بوليفار وحلم لم يكتمل

د. محمد عبد الستار البدري

TT

يعد سيمون بوليفار أحد أهم الساسة الذين أنجبتهم أميركا اللاتينية، فهو الرجل الذي لا تخلو مدينة لاتينية من تمثال أو شارع باسمه، حتى أن عملة دولة مثل فنزويلا هي البوليفار، بل واسم دولة بوليفيا مشتق من اسمه، فهو لم يكن قائدا لحركة الاستقلال في أميركا اللاتينية فحسب، ولكنه كان أيضا مفكرا ومثقفا وقائدا عسكريا، فكان بوليفار بحق شخصية فريدة ضمن قلة في تاريخ الإنسانية، فأنفق حياته وماله وصحته على هدف واحد أوحد وهو الاستقلال والوحدة لدول أميركا اللاتينية، وبينما نجح في الأول بقوة السلاح وتأييد الشعوب له، فإنه فشل في الثاني لانتشار ضعف الإدراك السياسي لدى الشعوب والمصالح المتناقضة لدى القوى السياسية المختلفة عند الشعوب اللاتينية الناشئة والتي كانت تبحث عن مصالح محدودة ولم تستوعب فكرة التكامل في دولة قوية مثل الولايات المتحدة، فمات الرجل مريضا محسورا وهو في سن السابعة والأربعين، بل في بعض الأوقات ملعونا من ساسة أحسن إليهم فأساءوا إليه، وأقبل عليهم فلفظوه، ولكن هذه سمة بعض المجتمعات السياسية التي لا تدرك قيمة قياداتها الثورية الرائدة إلا على قبورها بعد فوات الأوان.

لقد ولد بوليفار لعائلة ميسورة الحال من النبلاء الإسبان المقيمين في فنزويلا، وكان غنيا من عائلته لأمه وأبيه معا، ولكن سُرعان ما اختطفه اليتم عن سن مبكرة ففقد والديه وهو دون السابعة فكفله أخواله، وقد وفرت البيئة الميسورة التي نشأ فيها فرصة تعليم عظيمة على أيدي أفضل المعلمين، وهو ما كان له أكبر الأثر في التثقيف السياسي المتميز له والذي سمح بتطوير رؤيته السياسية ومنحه الرقي السياسي والاجتماعي المطلوبين في الأوساط الإسبانية والأوروبية، وسرعان ما انضم الشاب إلى الجيش الإسباني وذهب في رحلات موسعة لأوروبا ومدن التطور والحضارة، خاصة باريس والتي كانت تشتعل بالفكر الثوري وصعود نابليون بونابرت وتتويجه إمبراطورا، ويقال إن سيمون بوليفار شاهد حفل تتويجه في باريس وكان له أكبر الأثر في نفسه. ويقال أيضا إن الرجل أخذ على نفسه قسما في إحدى الكنائس بألا يستريح حتى يمنح بلاده الاستقلال والوحدة المنشودة لشعوب أميركا اللاتينية.

بدأ بوليفار نشاطه الثوري الفعلي عقب انقلاب 1810 والذي أتي بحكم العسكر أو المعروف في الثقافة اللاتينية باسم Junta، فيتم إرسال الشاب إلى لندن لجمع الدعم اللازم للجمهورية الوليدة، ثم بدأ الشاب يلفت الأنظار في دوائر البرلمان الكبير (الكونغرس) الذي أقيم في الأقاليم المتحدة لغراندا الجديدة والذي شمل كولومبيا وأجزاء كبيرة من فنزويلا، فتم إسناد أول قيادة عسكرية له بهدف هزيمة الملكيين أو المؤيدين للحكم الإسباني في الدول اللاتينية، وقد استطاع بالفعل أن يضم مقاطعات بعينها إلى الأقاليم المتحدة. وسرعان ما بدأ نجم الشاب يسطع في القارة، خاصة بعد أن لُقب بلفظ «المحرر»، ولكن بمجرد عودة أسرة «البوربون» للحكم في إسبانيا صاحبة الأمر والنهي في شؤون أميركا اللاتينية أرسل الملك الجديد فرديناند السابع حملة كبيرة لكسر حركات الاستقلال في أميركا اللاتينية، ولم يستطع المناضل الشاب أن يقف أمام الجيوش فهرب إلى جزيرة هايتي حيث سانده حاكمها ووفر له القوة والعتاد وهو ما سمح له بمعاودة المقاومة العسكرية للجيوش الإسبانية والملكيين المؤيدين للبقاء الإسباني، فجمع الثوريين من أنصاره وبدأ حربا ممتدة ضد القوات الإسبانية لا تقل شراسة عن حروب الاستقلال الأميركية انتهت بالقضاء على النفوذ الإسباني بعد معارك ضارية عبر فيها بوليفار عن فكره العسكري المتميز.

لقد أسفر هذا المجهود الحربي عن دحض الإسبان وإعلان دولة كولومبيا الكبرى والتي تضم بنما وكولومبيا وفنزويلا وإكوادور وبيرو وأجزاء من البرازيل، وعين بوليفار رئيسا عليها. ولكن كما هو معروف في السياسة فإن تحرير الدول في مناسبات كثيرة يكون أسهل من حكمها، فسرعان ما بدأت المشاكل تظهر في النظام السياسي الجديد خاصة المقاطعات الراغبة في الاستقلال مما اضطره للسعي لوضع دستور جديد لهذه الدولة الكبرى على غرار الدستور الفيدرالي الأميركي عين بمقتضاه بوليفار رئيسا مدى الحياة، ولكن كثيرا من المقاطعات كانت قد ضاقت ذرعا بقيادة الرجل وميوله نحو الانفراد بالأمر والنهي، ففشلت محاولات وضع الدستور الجديد للبلاد، فرد بوليفار بإعلان نفسه ديكتاتورا على البلاد بهدف إنقاذ الكيان السياسي الوليد، وعلى الرغم من أن صلاحياته لم تكن مطلقة وفق هذا الإعلان، فقد فشل في الحفاظ على هذا الكيان، وعندما أدرك الرجل أن مشروعه سيسقط فضل المنفى الطوعي وترك سدة الحكم وبدأ يجهز نفسه للسفر إلى أوروبا ولكنه مات بالسل قبيل السفر.

حقيقة الأمر أن سيناريو «بوليفار» ليس بجديد، فهو رجل قدسته الشعوب ثم ضاقت به، ومع ذلك فهناك أسباب أخرى وراء هذه الظاهرة، لعل أهمها أنه حاول تكرار تجربة الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية فاعتقد الرجل أنه مثل جورج واشنطن، وأن شعوب أميركا اللاتينية مثلها مثل الولايات (المستعمرات) الأميركية الثلاث عشرة التي استطاع «واشنطن» أن يحمل لواءها العسكري بتفويض من الكونغرس لنيل استقلالها من إنجلترا، وهنا كانت دائرة الخطأ التي وقع فيها الرجل للأسباب التالية:

أولا: إن الولايات الأميركية كانت جاهزة لفكرة الاستقلال عن إنجلترا، فلقد كانت لديها الرؤية والفكر والتجربة بسبب عزلتها عن الدولة الأم لأسباب تتعلق بالروح الوطنية المنعزلة التي بدأت تظهر فيها، وهذا التطور لم تشهده شعوب أميركا اللاتينية، فالفكر القومي والاستقلالي كان مقصورا على مفكرين وبعض ذوي المصالح، ولم ينتشر بالدرجة الكافية بين الشعوب ليجعلها على استعداد للنضال الممتد.

ثانيا: إن التركيبة الديموغرافية والسياسية للشعب الأميركي الشمالي كانت مختلفة تماما عن شعوب أميركا اللاتينية، فلقد كانت التركيبة اللاتينية مبنية على طبقات اجتماعية مختلفة لأسباب مرتبطة بطريقة الحكم الإسباني، فهناك العرق الإسباني النقي وكانوا أسياد المقاطعات، إضافة إلى المخلطين أو نتاج الزيجات المختلطة وكانوا مواطنين من الدرجات الثانية، ثم كان الهنود أو السكان الأصليون والذين شكلوا الأغلبية، وهذه التشكيلة لم تكن موجودة في المستعمرات الأميركية بهذا الشكل، فقد كانت أكثر تماسكا من خلال سيادة وأغلبية الأجيال المتعاقبة من المستوطنين الإنجليز، وكان السكان الأصليون يعيشون في مناطق منعزلة بعيدا عنهم، بالتالي فإن الحركة القومية اللاتينية لم تكن متجانسة مثل الأميركية لأسباب واضحة.

ثالثا: إن القيادة والاستقلال جاءا لواشنطن بالتفويض من الكونغرس والذي حصل على شرعيته من خلال إقرار بل ومساندة ودعم مالي وشعبي، فالولايات الأميركية هي التي أنشأت الدولة بينما كان جورج واشنطن وسيلتها العسكرية لذلك، ولكن في حالة بوليفار فإنه المحرر الذي قهر الجيش الإسباني والملكيين، ولكنه لم يستطع الحفاظ على وحدة التوجه.

رابعا: إن الولايات الأميركية ربطتها مصالح اقتصادية قوية للغاية خاصة في مواجهة التاج البريطاني، وهو ما لم يكن متوفرا بنفس الدرجة في مقاطعات أميركا اللاتينية، ويضاف لذلك أن الطبقة السياسية والاقتصادية للمستعمرات الأميركية كانت أكثر نضجا ومعرفة بمصالحها مقارنة بنظيرتها في أميركا اللاتينية، والتي كانت من جانبها أكثر ارتباطا بإسبانيا، فضلا عن عدم ترابط المقاطعات اللاتينية داخليا بمصالح اقتصادية تسمح بمثل هذا التكامل السياسي، فعندما ضرب الإنجليز بوسطن ارتعدت ولايات نيويورك وجيرسي إلخ.. وتضامنت معها مباشرة.

وتذكرني أهداف هذا الرجل، وليس بالضرورة ممارساته التي تميزت بالعنف والتسلط في مناسبات كثيرة لدفع الشعوب اللاتينية نحو الوحدة والتحرر، بحكمة قالها أحد الفلاسفة الفرنسيين وهي أنه «من الصعب تحرير الجاهل من قيوده»، فلو أن الشعوب اللاتينية استطاعت أن تحرر نفسها من الجهل والقيود الفكرية المفروضة عليها ومضت في سبيلها تدريجيا نحو نظام فيدرالي على نفس النهج الأميركي فتُري ماذا كان سيصبح مصير دول شمال أميركا الجنوبية؟ وهل كان من الممكن أن نتخيل اليوم الولايات الأميركية اللاتينية؟

يظل اسم «بوليفار» يدوي في كتب التاريخ كرجل ذي رؤية وفكر، فكان رب السيف والقلم والخطابة والقانون، ولكنه رفض كل هذه الألقاب واستحسن لقبا واحدا ظلوا ينادونه به وهو لقب «المحرر»، فلقد استطاع الرجل أن يحرر أميركا اللاتينية من الحكم الإسباني ولكنه لم يستطع تحرير عقل الشعوب في عهده، فهذه مهمة تحتاج لتحرير من نوع آخر، تبدأ بالفكر وتُقوى بالتعليم وتتعمق بالممارسة وتُصهر في وعاء الزمن.

* كاتب مصري