الاختيار الصعب

د. محمد عبد الستار البدري

TT

وقفت خلال إحدى محاضراتي أنظر في أعين الطلبة وأنا أستفسر منهم عن رأيهم فيما كانوا سيفعلونه لو أنهم وُضعوا مكان الرئيس الأميركي هاري ترومان في صيف عام 1945 عندما وقعت عليه مسؤولية اتخاذ قراره الشهير بإلقاء القنبلة الذرية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، واسترعى انتباهي الرد الحاسم لطالبتين قالتا بصوت واحد بلا أي تردد «نعم سأستخدم السلاح الذري»، وذلك وسط آراء متباينة ما بين متشكك ونصف مؤيد وأقلية غير مهتمة إلا بانتهاء المحاضرة بعد يوم عمل طويل، ونظرت لهما نظرة حيرة فكررت سؤالي لهما بصوت حاسم، «هل ستستخدمان السلاح الذري؟»، فأجابتا بنفس الحسم «نعم».

حقيقة الأمر أنني وقعت في حالة عدم اتزان للحظات، فها أنا ذا أحاول أن أرشدهم نحو الواقعية وأن يدركوا أن السياسة هي سلسلة من الاختيارات الصعبة، ولكنني بدأت أتردد لوهلة، فلم تمهلاني وقتا طويلا.. إذ عاجلتاني بسؤال «هل ستستخدم يا دكتور القنبلة.. هل ستلقي بها؟»... اختيار صعب، وهكذا عاد لي السؤال خاسئا وهو حسير، فقررت أن أعيد تصدير هذا السؤال لنفسي مرة أخرى، ولكن قبل أن أعلن رأيي أمام الطلبة فقد قررت أن أسترجع التحليلات المختلفة المرتبطة بإلقاء القنبلتين أمامهم جميعا:

أولا: لقد كانت حالة الحرب في المحيط الهادي على أشدها ولكنها كانت لصالح الجيش الأميركي، فالجيوش اليابانية آخذة في التراجع بعد سلسلة من الهزائم المتلاحقة، بدأت منذ معركة «ميدواي» الشهيرة التي انتصر فيها الأسطول الأميركي على نظيره الياباني وكبده خسائر فادحة أدت لكسر سيادته البحرية على المحيط الهادي، ثم تبع هذه المعركة سلسلة من المعارك مثل «جوادالكانال» و«إيوا جيما» وغيرهما.

ثانيا: على الرغم من الهزائم المتتالية لليابان فإن جيوشها وسلاح طيرانها كانا على قدر عالٍ من الكفاءة القتالية والبسالة، وهو ما ساهم في تحويل الانتصارات الأميركية لانتصارات مكلفة للغاية، وهي الانتصارات التي اصطلح على تسميتها في علم الاستراتيجية بـ«الانتصارات الفيرية Pyrrhic Victories» وهي التسمية المأخوذة عن اسم ملك إغريقي كانت انتصاراته مكلفة للغاية للحد الذي دفعه للقول «بأن انتصارا آخر من هذا النوع وسأهزم تماما»، فلقد كانت القوات الأميركية تخسر الكثير من الجنود والعدة والعتاد.

ثالثا: لقد كان الفريق العسكري المُسيطر على الأمور في اليابان رافضا تمام الرفض لفكرة الاستسلام، فلقد كان الاعتقاد السائد هو أن الاستبسال في الدفاع عن اليابان سيؤدي إلى تراجع الجانب الأميركي عن المضي قدما في هجومه الشامل، أو على أقل تقدير سيفتح المجال أمام القيادة اليابانية لتحسين شروط إنهاء الحرب وتحسين الموقف التفاوضي الياباني بعد الحرب.

رابعا: أن الجانب الياباني لم يكن على دراية بوجود السلاح الأميركي الجديد الذي كانت تطوره الولايات المتحدة سرا فيما عرف «بمشروع مانهاتن»، فعندما قررت الإدارة الأميركية أن تُرسل أفضل علمائها لتطوير سلاح ذري جديد في الصحراء المعزولة، فإنها لم تكن تتوقع أن يستغرق تطويره كل هذا الوقت، ولكن فريق العلماء تمكن من تجميع قنبلتين فقط لا غير، وكانت هناك بعض المخاوف من حدوث أي مشكلات متعلقة بالتفجير، وهو ما منع الولايات المتحدة من الإعلان عن هذا السلاح بالشكل الذي يمكن أن يحوله لقوة ردع دون الاستخدام.

وإزاء هذه الحقائق، أصبح على الرئيس الأميركي ترومان أن يتخذ قراره، هل يستخدم السلاح الذري أم يلتزم بمدونة السلوك الإنسانية ويستمر في استخدام السلاح التقليدي وهو ما سيتبعه مزيد من الاستنزاف لموارد الجيش الأميركي البشرية والمادية؟، وحقيقة الأمر فإن ترومان لم يهتز أمام الخيار الذري فاستخدامه كانت له مميزات أساسية وعلى رأسها أنه سيجبر اليابان على الاستسلام الفوري بأقل تكلفة خاصة أن الاقتصاد الأميركي كانت عليه ضغوط كبيرة فقد كانت الولايات المتحدة تحافظ على جيش قوامه 12 مليون جندي كما أن الاقتصاد الأميركي ظل لسنوات اقتصادا موجها لخدمة الهدف العسكري والاستراتيجي الأميركي، ومن ثم فإن الضغط على ترومان كان كبيرا من أجل وضع حد لهذه الحرب الضروس لا سيما أن الجبهة الأوروبية كانت قد حُسمت بالفعل جراء احتلال ألمانيا وإيطاليا.

يضاف لكل هذه الحقائق، فإن دخول الولايات المتحدة الأميركية الحرب العالمية الثانية كان إيذانا بكسر أي فرص لانعزالية جديدة مثل التي حدثت عقب الحرب العالمية الأولى، فمن الآن فصاعدا فإن الولايات المتحدة الأميركية ستكون اللاعب الأول على الساحة الدولية وستظل كذلك وفكرة تراجعها أصبحت غير واردة، وهو ما يتطلب منها أن تظهر بمظهر القوة، خاصة أن الاتحاد السوفياتي كانت جيوشه قد سيطرت على شرق أوروبا بالفعل، وبدأت تظهر بوادر الصراع الخفي بينه وبين الولايات المتحدة، وهو ما دفع القوات الأميركية لمحاولة الظهور بمظهر القوة العظمى على الساحة الدولية، فاستخدام السلاح الذري لن يكون من شأنه إركاع الجانب الياباني ودفعه نحو الاستسلام فحسب، ولكنه سيدفع الجانب الأميركي ليبرز على الساحة الدولية على اعتباره القوة الدولية الأحادية، إضافة لما سيمثله من عنصر ردع ضد الاتحاد السوفياتي والانتشار الشيوعي على المدى القصير.

وهكذا اتخذ هاري ترومان قراره باستخدام السلاح الذري فقامت الطائرة «إينولا جاي» والتي يقودها طاقم مدرب على أعلى مستوى بإلقاء القنبلة المسماة حركيا «الطفل الصغيرLittle Boy» على هيروشيما، مما أسفر عن مقتل قرابة 70 ألف ياباني إما من الحروق أو الدمار أو الأمراض المرتبطة بالإشعاعات، ولكن اليابان لم تستسلم، فتقرر استخدام القنبلة الثانية والمسماة حركيا «الرجل البدين Fat Man» على مدينة ناجازاكي بعد أيام قليلة من القنبلة الأولى، فراح ضحيتها ما يصل إلى أكثر من 80 ألف ياباني إضافة إلى المتأثرين من أضرارها، أي في أقل من أسبوع فإن قرابة مائة وخمسين ألفا ماتوا إلى جانب مئات الآلاف من الجرحى والمتأثرين بالقنبلتين، وما كان من ترومان إلا أنه حمد ربه لأن مثل هذا السلاح لم يقع في أيدي أعداء الولايات المتحدة.

وبعد شرح هذه الخلفيات ظل السؤال المعلق ينتظر الإجابة، فكررت الطالبتان نفس السؤال «هل ستستخدم السلاح الذري لو كنت مكان ترومان؟»، وبعد ابتسامة تخفي وراءها بعض التردد أوضحت لهما أنني لا أستطيع أن أدخل قبري وأقف بين يدي الله لأبرر أمامه أنني قتلت ما يقرب من مائة وخمسين ألفا من عباده وأحدثت هذا الحجم من الدمار، وبالتالي كان ردي هو أنني كنت سأُقدم على الاستقالة أو أن أُولي مسؤولية اتخاذ هذا القرار لرئاسة الأركان وفقا لمقتضيات الحرب وأفوضها رسميا في ذلك لأنه قرار حربي في المقام الأول، ولكن الإجابة عن هذا السؤال طرحت بداخلي استفسارا جديدا حول العلاقة بين الأخلاق الشخصية من ناحية والمصالح الجماعية للأمة من ناحية أخرى، فما العمل عند حدوث التناقض؟ ولكن حمدا لله أنني لم أكن محتاجا للإجابة في المحاضرة كما أنني لست مضطرا للكتابة عنه هنا.