الاستعمار الثقافي ونماذجه

د. محمد عبد الستار البدري

TT

ما زلت من المتأثرين بكتابات المفكر السياسي العظيم هانز مورجنثاو والذي يعتبره الكثيرون مؤسس علم العلاقات الدولية من خلال كتابه الشائق والشهير «السياسة بين الأمم: الصراع من أجل القوة والسلام»، وقد درست هذا الكتاب وأنا طالب في الجامعة ثم درسته أستاذا، ولا يزال أثره إلى اليوم كما كان منذ ثلاثة عقود، ولكن من أكثر المواضيع التي تأثرت بها كان مفهوم «الاستعمار الثقافي Cultural Imperialism»، وعلى الرغم من أن هذه الفكرة كانت مرتبطة بمفاهيم لكارل ماركس، فإن مورجنثاو صنف هذا المفهوم ضمن ثلاثة أنواع من الاستعمار: الاستعمار العسكري والاقتصادي ثم الثقافي، وتقديره أن الاستعمار الثقافي هو أكثر أنواع الاستعمار انتشارا لدى الشعوب وأكثرها نجاحا، فهذا الاستعمار لا يسعى للسيطرة على إقليم بالقوة العسكرية أو الاقتصادية، ولكن يسعى للسيطرة على العقول بهدف تغيير أنماط القوة بين الدول، فلو أثرت الدولة الأولى على صناعة القرار في الدولة الثانية فستكون النتيجة أسهل ويمكن من خلالها السيطرة عليها دون استخدام وسائل القوة الأخرى.

لقد تعرض مورجنثاو لعدد من النماذج الأوروبية التي طبقت هذا النوع من الاستعمار، منها الحزب النازي وأثره المباشر على الساسة في النمسا إلى الحد الذي دعوا فيه هتلر وألمانيا لاحتلال بلادهم إيمانا منهم بمبادئ النازية، كما يوضح أنواعا أخرى من هذا الاستعمار ممثلة في الطابور الخامس الذي نشرته الدول الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفياتي في دول شرق أوروبا، ولكن مورجنثاو تعرض لأخطر أنواع هذا الاستعمار ممثلا في فرنسا عندما عقدت العزم على تطبيق مبادئ الرسالة السامية لدفع العالم للتحضر، والتي طبقتها بقوة، خاصة في الجزائر، فحاولت أن تطمس الهوية الثقافية لمثل هذه المستعمرات إيمانا منها بتسهيل ضم الإقليم إلى الدولة الفرنسية الأم.

قد يعتبر البعض أن الأمثلة التي ساقها مورجنثاو هي تعبير عن مفهوم ابتكره بسبب تأثره بنماذج من السلوك الغربي خلال مرحلة ما بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. ولكن حقيقة الأمر أن هناك أمثلة في تقديري لهذا الاستعمار الثقافي والذي يعكس ثقل الدولة المهيمنة على الرغم من أنها لم تكن بالضرورة قوة عسكرية ممتدة، ويحضرني هنا نموذجان أساسيان: الأول هو الثقافة الفرعونية وأثرها على منطقة شرق المتوسط، وهي الثقافة التي انتشرت بشكل تلقائي بلا أهداف إمبريالية، ولكن المثال الثاني والذي كان أكثر خطورة تمثل في الإمبراطورية اليونانية في عهد الإسكندر الأكبر، فهذه كانت إمبريالية الهدف والطابع، ومن ثم وجب توجيه اهتمام خاص بها، فعلى الرغم من أنها كانت إمبراطورية كبيرة فإنها كانت قصيرة العمر بسبب الوفاة المبكرة للإسكندر في 323 (ق.م) وما تبعها من تفتت دولته إلى أربع دول «Diadochi» قسمت بين جنرالاته، ومع ذلك استمرت قوة الدفع الثقافية اليونانية بشكل لم يسبق له مثيل، وهذا يرجع إلى عدد من الأسباب الأساسية المرتبطة بالنظام الاجتماعي والثقافي الذي فرضه الإسكندر على الأراضي التي فتحها والذي كان يمثل تجسيدا حقيقيا لمفهوم الاستعمار الثقافي، وذلك من خلال ما يلي:

أولا: لقد استوعب الإسكندر الثقافة اليونانية وقيمتها بحكم تعاليم أستاذه أرسطو الذي تعلم منه الحكمة والعمق اليوناني، وذلك على الرغم من أنه كان مقدونيا ولم ينتم بالشكل الكامل للثقافة اليونانية! ومع ذلك كان اعتزازه بالثقافة اليونانية وانتسابه لها عظيما، فاعتنقها وفرضها فرضا على فكره التوسعي، وبالتالي كانت له رسالة ثقافية إلى جانب رسالته العسكرية والدينية، وهو ما سمح بزرع الثقافة اليونانية بمنتهى القوة حتى في الدول التي كانت تميل إلى ثقافات مختلفة أو حتى متباينة.

ثانيا: لجأ الإغريق إلى محاولة وضع قاسم مشترك بين كل الحضارات والثقافات التي استوعبتها إمبراطوريتهم، فسعوا لمحاولة زرع المدن المثالية في المناطق التي احتلوها من خلال محاولة نقل النموذج اليوناني للمدينة «Polis» والتي بدأ يرأسها جنرالات الجيش المتقاعدون، فكان الهدف منها هو محاولة زرع البنية الاجتماعية الأساسية واللبنة الثقافية وجذور الحضارة اليونانية كنوع من الربط بين الدولة الأم (اليونان) وباقي المستعمرات، وقد تم استنساخ المدن اليونانية كما هي ودون أي تغيير على الإطلاق، بنفس الهياكل والجمعيات ومؤسساتها، بل وبنفس السلم الاجتماعي أيضا، وكان لهذا أثره الكبير في المستعمرات التي بنوها.

ثالثا: ركز الإسكندر في مشروعه للاستعمار الثقافي على استيعاب النخب في الدول التي احتلها، وذلك اقتناعا منه بأن النخب هي القادرة إلى إضفاء التغيير أو ضمان التأثير على باقي السلم الاجتماعي والثقافي، ومن ثم لم يسع الرجل لتعديل وضعية الفلاحين أو العبيد، بل ركز على من هم قادرون على إحداث التغيير المطلوب من أبناء النخب التي تملك المال والأرض والنفوذ، وقد أدى ذلك إلى خلق حالة من الارتباط بين النخب والدولة اليونانية وثقافتها، وهي ظاهرة كثيرا ما نشعر بها في دول العالم الثالث عندما تتقن النخب لغة المستعمر وثقافته قبل لغتها، وهو نمط قديم قدم الإسكندر أو حتى قبله.

رابعا: من جانب آخر سعى الإسكندر لمحاولة الشروع في ما يمكن تعريفه بحملة مباشرة لنشر الثقافة اليونانية للتخديم على مشروعه العسكري والمدني، فسعى لمحاولة تزويج الثقافات من خلال الزيجات المختلفة لجنرالاته ورجال جيشه في محاولة لفرض الهوية الثقافية اليونانية على المستعمرات، ومن ثم نشر ثقافته لضمان بقاء دوره واستمراره السياسي، وكان هذا أحد الأركان الأساسية في منظومته لنشر الثقافة اليونانية في الدول التي احتلها.

وعلى الرغم من تفتت إمبراطورية الإسكندر في زمن قصير، فإن النفوذ اليوناني ظل قويا للغاية بسبب المشروع التثقيفي اليوناني أو المشروع الإمبريالي الثقافي، حتى إنه استخدم الديانات المحلية ليربطها بشبكة الديانات اليونانية القديمة، فكانت النتيجة والتي يمكن أن نستشعرها من الآن هي تأثر عالم شرق المتوسط بالحضارة اليونانية بشكل مخيف، فالآثار اليونانية موجودة في كل منطقة، والفكر اليوناني أثر على أي فكر حر في هذه المنطقة أو حتى المناطق المتاخمة لها، حتى الإسلام تأثر بالثقافة اليونانية، ففريق مثل المعتزلة على سبيل المثال يمثل اقتباسا من الحركة الفكرية اليونانية، وعلى رأسها أفكار أرسطو واضع أعمدة علم المنطق. ونرى هنا أن التأثير اليوناني ظل موجودا لقرون ممتدة حتى بعد انهيار أساس قوة الإمبراطورية منذ أكثر من عشرة قرون، ولكن الأثر الثقافي دائما ما يبقى.

إن البعد الثقافي يمكن أن يتحول في العلاقات الدولية إلى بعد لا يقل خطورة عن المساس بسيادة أو أمن الدول، فقهر الأراضي أقل خطرا من قهر العقول والنفوس، فاستيطان الأرض أسهل من استيطان العقول، فالأرض مصيرها العودة لأصحابها، والمهزوم اليوم هو المنتصر في الغد، وهذه سنة الحياة، ولكن من الصعب حقيقة أن تتحرر النفس من ثقافتها، فالثقافة هي روح الأمة وعقلها، بل ومستقبلها، فقديما قال الحكيم بوذا «إن العقل هو كل شيء.. فإنك ستصبح على ما تفكر فيه».

* كاتب مصري