الكتاتني.. مطفئ حرائق السياسة

انتخب رئيسا لأول برلمان مصري بعد ثورة 25 يناير

TT

تعلم من عالَم النبات الذي يعمل أستاذا له كيف يهيئ التربة لنمو البذرة، وينقيها من الأعشاب والحشائش الضارة، وتعلم من العمل السياسي كقيادي بارز في جماعة الإخوان المسلمين اتخاذ القرار في اللحظة المناسبة، وكان وجه الجماعة المقبول في إدارة تحالفاتها السياسية مع القوى السياسية قبل ثورة يناير (كانون الثاني)، بحثا عن مشترك إنساني يعتد بتنوع الرؤى والأفكار.. بهذه الروح ومن وسط ركام أحداث جسام مرت بها البلاد في الآونة الأخيرة تقلد الدكتور محمد سعد الكتاتني منصب رئيس أول برلمان لمصر بعد الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس السابق حسني مبارك.

كان الدكتور أحمد فتحي سرور رئيس البرلمان السابق يصفه في الجلسات الملتهبة بأنه مطفئ الحرائق. ولم يكن أحد يتوقع، بمن في ذلك الكتاتني نفسه، أن تتغير بوصلة الاتجاهات على هذا النحو الذي أبهر العالم.. ففي أيام قلائل كانت جماعة الإخوان في صراع ما بين المواءمة سياسيا مع النظام الحاكم المتداعي، وما بين اللحاق بموكب الثورة الخارج من الضواحي إلى الشوارع والميادين مطالبا بإسقاط نظام مبارك.

ظهر الكتاتني داخل عضوية جماعة الإخوان حين كانت الجماعة في أزمة مع النظام الحاكم في الأيام الأخيرة من حكم الرئيس الراحل أنور السادات، والأيام الأولى من حكم الرئيس السابق حسني مبارك. ويقول عدد من السياسيين الذين تعاملوا مع الكتاتني عن قرب إنه يتمتع بسلوكيات الرجل الصبور.. كما أنه كتوم ومستمع جيد، ولديه القدرة على إدارة المناورات التي تعد من صلب العمل السياسي والنيابي والحزبي.

وتعد كبرى التجارب التي خاضها الكتاتني بعد تجربة عضويته في البرلمان (2005 -2010)، هي تلك التي تتعلق بانخراطه في عمليات من المشاورات مع القوى السياسية التي ازدادت وتيرتها وأهميتها في السنوات الخمس الأخيرة من حكم مبارك. لم تكن خريطة المستقبل واضحة، وكانت عدة قيادات سياسية من جماعة الإخوان في السجن، والسلطات تعتقل يوما بعد يوم المزيد من الكوادر «الإخوانية» في المحافظات. وفي تلك الفترة تمكن الكتاتني، الذي كان قد أصبح عضوا في مكتب الإرشاد (أعلى هيئة تنفيذية في الجماعة)، من التقريب بين نهج شيوخ الجماعة الدعوي، ونهج شباب الجماعة المرتبط بحركة الشارع السياسية.

أثناء الإعداد لثورة 25 يناير، يذكر عصام البطاوي محامي وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، أن الجماعة كانت قد نسقت مع أقوى أجهزة وزارة الداخلية حينذاك، وهو جهاز أمن الدولة، وأنها قالت لمسؤولي الجهاز الأمني إنها لن تشارك بقوة في الاحتجاجات التي كان قد دعا لها بالأساس شباب من الليبراليين واليساريين وشباب جماعة الإخوان المتمردين على شيوخ الجماعة. ويضيف البطاوي أثناء مرافعته أمام المحكمة هذا الأسبوع، أن «الإخوان» تعهدوا لأمن الدولة (المنحل) أن تكون مشاركتهم رمزية في ميدان التحرير، إلا أن الأجهزة الأمنية فوجئت فجر الجمعة 28 يناير الماضي (2011) بتجهيز عناصر «الإخوان» حافلات من مختلف المحافظات لحشد أعضائها في ميدان التحرير على غير الاتفاق السابق، موضحا أن الأجهزة الأمنية قامت على أثر ذلك باعتقال مجموعة من قيادات مكتب إرشاد «الإخوان».

ورغم نفي قيادي في الجماعة ما ذكره البطاوي، فإن مصادر «الإخوان» تقول إن حماس شباب الجماعة للمشاركة في المظاهرات جعل الكتاتني نفسه يشارك عددا آخر من القيادات في مكتب الإرشاد بضرورة المشاركة بقوة في الاحتجاجات، حتى لا يحدث انشقاق بين فريق الشباب وفريق الشيوخ داخل الجماعة.

بعد انتهاء أول أيام المظاهرات (يوم الثلاثاء 25 يناير) بمشاركة محدودة أغضبت الجيل الجديد في جماعة الإخوان، كان شباب الجماعة يعدون لتحركهم يوم «جمعة الغضب» (28 يناير) مع الشباب اليساريين والليبراليين ويضعون اللمسات الأخيرة للظهور بقوة في المظاهرات. ويبدو أن أجهزة الأمن رصدت موافقة بعض قيادات الجماعة على هذا الأمر، فصدرت بالفعل الأوامر لقوات الأمن المصرية باعتقال 34 قياديا «إخوانيا»، من بينهم الكتاتني وستة من أعضاء مكتب الإرشاد. ولم يكن من بين الأطراف الثلاثة (شباب الثورة، والقيادات المعارضة التقليدية، وقيادات الأمن) من يستطيع التنبؤ بما سوف يجري ظهيرة اليوم التالي، وظل السؤال حائرا حتى نودي لصلاة «جمعة الغضب».

وبينما خرج شباب الثورة ومن ورائهم ملايين المصريين، في مظاهرات عارمة بطول البلاد وعرضها، ومن جميع التيارات، بما فيها جماعة الإخوان، كان الدكتور الكتاتني في محبسه بسجن «وادي النطرون» على الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية مع عدد من قيادات الجماعة، ومن بينهم الدكتور محمد مرسي والدكتور عصام العريان دون أن يصل إليهم دوي هتافات رجت عرش السلطة في البلاد.

وفي الأيام التالية، وبينما كانت الفوضى تضرب كل شيء، كانت السجون قد بدأت تفتح أبوابها على من فيها، في كل مكان.. وفي معمعة الهروب الكبير للسياسيين والجنائيين من السجون، أصبحت القيادات المحبوسة، بمن فيهم الكتاتني، حرة وخارج الأسوار، حيث بادرت تلك القيادات للترتيب لزيادة زخم الثورة لأن طريق العودة عن إسقاط نظام الحكم لم يكن ضمن الحسابات. يقول الدكتور عصام العريان عن الخروج من السجن، في مذكراته عن الثورة: «قبيل صلاة الظهر (يوم السبت 29 يناير) كان الباب قد تم كسره من الخارج وكنا أعددنا أنفسنا للخروج بحزم حقائبنا وإعداد أنفسنا لما سوف نقول للإعلام الذي سيبادر بالاتصال فورا».

ويتابع العريان الذي أصبح لاحقا نائبا لرئيس حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان: «في هذا الوقت كان أقرب الأهالي لنا هم (إخوان) وادي النطرون و(إخوان) مدينة السادات، فاتصلنا بهم للاستعداد للحضور ببعض السيارات لحملنا إلى بيوتنا (...) قبل الأذان بعشر دقائق أو خمس دقائق انكسر الباب، فقررنا تأجيل الصلاة وأن نجمع الظهر مع العصر عند وصولنا إلى مكان آمن».

يضيف القيادي «الإخواني» البارز «خرجنا قلقين جدا، وجدنا الإدارة محطمة الأبواب، بحثنا عن أوراقنا وبطاقات الرقم القومي، لم نجد شيئا، هربت الإدارة جميعها، لاحظنا سيارة شرطة محروقة (...) انطلقنا مسرعين إلى الخارج، وجدنا على الطريق مئات المساجين من بقية سجون منطقة وادي النطرون».

كانت جماعة الإخوان المسلمين المحافظة بطبيعتها قد وجدت حرجا في إعلان مشاركتها في مظاهرات 25 يناير من العام الماضي، لكن «الإخوان» الذين تعلموا من تاريخهم الطويل فداحة ثمن الصدام مع السلطة وقد وجدوا أنفسهم «المتهم الأول في الأحداث».. قرروا خوض المعركة إلى النهاية.

وبينما كانت جماعة الإخوان تصدر بيانها الأول في 29 يناير، للمطالبة بإجراءات سياسية عاجلة، منها الإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين، وتشكيل حكومة وطنية انتقالية تجري انتخابات نزيهة لنقل السلطة، شكل المرشد العام الدكتور محمد بديع لجنة برئاسة الدكتور محمد علي بشر عضو مكتب الإرشاد لمتابعة وتنسيق التطورات على الأرض، وقد أمنت هذه اللجنة 5 مقرات قريبة من ميدان التحرير، قبلة الثورة المصرية، وخطوط اتصال آمنة بالقيادة.

وعلى الرغم من استعادة نظام مبارك القدرة على المبادرة، واتخاذه إجراءات عاجلة بإقصاء قيادات من حزبه الحاكم وخطاب عاطفي من مبارك للمصريين أعلن فيه نيته عدم الترشح مجددا للرئاسة، جاءت «موقعة الجمل» لتنهي أي طريق للرجوع إلى الوراء من جانب القوى السياسية المعتصمة بالشارع، وكان في القلب من هذه القوى جماعة الإخوان.

وبعد معركة استمرت 24 ساعة عرفت إعلاميا بـ«موقعة الجمل» يوم 2 فبراير (شباط) صمد الثوار في الميدان رغم سقوط مئات القتلى والجرحى، ولم يعد أمام نظام مبارك إلا التفاوض مع القوى السياسية، وكان الدكتور الكتاتني في هذه الأثناء يتفاوض جنبا إلى جنب مع بعض القوى الحزبية، على طاولة اللواء عمر سليمان الذي أصبح نائبا لرئيس الدولة وقتها.

وأدى قبول «الإخوان» لقاء سليمان إلى بداية تصدع جسر التفاهم بين قيادات الجماعة وبين شباب الثورة، فيما كان أمام الرئيس السابق أربعة أيام فقط لحسم موقفه قبل «جمعة التحدي» يوم 11 فبراير. وعقب قرار تخلي مبارك عن سلطاته انشغل المصريون خلال الأسبوع الثالث من شهر فبراير بالإعداد لجمعة «الاحتفال بالنصر»، وفوجئ الجميع بأن جماعة الإخوان تهيمن على هذا المشهد من خلال مشاركة واسعة لقادتها، ومن بينهم الشيخ يوسف القرضاوي الرمز «الإخواني» البارز الذي أمّ في ذلك اليوم مئات آلاف المصريين في قلب ميدان التحرير بعد سنوات طويلة من الغياب. كان الكتاتني يشعر مع باقي قيادات الجماعة بنشوة إزاحة نظام بقي على سدة الحكم ثلاثة عقود.. وشوشت الدلالات السياسية التي فرضها الحضور الطاغي للقرضاوي على رؤية الثوار للمستقبل في مرحلة ما بعد مبارك. واعتبر البعض تقدم «الإخوان» الصفوف دليلا على رغبة الجماعة في تأكيد موقعها الجديد على الساحة السياسية في البلاد، وكان الكتاتني يظهر بين حين وآخر من خلال وسائل الإعلام ليؤكد أن سنوات السياسة المقبلة «إخوانية»، على الرغم من أن الكتاتني يقول إن «الجماعة لا علاقة لها بدعوة القرضاوي أصلا، فالدعوة وجهها الشباب في التحرير». وأصبح لـ«الإخوان» حزب سياسي لأول مرة منذ تأسيس الجماعة عام 1928، وظهر الكتاتني في المقدمة كأمين عام لهذا الحزب. ورغم أن الحزب حصل على نحو 47 في المائة من مقاعد البرلمان، وتم تصعيد الدكتور الكتاتني ليكون رئيس البرلمان، فإن الصدوع القديمة والتشققات الجديدة بين «الإخوان» والثوار ما زالت موجودة.. الثوار يعتبرون «الإخوان» والتيار الإسلامي عامة ركب على ظهر الثورة، وتحالف مع الجيش، واقتطف ثمارها قبل الأوان، مما أدى إلى انحراف مسار الثورة عن الطريق.

وبعد أيام من رئاسة الكتاتني «الإخواني» للبرلمان، وبعد مظاهرات أول من أمس (الأربعاء)، بدا أن الهوة بين الثوار و«الإخوان» آخذة في الاتساع. ويقول مراقبون إن التحدي الكبير أمام الكتاتني في المرحلة المقبلة هو التغلب على عملية الاستقطاب الذي عرف طريقه إلى المشهد السياسي في مصر طوال العام الماضي وما شهده من إخفاقات سياسية متلاحقة في إدارة الأزمات، يرجع بعضها إلى إدارة المجلس العسكري ويرجع بعضها الآخر إلى استغلال التيار الإسلامي، وفي القلب منه «الإخوان»، كل فرصة لتحقيق مكاسب أغضبت الثوار الأصليين في 25 يناير.

فالمجلس العسكري، وعقب شهرين فقط من توليه إدارة شؤون البلاد، وضع إعلانا دستوريا تضمن خارطة طريق غامضة للمرحلة الانتقالية، بينما كانت خطوط التفاهم بين القوى السياسية تنهار مع اقتراب «جمعة الغضب الثانية» في نهاية مايو (أيار) الماضي، والتي أطلقت عليها جماعة الإخوان المسلمين «جمعة الوقيعة» (في إشارة إلى القوى الثورية التي اتهمتها الجماعة ببث الفتنة بين الشعب والمجلس العسكري).

كانت أوركسترا الإخوان المسلمين تعزف لحنا واحدا منذ مارس (آذار).. «لا بد من إجراء الانتخابات البرلمانية أولا، لأن هذا ما اختاره الشعب من خلال الاستفتاء على التعديلات الدستورية»، ومن أجل هذا الهدف أطاح «الإخوان»، وحزبهم، برئيس وزراء ونائبين له (الدكتور عصام شرف رئيس الحكومة، ونائبيه الدكتور يحيى الجمل، ثم الدكتور علي السلمي).

وبينما كانت دماء الثوار تحاصر ميدان التحرير منذ نوفمبر (تشرين الثاني)، وقبل يومين فقط من انطلاق الانتخابات البرلمانية، وحتى ديسمبر (كانون الأول)، لم تكن الأجندة السياسية للإخوان المسلمين مستعدة لاستضافة بند عاجل يتضمن رئاسة الدكتور محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، لوزارة «إنقاذ وطنية»، وهو المطلب الذي رفعه ميدان التحرير نهاية العام الماضي، على الرغم من أن الجماعة التفت حول البرادعي حين كان يعلن معارضته الصريحة لنظام مبارك في عنفوانه.

وفي 28 نوفمبر انطلقت المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية المصرية، وتوالت نتائج المعركة التي بدت أنها حسمت منذ اللحظة الأولى لجماعة الإخوان الأكثر تنظيما واستعدادا من بين القوى الفاعلة على الأرض. وقبل يومين فقط من ذكرى مرور عام على الثورة المصرية اختار البرلمان بأغلبية كبيرة الدكتور الكتاتني لرئاسة أول مجلس شعب بعد الثورة، وكأن نبوءة الدكتور سرور للكتاتني قد تحققت بدون شروط، حيث ينسب إلى رئيس البرلمان السابق قوله للكتاتني: «لولا انتماؤك للإخوان لأصبحت رئيسا لمجلس الشعب».

ويتميز الدكتور الكتاتني بالقدرة على المناورة السياسية. وظهر ذلك واضحا حين شغل عضوية البرلمان لمدة خمس سنوات عن دائرة محافظة المنيا، حيث كان يلعب دورا محوريا في تخفيف حدة الصدام بين نواب الجماعة وبين أغلبية حزب مبارك، وكذا تهدئة منصة البرلمان حين تكشر عن أنيابها تجاه نواب «الإخوان».

وفي يوم الذكرى السنوية لثورة 25 يناير التي حلت يوم الأربعاء الماضي، كان الشارع المصري منقسما إلى فريقين، فريق يمثله التيار الديني وعلى رأسه جماعة الإخوان، وينادي بالالتزام بخطة المرحلة الانتقالية، من حيث وضع دستور جديد وإجراء الانتخابات الرئاسية قبل منتصف هذا العام، وفريق من الثوار يدعو إلى نقل السلطة فورا من المجلس العسكري إلى سلطة مدنية منتخبة، معتبرا أن التيار الديني حقق مكاسب على دماء الشهداء. وسارع الدكتور الكتاتني بإصدار بيان باسمه كرئيس للبرلمان إلى «جماهير شعب مصر في ذكرى انطلاق الثورة المصرية المجيدة».. قال فيه إن مجلس الشعب «تسلم منذ يومه الأول السلطة التشريعية والرقابية كاملة؛ ليستكمل من خلالها مسيرة الثورة، ويحقق كامل أهدافها، وإن برلمان الثورة لن يقف أبدا بالشعب المصري العظيم الذي أولاه ثقته وحمله المسؤولية في منتصف الطريق، إنما سيمضي قدما حتى يحقق انتقالا كاملا للسلطة من المجلس العسكري إلى سلطة مدنية منتخبة».

وقال في بيانه أيضا، إن مجلس الشعب يؤكد الاعتزاز بشهداء وضحايا ومصابي الثورة «أصحاب الفضل على الوطن كله»، وأضاف أنه «من أجل هذا كان أول قرار يتخذه مجلس الشعب هو تشكيل لجنة برلمانية لتقصي الحقائق في الأحداث التي وقعت منذ انطلاق الثورة، لكي تعلن الحقائق كاملة على الشعب المصري، ويتخذ المجلس بشأنها قرارات حاسمة تلتزم الحكومة بتنفيذها.. هذا عهد قطعه نواب الشعب على أنفسهم».

ويرى الكثير من المصريين أن الكتاتني بخبرته السياسية والبرلمانية سيلعب دور «رمانة الميزان» بين كل التيارات تحت قبة البرلمان، وأن مصلحة الوطن ستكون همه الأول، وهو ما بدا واضحا في إدارته بحزم وحيوية لأول جلسة عملية للبرلمان بعد جلسة الإجراءات التي تم فيها انتخاب رئيس البرلمان.