«تروتسكي» الثوري

د. محمد عبد الستار البدري

TT

أذكر أثناء دراستي في المرحلة الإعدادية في إحدى المدارس البريطانية بالمكسيك أنه كان هناك تركيز كبير على الثورة الروسية في المناهج التعليمية، وكان ذلك أمرا طبيعيا على ضوء اشتعال الحرب الباردة آنذاك، فكان هناك توجه لدي الغرب لتعريف العدو الشيوعي للطلبة في سن مبكرة، وكيف أنه يؤثر سلبا على الليبرالية والحريات العامة في الدول الديمقراطية، وكان يتم تلقيننا ذلك من خلال روايات مثل «مزرعة الحيوانات» للكاتب البريطاني الشهير «جورج أورويل»، أو في مناهج التاريخ، ولكن أكثر ما أثر في كان زيارة نظمتها لنا المدرسة لبيت في مدينة «كويواكان» والتي تبعد قرابة الساعتين عن العاصمة المكسيكية، وكان هذا هو البيت الذي عاش فيه الثوري الروسي «ليف برونستين» المعروف في التاريخ باسمه المستعار «تروتسكي Trotsky» أثناه منفاه في المكسيك، وكان في استقبالنا حفيدته على ما أتذكر، وقدمت لنا شرحا حول كيفية إرسال ديكتاتور روسيا في ذلك الوقت «جورج دجوكاشفيلي» المعروف باسمه المستعار «ستالين Stalin» القتلة ليغتالوه في منفاه، وكيف أن محاولة الاغتيال كادت تفشل، فجرى القاتل خلف «تروتسكي» واستطاع أن ينال منه بضربة على الرأس بكسارة ثلج (ما يشبه البلطة)، فمات الرجل في اليوم التالي متأثرا بجراحه في عام 1940.

وأذكر أن أكثر ما أثر في خلال هذه الرحلة هو أننا كنا أقرب ما نكون للموت في هذا المكان، وهو أمر تفاعل بكل قوة مع عمرنا المبكر، ولمست عند هذه المرحلة لعبة السياسة والثورات وشعرت بها بحق لأول مرة، وعرفت كيف أن الرجل الثاني في مناسبات كثيرة هو من لا يخلف الأول، بل هو الذي يوضع على رأس قائمة المستبعدين السياسيين إما من خلال ملك الموت أو الإقامة الجبرية أو المنفي والطرق متعددة ونعرفها جيدا.

ولكن قصة «تروتسكي» لها خلفية هامة نعتبر منها بعيدا عن أيديولوجيته اليسارية والتي عانت وستظل تعاني في تقديري من خلل هيكلي وجدلي شأنها في ذلك شأن العقيدة الأم، ولكن في مسيرة هذا الرجل - منذ أن كان شابا حتى قتل - حِكما للتاريخ والإنسانية والمسيرة السياسية، كما تظل القدرات السياسية لهذا الرجل ودوره الهام في إنجاح الثورة الروسية مجالا للخلاف والتعلم على حد سواء.

لقد ولد تروتسكي في 1879 واطلع في شبابه على كتابات «كارل ماركس» «وفريدريك إنجلز» واعتنق من خلالها الفكر الشيوعي، وهو ما دفعه للعمل الثوري وهو في الثامنة عشرة من عمره، فتم اعتقاله ونفيه حيث هرب من المنفى وذهب لعواصم أوروبية عديدة وعمل كصحافي، والتقى هناك بالزعيم الروسي «فلاديمير أولاينوف» (لينين) ولكنهما كانا مختلفين بسبب التطرف اليساري لـ«تروتسكي» مقارنة بـ«لينين»، ولكن سرعان ما عاد الرجل عند سماعه بالثورة الروسية الأولي في 1905 حيث رأس «مجلس السوفيات» فكانت شخصيته القوية وملكاته التنظيمية والكاريزما الشخصية له سندا كبيرا لشخصه في أعين اليساريين، ولكن فشل الثورة وإعادة الجيش الروسي الحال إلى ما هو عليه فرض عليه الهروب والمنفي مرة أخرى في العواصم الأوروبية ليعود في 1917 بعدما اندلعت الثورة الروسية وأعلنت الحكومة المؤقتة بقيادة «كارينسكي».

بدأ «تروتسكي» يمارس نشاطه التنظيمي القوي فأسقط الحكومة المؤقتة بالتعاون مع «لينين» في بتروغراد في أكتوبر من نفس العام، ثم قام بإلقاء القبض على أسرة «الرومانوف» الحاكمة ولكن الضغوط بدأت على ثورتهم بعدما بدأ الدعم الدولي يظهر للقوات المحافظة ومعارضي «البلاشفة» والذين عملوا جميعا على ضرب الثورة الاشتراكية، فنقل الزعيمان مركزهما إلى موسكو، وهنا لعب «تروتسكي» أهم دور برع فيه وهو إنشاء «الجيش الأحمر» وتنظيم قواته وقيادة الحرب ضد تحالف الليبراليين والملكيين وغيرهم، وكان الرجل صاحب فكرة الاستعانة بضباط من النظام السابق للمساهمة في تنظيم الجيش برغم معارضة كثير من كوادر البلاشفة لهذه الخطوة، وقد خاض «تروتسكي» المعركة تلو الأخرى محولا الهزيمة إلى نصر وهو ما ضمن الانتصار للبلاشفة في روسيا وخارجها أيضا. لقد كان الرجل شديد البأس، عنيف التوجه، فقتل كل منشق أو هارب من الجندية، كما ينسب له إصدار الأوامر بقتل الأسرى، ومع ذلك كان الرجل محبوبا أشد الحب في جيشه الذي دان له بالولاء التام، ولكن ولاء الجيوش ليس للأبد كما سنرى.

وعندما بدأ المرض يداهم الزعيم الروسي «لينين»، كان «تروتسكي» في أوج قوته كقائد للجيش الأحمر، ولكن الرجل لم يكن وحده في حلبة المنافسة السياسية داخل روسيا، فقط كان له غريم شديد البأس هو «ستالين»، وهذا الرجل المولود في جورجيا كان أقل ثقافة وكاريزما منه، كما لم يتمتع بنفس الصفات أو الجاذبية، ولكنه برع فيما فشل فيه «تروتسكي»، وهو فن حياكة المؤامرات والدسائس والإدارة السياسية على المستوى الصغير، فاستغل كل شيء ضد «تروتسكي» بما في ذلك أنه كان يهوديا لكسر نفوذه، وبدأ يسحب البساط السياسي من تحته تدريجيا، وعندما مرض «تروتسكي» ومات «لينين»، أصبح «ستالين» هو القائد الفعلي للبلاد، ولكن عودة «تروتسكي» كانت مقرونة بفكر ثوري متطرف بعض الشيء، فقد كان يريد نقل الثورة إلى أوروبا، بينما كان «ستالين» من أنصار ضرورة السيطرة على الوضع القائم وتثبيت أركان الثورة في روسيا أولا، وكان في ذلك الأقرب للمنطق حيث كانت البلاد خارجة من حرب أهلية ضروس وتعاني الفقر والجوع، بالفعل كسب «ستالين» الجولة ومعها شعبية «تروتسكي» التي بدأت تنحسر، فتم عزله عن قيادة الجيش وتم تضييق الخناق عليه حتى فرض عليه النفي مرة أخرى، فتجول في دول عديدة حتى استقبلته المكسيك ووفرت له المنفى، وهناك عاش الرجل إلى يوم اغتياله.

إن قصة هذا الثوري أثارت الكثير الانطباعات داخلي، بعضها ترسخ وأنا في سن مبكرة وبعضها بعد التوسع في قراءة سنن التاريخ، ومن هذه الانطباعات التي أريد أن أشرك القارئ فيها ما يلي:

أولا: لقد كان «تروتسكي» بكل المعايير رجلا مختلفا، فهو رجل «بوهيمي» النزعة بكل ما تعنيه الكلمة، فالرجل نبذ ثقافته وخلفيته وطبقته الاجتماعية بل ودينه اليهودي وأسرته واعتنق بدلا منها الفكر الثوري والمبادئ الماركسية التي مثلت في ذلك الوقت ما يمكن أن نطلق عليه مجازا «الموضة السياسية» بسبب انتشار الرأسمالية والفكر الرأسمالي البحت والذي ولد من جانبه تيارا يساريا معاكسا في الاتجاه ولكن أضعف في القوة.

ثانيا: يظل «تروتسكي» بالنسبة للكثيرين يمثل تيارا من روح الثورة أو الروح الرومانسية لها، تماما مثل «تشي جيفارا»، حتى إن هناك بعض التقارب في هيئة وروح الرجلين، ولو عاش «تروتسكي» في زمن «جيفارا» لكان يمكن أن نراه يصبح رمزا لكثير من الشباب غير اليساري حول العالم مثله مثل «جيفارا» اليوم، ولكن مثل هذه الشخصيات تمثل للشباب الشخصية القادرة على حمل لواء التغيير وتوجهاته.

ثالثا: إن المنتصر في المعارك الكبيرة أو قائد الجيوش الكبرى ليس بالضرورة المنتصر في الحرب السياسية في نهاية المطاف، فالحرب لها رجالها، وللسياسة متقنوها، وأغلب الظن أن الفئة الثانية من الرجال هي الأوفر حظا - وفي مناسبات أخرى الأطول عمرا - لأنها القادرة على تكتيكات ومؤامرات سياسية غالبا ما تحسم الصراعات السياسية لصالحها، وفي هذه الحالة سقط «تروتسكي» العظيم قائد الجيش الأحمر الكبير لسياسي أقل منه ثقافة وخبرة وهو ما يعد تفعيلا للحكمة العربية القائلة «لا تستهن بالصغير، فربما تموت الأفاعي من سموم العقارب».

رابعا: لقد عاش «تروتسكي» مؤمنا باستخدام القوة والإفراط فيها لتحقيق الثورة غير مبال بإزهاق 9 ملايين روح، وبررها مثل غيره بفكرة «إن الدم بقعة الحرية»؛ وهناك الكثير من الحِكم التي قد تفسر لنا نهاية هذا الرجل من خلال نفس الآلة التي أنشأها قبل عشرين عاما، من هذه الحِكم قول السيد المسيح عليه السلام «لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون» (متى: 26 - 52)، أو ربما في قول الحق عز وجل «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب».

* كاتب مصري