكن عبر نسخته الإسلامية «السلفية» مثلما سماها محذرا من صراع مذهبي وهي غير رؤية العيساوي التي لا تنطلق من هذا البعد بقدر ما تنطلق من رؤية مختلفة قوامها عدم الاهتمام بالشعب وحاجاته وفقدان العدالة والتفرد بالسلطة وتهميش الآخر وإقصائه.