حمد بن جاسم.. البياع الماهر

في معركة الظبي والأسد

TT

قطر دولة مطلة على الخليج العربي، لكن قطر حمد بن جاسم، السياسية، تحاول الإطلال على كل البحار، والأنهار، والأودية، وتريد التنقيب حتى في السهول والجبال. الشيخ حمد بن جاسم، رئيس وزراء قطر وزير خارجيتها، هو ابن عهد قطري جديد.. عهد ثائر.. سياسي اقتحم المشهد بنزق، وما لبث أن تحول إلى رجل بجلد تمساح.. ذكي، حاضر البديهة، وسليط اللسان.

نفث السيجار علنا يوم كان يفعل ذلك طارق عزيز وزير خارجية صدام حسين، وحاول الشيخ حمد بن جاسم أن يمشي مشية الخيلاء على السجاد الإيراني، واجتهد في التلوي مع تعرجات ذاك السجاد، لكن لم تمهله الأحداث، حيث بدأت خيوط السجاد الإيراني في التمزق. تقلبت المنطقة من الهجوم على القواعد الأميركية فيها، خصوصا يوم كانت في المملكة العربية السعودية، رغم نفحات السلام التي هبت على المنطقة وقتها، وظن أن السلام العربي - الإسرائيلي قاب قوسين أو أدنى، ثم تلا ذلك صعود المد الأصولي لأسامة بن لادن، وكان مسرحه الإعلامي وقتها قناة «الجزيرة».. هي نفسها القناة الثورية اليوم، ثم جاءت لحظة الانفجار الكبرى، وهي أحداث 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية في نيويورك، وتلاها الغزو الأميركي لكل من أفغانستان والعراق.. وكان حمد بن جاسم ضيفا محوريا لكل تلك الأحداث، حاملا سيفه، ويصارع سياسيا، حيث يشتري ويبيع لدولته قطر.

ثم جاءت موجة الممانعة العربية، حيث انقسم العرب إلى عربيْن؛ عرب «الممانعة» بقيادة إيران وسوريا وحماس وحزب الله، وكان حمد بن جاسم «يسل سيفه» ممانعا، وكان على الضفة الأخرى عرب «الاعتدال»، وهناك دارت رحى المعركة مرتين؛ واحدة بين إسرائيل وحزب الله، وحرب أخرى شنتها إسرائيل على غزة، هذا إضافة إلى احتلال حزب الله بيروت. لم تقف الدنيا، أو السياسة، عند ذاك الزمان.. دارت عجلة المنطقة، الفارغة، إلى أن انفجرت دول العسكر، حيث هب الربيع العربي، أو ضرب الزلزال العربي، بحسب موقف المتلقي.. هنا خرج حمد بن جاسم سالا سيفه: «الشعب يريد إسقاط النظام». أصبح الشيخ حمد رأس الحربة ضد ليبيا العقيد، إلى أن سقط معمر القذافي، ويا له من سقوط، فقد جيّش حمد بن جاسم العالم كله على حليف قطر السابق معمر القذافي الذي كان يقول في آخر أيامه، وفي أحد خطاباته الشهيرة: «بارك الله فيكم يا إخوتنا بقطر.. هذه آخرتها؟!»، ثم جاءت المفارقة، ويا لها من مفارقة، فحمد بن جاسم اليوم هو أيضا رأس الحربة ضد بشار الأسد، حليف الأمس، لأن «الشعب يريد إسقاط النظام»! ولا يهم إن كنت ممن يحتفون بحمد بن جاسم، المولود في 30 أغسطس (آب) 1959، وأب لثلاثة عشر ابن وابنة، أو لا، فالأهم أنه بياع ماهر، يؤمن بأن «الزبون على حق»، والزبون هنا هو «الشارع». باع حمد بن جاسم عملية السلام، وتوابعها، ومستلزماتها، وشروطها، بكل محاذيرها، باسم الممانعة. وباع العقلانية، مرارا وتكرارا، باسم «الدم العربي» يوم حرب إسرائيل على لبنان، وغزة، وقبلها باع صدام حسين في سوق «العيديد». ولم يلتزم حمد بن جاسم بالنص أبدا، فهو دائما خارج النص، ولكن ليس خارج السياق، فهو يتعرج مع «الشارع» أينما تعرج.

حمد بن جاسم «سكين سياسي» حاد من الطرفين، تتحالف دولته مع الإخوان المسلمين، أو كما قال بشار الأسد «إخوان الشياطين»، فتجد حمد بن جاسم يتحالف مع الإخوان، أو الشيطان، لكن دون أن تجد له تصريحا واضحا يظهر إذا ما كان هو نفسه «إخوانيا»، أم «علمانيا»، أم «وهابيّا» كحال أهل قطر، ولا تدري إن كان يؤمن فعليا بإمكانية وجود علاقة جيدة بين دول الخليج العربي وملالي إيران، كيف لا، وهو صاحب العبارة الشهيرة حول العلاقة الخليجية - الإيرانية حيث نقلت عنه وثائق «ويكيليكس» قوله: «علاقتنا مع إيران تسير وفق: هم يكذبون علينا، ونحن نكذب عليهم»؟

حمد بن جاسم هو نجم كل قضية عربية، ومنذ أواسط التسعينات، وهو بياع ماهر في كل سوق؛ سواء سوق السلام، أو الأديان، أو الممانعة، أو سوق الثورات، فهو اليوم رأس حربة الثورات العربية، وآخر «بيعاته» موقفه تجاه نظام بشار الأسد، حليف الأمس.

فقد اعتقد «الدكتور» بشار الأسد أنه الأذكى، والأطول لسانا، ففاجأه حمد بن جاسم، الدارس في لبنان، حين خاض معه معركة الأسد والثعلب، أو الظبي بالحالة القطرية. تذاكى الأسد، «طبيب العيون» الدارس في بريطانيا، والمعرِّف الجديد للعرب العاربة والمستعربة، فحذره الظبي القطري، الذي درس اللغة الإنجليزية بلندن «من اللف والدوران»، جن جنون نظام الأسد، وهنا، وتحديدا في حالة الظبي والأسد، فلا بد من استحضار شطر بيت من قصيدة يزيد بن معاوية الشهيرة، حيث يقول في ذلك الشطر: «تأملوا كيف فعل الظبي بالأسدي».

فقد أسقط في يد الأسد، وحاول بكل ما في وسعه، لكن بياع قطر كان بالمرصاد.. تصيد كل عثرة للأسد، وقطع المسافات حتى استقرت المعركة في مجلس الأمن، فذهب البياع القطري، متمم صفقة متجر «هارودز» الشهير بلندن، إلى نيويورك متأبطا «العربي»، ومتوشحا عباءة العرب؛ عاربة ومستعربة. تصدى ابن «الجزيرة» لمندوب الأسد «الجعفري» في موقعة جديدة، ومختلفة، فبياع قطر الماهر، والمعروف بولعه بالأجبان «المطبوخة» لا يتحدث عادة خارج «الجزيرة» إلا نادرا، فهناك يمرح ويسرح، بلا مقاطعة، أو تحدِّ، لكن في «حلقة» مجلس الأمن، وأمام «الجعفري» تجلى التاجر القطري، كان «نجم الأسبوع» بلا منازع، وليس نجم العام، فأسبوع يعد أمرا كثيرا على «البراغماتي» حمد بن جاسم.

فند البياع القطري المعلومة بمعلومة، وصحح التاريخ، ونافح عن نزار قباني، ولو قدر للشاعر الدمشقي الراحل أن عاش ليرى «حلقة» مجلس الأمن، لردد أبياته الشهيرة: «فقاقيع من الصابون والوحل.. فما زالت بداخلنا.. رواسب من أبي جهل». عرى حمد بن جاسم الخطاب الأسدي بكل هدوء، ونافح عن الدم السوري بكل حزم، وكان معه «العربي» قلبا وقالبا.. هناك سدد حمد بن جاسم دين «السلام» بفارق سعر «العروبة» المرتفع بعد فشل سوق «الممانعة» في زمن طفرة «الثورات»، ليثبت حمد بن جاسم مرة أخرى أنه بياع ماهر، شريطة توفر مشترين، أو قل «جماهير».