نساء خلف السلطة (1)

د. محمد عبد الستار البدري

TT

«ألكسندرا فيديروفا» و«ماري أنطونيت» و«هنريتا ماريا» هن ثلاث ملكات شاهدن نهاية حكم أزواجهن، بل إن الثلاث شاركن أيضا في عدد من السمات السياسية المشتركة فيما بينهن، فهن جميعا خسرن مُلكهن وأزواجهن على أيدي الثورات الشعبية، كما أنهن جميعا لاقوا كراهية شعبية أكثر من أزواجهن الملوك! كذلك فقد اشتركن جميعا في خراب السياسة والفساد في الدول التي حكموها، ناهيك عن أنهن كن ركنا أساسيا في تقويض حكم أزواجهن.

كانت التسارينا «ألكسندرا فيديروفا» زوجة آخر القياصرة الروس من أسرة «الرومانوف»، الذي انتفضت روسيا ضده وقوضت نظام حكمه المطلق في 1917، وحقيقة الأمر أنها لم تكن روسية ولا تمت للثقافة الروسية بشيء، فهي كانت من عائلة ألمانية نبيلة، وقد تزوجت القيصر الروسي في إطار الزيجات المرتبة، التي كانت تمثل النمط السائد بين العائلات المالكة في أوروبا لدعم أواصر السياسة بينها، وتنسب ألكسندرا أيضا إلى الملكة فيكتوريا، التي تعد جدتها من ابنتها أليس. والأغرب من ذلك أنها كانت لوثرية المذهب ومن أشد معارضي المذهب الأرثوذكسي الذي يدين به الشعب الروسي، ولكن بالتحايل استطاع القيصر إقناع خطيبته بأن تتحول للأرثوذكسية، وهكذا تزوجت ولي العهد الروسي في 1894.

بدأت مشاكل ألكسندرا منذ اليوم الأول لوجودها في روسيا ليس فقط مع حماتها، ولكن مع الدوائر الأرستقراطية المحيطة بالقصر، كما أن الشارع الروسي رفضها لخلفيتها إضافة إلى شخصيتها المتباعدة عنه، فهي لم تستطع تقبل الثقافة الروسية، التي كانت بالنسبة لها أقل قيمة من الألمانية التي نشأت عليها.

كانت علاقة ألكسندرا مع زوجها علاقة احترام وأسفرت عن ميلاد أربع بنات ثم ولي عهد سمي ألكسي، وقد حمل هذا الطفل مرضا وراثيا من أمه كاد يودي بحياته، فكان هذا سببا في مزيد من الانعزال لها، وقد فرضت هذه السيدة سيطرتها على القيصر، الذي كانت قدراته السياسية متواضعة بكل المقاييس، فقد ثبتت مفهوم الحكم المطلق لديه، كما أنها بدأت تُدخل الشعوذة إلى القصر من خلال فتحه لرجل روحي اسمه راسبوتين استطاع أن ينقذ حياة ابنها، فكانت النتيجة تأثر الحكم في روسيا بالعنصر النسائي والشعوذة، بينما الفوضى تدب في أنحاء الدولة المتهالكة.

زاد وضع ألكسندرا صعوبة عندما دخلت روسيا الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا، وهو ما جعل هناك حالة تشكك في دورها، وهو ما زاد بعد أن قرر القيصر لسبب غير مفهوم أن يدير الحرب بنفسه وهو غير مؤهل لذلك، تاركا لزوجته مسؤولية الحكم دون أي مراعاة لظروف كونها ألمانية، فكانت النتيجة هزيمة سياسية وأخرى عسكرية، وقد اتهمت بعض المصادر التاريخية ألكسندرا بأنها كانت السبب في ضعف الإمدادات للجيش الروسي على الجبهة، فكانت النتيجة النهائية هي الثورة وخلع النظام بأكمله في مارس (آذار) 1917، وعندما تولى البلاشفة الحكم بعد ستة أشهر تم القبض على الأسرة الحاكمة ثم قتلها في قبو المكان التي احتجزت فيه يوم 16 يوليو (تموز) 1918.

أما ماري أنطونيت، فقد كانت أميرة شابة من أسرة الهابسبورج، التي حكمت الإمبراطورية النمساوية المجرية، والتي كتب حظها التعس أن تتزوج ولي العهد الفرنسي، الذي أصبح فيما بعد لويس السادس عشر، وتماما مثل الحالة السابقة، فإن هذه الزيجة كانت مدبرة من قبل الإمبراطورة ماري تيريز والدتها، لضمان التواصل بين فرنسا ودولة النمسا، خاصة أن العلاقات كانت دائما متوترة بينهما، وبالفعل تزوجت الشابة من ولي العهد في 1774.

في حقيقة الأمر أن الزيجة لم تكن ناجحة بكل المقاييس، فقد ظل الزوج بعيدا عن زوجته لمدة تقدر بنحو سبع سنوات لأسباب خاصة به، وهو ما ترك ماري أنطونيت فريسة للشائعات التي انهالت عليها من كل جانب تتهمها بتعدد العشاق، وقد ساهم في انتشار هذه الشائعات (التي قد يكون بعضها حقيقة) كراهية دوائر البلاط الملكي لها بشكل كبير، لأنها كانت أميرة نمساوية، كما أنها ولدت غيرة شديدة بسبب جمالها وقدرتها على صناعة الموضة والحياة الرغدة حولها، وهي أمور ساهمت في عزل هذه الملكة عن الشعب الفرنسي الذي بدأ يلفظها، خاصة بعدما نما إلى علمه الإسراف والبذخ الذي كانت تعيش فيه، والذي دفعها لإدمان القمار والسهرات المكلفة والحفلات التي لا تنتهي، ويضاف لكل هذا أنها تأخرت كثيرا في إنجاب ولي العهد، وحتى بعدما أنجبته فإن الشائعات انتشرت بأن ولي العهد ليس من صلب أسرة البوربون.

تختلف الكتب التاريخية في توصيف الدور السياسي لماري أنطونيت، فبعضها يرى أنها كانت منغمسة في حياتها المترفة، والبعض الآخر يرى أنها كانت ذات تأثير كبير على زوجها الملك، ولكن الثابت أيضا أنها قامت بدور مهم في إدارة بعض الأمور السياسية، بعدما أصيب الملك بالشلل السياسي عند اندلاع الثورة، وقد كان تدخلها سببا في إشعال الكراهية ضد الملك، وبالفعل اندلعت الثورة الفرنسية لتقلع معها الأسرة المالكة، وما تمثله من ترف وعدم مراعاة للشعب الجائع، وقد انتشرت جملتها الشهيرة ردا على استفسار حول ما يمكن للشعب أن يأكله في ظل اختفاء رغيف العيش، فقالت لهم «ليأكلوا البسكويت»، وقد نفت بعض المراجع التاريخية قولها هذه الجملة، ولكن انتشارها كان كفيلا بتعميق الحنق ضد المؤسسة الملكية، وهكذا دُفعت ماري أنطونيت إلى الجيوتين لتحز رأسها عن جسدها في 1792 بعد زوجها.

قد يختلف البعض حول حجم الدور السلبي الذي يمكن أن تكون قد لعبته كل من ماري أنطونيت أو ألكسندرا فيديروفا في القضاء على مُلك زوجيهما، ولكن هنريتا ماريا، زوجة الملك شارل الأول، ملك إنجلترا، كانت مما لا شك فيه سببا مباشرا في ضياع ملكه، فهي ابنة ملك فرنسا، وتزوجها الملك أيضا لأسباب سياسية كعادة الملوك والأمراء في ذلك الوقت، ولكنها أصبحت فيما بعد زيجة قوية للغاية بعدما ارتبط الملك بها ارتباطا شديدا وأحبها حبا جما، ولكنها كانت على غير مذهبه، فهي كاثوليكية بينما هو كعادة الملوك الإنجليز «أنجليكيين»، وذلك في وقت كانت فيه إنجلترا تمر بمرحلة صراع طائفي تحول إلى صراع مسلح.

وعلى هذه الخلفية بدأ دور هنريتا السياسي يظهر، فهي لم تخف كاثوليكيتها عن أحد، بل إنها كانت فخورة بذلك، وينسب لها أنها أثرت بشكل مباشر على عدم قيام الملك بدعم الحركات البروتستانتية في أوروبا خلال حرب الثلاثين عاما التي مزقتها، ويضاف إلى ذلك أنها عانت مثل الأخيرتين من مسألة الترف المادي والسياسي، وهو ما جعلها مكروهة بشكل كبير في أغلبية الأوساط الإنجليزية، ناهيك عن كونها فرنسية في ظل خلفية الصراعات والحروب الممتدة بين الدولتين.

لقد تمحورت الحرب الأهلية الإنجليزية، التي انتهت بقطع رقبة الملك شارل الأول حول أمرين أساسيين؛ الأول هو القضاء على السلطة المطلقة للملوك، والثاني سيادة المذهب البروتستانتي في البلاد، وقد كان لهنريتا دورها في السببين، خاصة بعدما دعمت لدى زوجها فكرة الحكم المطلق للملوك، مما ساهم في جعله يتشدد في مواجهة الثورة والبرلمانيين بما قلص من فرص التوصل لاتفاق بينهما.

وعلى عكس ماري أنطونيت وألكسندرا، فإن هنريتا لم تلق حتفها، فهي عاشت في فرنسا بعد نجاح الثورة وإعدام زوجها، فعادت مرة أخرى للحياة السياسية في إنجلترا من خلال كونها أمّا للملك شارل الثاني، الذي تولى مقاليد الحكم في البلاد بعد وفاة الزعيم الثوري كرومويل بفترة قصيرة.

هذه خلفية ثلاث نساء تميزن جميعا بأنهن كن زوجات آخر حكام في عهدهن في ثلاثة بلاد، وقد اشترك الثلاث في ثلاثة أمور، أولا: اتفاق شعوبهن على كراهيتهن لأسباب ثقافية ودينية وترفية، ثانيا: أنهن تدخلن بشكل سافر في السياسة وشؤون الحكم وكانت مشورتهن في بعض الأحيان سببا في ضياع ملك أزواجهن، ثالثا: أن أزواجهن الثلاثة كان معروفا عنهم تاريخيا أنهم من محدودي القدرات السياسية والفكرية. ولكن هل يمكن أن نلقي على النساء الثلاث مسؤولية انتفاضة الشعوب ضد عروش أزواجهن؟ أي هل نُفَعل المقولة الفرنسية الشهيرة «فتش عن المرأة Cherchez La Femme» لنفسر جزئيا هذه الثورات؟ والإجابة عن هذا السؤال واضحة، وهي أنه افتراء شديد على المرأة وتحميلها لنمط ليس مبررا من الناحية التاريخية، فهناك من النساء من عضدن ملك أزواجهن.. وللحديث بقية.

* كاتب مصري