«جان ايرولت».. صاحب قصر ماتينيون الجديد

رئيس الحكومة التاسع عشر في الجمهورية الخامسة بفرنسا

TT

مثلما كان متوقعا منذ أسابيع، أصبح النائب جان مارك ايرولت رئيس أول حكومة في عهد الرئيس الفرنسي الجديد فرنسوا هولاند. وهذا الأخير فضله على أمينة عام الحزب الاشتراكي مارتين أوبري، ابنة جاك ديلور، رئيس المفوضية الأوروبية الأسبق و«الأب الروحي» لهولاند. وكانت النتيجة أن أوبري سارعت إلى إعلان أنها ليست راغبة في الدخول إلى الحكومة الجديدة وأنها تفضل تكريس طاقتها لمدينة ليل (شمال) التي ترأس مجلسها البلدي ولقيادة حملة الاشتراكيين من أجل الانتخابات التشريعية التي ستجرى على دورتين يومي 10 و17 يونيو (حزيران) المقبل. ولعل السبب الرئيسي في استبعاد أوبري لصالح ايرولت أن الرئيس الجديد يفضل التعاون مع رئيس حكومة يدين له بالولاء المطلق ويستطيع التفاهم التام معه ويكون جاهزا لتنفيذ السياسة التي يريد السير بها من أجل تطبيق برنامجه الانتخابي.

ليس سرا أن علاقات هولاند مع أوبري التي تتمتع بشخصية قوية، لم تكن يوما جيدة. فقد نافست أمينة عام الحزب الاشتراكي هولاند في الانتخابات التمهيدية الداخلية التي أفضت إلى تعيين هولاند مرشحا عن الحزب. ولم تتردد أوبري التي حلت ثانية في التنافس الداخلي في انتقاد هولاند بعنف، واصفة إياه بـ«الاشتراكي الرخو» ومعتبرة أنه لن يستطيع تنفيذ وعوده الانتخابية. غير أنها وقفت إلى جانبه بعد أن أصبح مرشح الاشتراكيين الرسمي، واضعة كافة قدرات الحزب في تصرفه. لكن ذلك لم يكن كافيا لتفوز برئاسة الحكومة. وقد عرض على أوبري التي شغلت مناصب وزراية مهمة سابقا، منصبا وزاريا رفيعا مع صلاحيات موسعة تشمل التعليم والبحث العلمي، غير أنها رفضت العرض.

يعاني رئيس الحكومة الجديد البالغ من العمر 62 عاما «مشكلة» كبرى، هي أنه رغم انخراطه المبكر جدا في الحياة السياسية فإنه غير معروف بشكل جيد حتى داخل فرنسا كما أنه «نكرة» خارجها. والسبب الأول في ذلك أن الرجل لم يشغل يوما أي منصب وزاري وهو بذلك شبيه بفرنسوا هولاند، الذي أخذ عليه منافسه اليميني نيكولا ساركوزي «عدم استعداده» لتسلم قيادة دفة الدولة الفرنسية لأنه هو أيضا بقي بعيدا عن كل الوزارات الاشتراكية التي تشكلت أيام الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران «1981 - 1995» أو أيام رئيس الحكومة الاشتراكي ليونيل جوسبان «1997 - 2002». فمن هو جان مارك ايرولت؟

ينتمي ايرولت إلى ما سمي، مع وصول الاشتراكيين للسلطة مع فرنسوا ميتران، «جمهورية الأساتذة» أي تلك المجموعة من المسؤولين السياسيين اليساريين القادمين في غالبيتهم إلى السياسة من الطبقة الوسطى وتحديدا من الوظائف العمومية ومن المهن الثقافية والتعليمية. فرئيس الحكومة الجديد كان أستاذا للغة الألمانية وهو يهوى الأدب والثقافة الألمانية، كما أنه يعرف ألمانيا بشكل جيد. وربما تكون هذه الصفة عاملا مساعدا في الوقت الذي تبرز بين ألمانيا وفرنسا اختلافات في وجهات النظر لجهة معالجة الأزمة الاقتصادية المستفحلة وتحديدا أزمة المديونية وعوامل ضعف اليورو المرتبطة بتطورات الأوضاع الاقتصادية والمالية في بلدان جنوب أوروبا «اليونان، إسبانيا، إيطاليا، البرتغال..».

يعد جان مارك ايرولت المنتمي إلى وسط اجتماعي متواضع، حيث كان والده عاملا زراعيا وأمه مستخدمة، أحد نتاج «نظام الجدارة الفرنسي» الذي تشكل المدرسة الرسمية عماده الأساسي. فقد ولد في 25 يناير (كانون الثاني) في قرية متواضعة من غرب فرنسا بمنطقة مين - لوار اسمها مولفريه. وأيام شبابه الأول، انتمى إلى منظمات شبابية كاثوليكية واجتماعية قبل أن ينتمي رسميا إلى الحزب الاشتراكي عام 1971. وبدأ عمله السياسي على المستوى المحلي. وفي عام 1977، أصبح أصغر رئيس بلدية لمدينة يزيد عدد سكانها على 30 ألف نسمة. ومكافأة له، أدخل اللجنة الإدارية للحزب الاشتراكي عام 1979 ثم إلى المكتب التنفيذي عام 1981 بعد انتخاب ميتران رئيسا للجمهورية في مايو (أيار) من العام نفسه.

غير أن النقلة النوعية التي عرفتها حياة ايرولت السياسية تمت في عام 1986 عندما نجح في المنافسة الانتخابية وفاز بمقعد نيابي عن منطقة اللوار الأطلسية (غرب). وأهمية الحدث أنه جاء في وقت عرف الحزب الاشتراكي هزيمة نيابية نكراء، إذ نجح اليمين برئاسة جاك شيراك بالفوز بأكثرية المقاعد، مما مكن الأخير من ترؤس الحكومة الجديدة لتبدأ معها مرحلة «المساكنة» ما بين رئيس اشتراكي ورئيس حكومة وحكومة من اليمين. وبعد ثلاثة أعوام، فاز ايرولت برئاسة بلدية مدينة نانت (غرب) التي تعد سادس أكبر مدينة فرنسية. ومنذ هذين التاريخين، لم يصب ايرولت بأية هزيمة سياسية لا في الانتخابات النيابية ولا في الانتخابات البلدية، مما جعل منه أحد أبرز رموز تجذر اليسار في المناطق الفرنسية. وجدير بالذكر أن فرنسوا هولاند حاز في الجولة الانتخابية الثانية أعلى نسبة، من بين المدن الكبرى، في مدينة نانت، مما يعكس عمق تجذر اليسار في هذه المدينة.

في عام 1997، خطا جان مارك ايرولت خطوة جديدة نحو مركز القرار السياسي عندما نجح في الفوز برئاسة المجموعة الاشتراكية في البرلمان الفرنسي في الفترة نفسها التي أصبح فيها ليونيل جوسبان رئيسا للحكومة بينما كان شيراك رئيسا للجمهورية. وأهمية هذا الحدث في تاريخ رئيس الحكومة الجديد أن موقعه الجديد أهله لأن يكون في صلب مركز القرار السياسي. ففي صباح كل يوم ثلاثاء، كان جوسبان يجمع مستشاريه مع رئيس المجموعة النيابية في البرلمان ونظيره في مجلس الشيوخ وأمين عام الحزب الاشتراكي لإقرار الخط السياسي وبرمجة مشاريع القوانين التي تحال إلى المجلسين ومناقشة السياسة العامة للحكومة والرد على المعارضة. ولهذه الفترة، تعود معرفته برئيس الجمهورية الحالي، إذ إن فرنسوا هولاند كان قد عين وقتها أمينا عاما للحزب الاشتراكي، مما يعني أن الرجلين وجدا الفرصة للتعرف على بعضهما البعض. ومنذ عام 1997، أعيد انتخاب ايرولت رئيسا لمجموعة النواب الاشتراكيين، الأمر الذي وفر له معرفة معمقة بشؤون وشجون الجمعية الوطنية وطريقة عملها. وطيلة عشر سنوات «2002 - 2012»، أي خلال ولاية شيراك الثانية وولاية الرئيس ساركوزي «الوحيدة»، كان جان مارك ايرولت رأس الحربة في مقارعة رؤساء حكومات اليمين الثلاثة «جان بيار رافاران، دومينيك دو فيلبان وفرنسوا فيون» الذين تعاقبوا على هذا المنصب.

تشكل الاستمرارية إحدى نقاط القوة التي يتمتع بها ايرولت، الذي عرف على غرار الكثير من بارونات السياسة في فرنسا أن يجمع بين المسؤوليات المحلية والمسؤوليات الوطنية بحيث يتوافر له، من جهة، عرين انتخابي ومن جهة أخرى منصب وطني يطل به على فرنسا كلها. وخلال هذه السنوات الطويلة، لم يهمل ايرولت أيا من الحصانين اللذين يشدان عربته السياسية. ويعترف مناصروه وخصومه على السواء بأنه «نجح» محليا في دفع مدينة نانت إلى الواجهة، إذ انتخبت عام 2009 «مدينة الفنون والتاريخ»، وعرفت في السنوات الأخيرة نهضة ديموغرافية وفنية وعمرانية واجتماعية. وحرص ايرولت على إبراز تاريخ نانت التي عرفت في القرن الثامن عشر بأنها كانت منطلقا لتجارة العبيد المثلثة ما بين أفريقيا وأوروبا والعالم الجديد. وفي أكثر من مناسبة، دافع ايرولت عن الحاجة إلى متحف يحفظ تاريخ المدينة والمنطقة، وهو ما تم له لاحقا من خلال إنشاء «متحف إلغاء العبودية» في مدينته.

يرى المقربون من ايرولت والمطلعون على أسرار ديمومته السياسية، أنه «رجل الحوار والتسويات»، كما أنه يجيد «الاستماع» إلى كافة الآراء قبل أن يسعى إلى موقف «توفيقي». غير أن المعارضة اليمينية في نانت تتهمه بـ«التسلط»، لا، بل بـ«الديكتاتورية»، بسبب ما تعتبره تفردا في إدارة شؤون المدينة.

كان يقال عن الرئيس نيكولا ساركوزي إنه كان يكره خريجي معهد الإدارة الوطني الذي يخرج كبار رجال السياسة والدولة والقطاع الخاص، لأنه لم يكن له حظ الانتماء له، كما لم ينتم إلى المعاهد والمدارس الكبرى مثل بوليتكنيك أو المدرسة المركزية.. ويقال عن ايرولت إنه لا يشعر في باريس بأنه في «وسطه الطبيعي»، لأنه بعيد عن النخبة السياسية كالتي ينتمي إليها الرئيس هولاند، الذي راكم الشهادات والمعاهد العليا وبينها معهد العلوم السياسية ومعهد الإدارة الوطني.

لكن ايرولت يستعيض عن ذلك كله بتجذره الميداني وخبرته السياسية وتدرجه في الحزب الاشتراكي، غير أن هذه الصفات لا تكفي لشرح الأسباب التي جعلت هولاند يفضله على منافسيه لقيادة أول حكومة للعهد، «والأهم» لأن نجاحها سيعني نجاح العهد وفشلها سيكون فشله.

يقول العارفون ببواطن الأمور، إن اختيار ايرولت مرده في المقام الأول لوقوفه إلى جانب فرنسوا هولاند منذ أن أعلن الأخير ترشحه للانتخابات التمهيدية للفوز بدعم الحزب الاشتراكي. وخاض المنافسة، إلى جانب هولاند، سيغولين رويال رفيقة درب هولاند حتى افتراقهما عام 2007 بعد حياة مشتركة زادت على العشرين عاما، ومارتين أوبري أمينة عام الحزب، والنائبان مانويل فالس وأرنو مونتبورغ. وبعد الدورة الأولى «من الانتخابات الداخلية»، تأهل هولاند وأوبري للدورة الثانية، وأعلن الثلاثة الباقون دعمهم لهولاند.

غير أن ايرولت كان من الأوائل الذين وفروا الدعم لهولاند وشجعوه إلى المضي في المنافسة حتى يوم لم تكن حظوظه قوية في الفوز. وكان ايرولت قد دعم سيغولين رويال التي فازت بترشيح الحزب الاشتراكي، لكنها خسرت المنافسة في مواجهة الرئيس ساركوزي في عام 2002.

عندما خرج الرئيس هولاند من مقر بلدية باريس حيث أقيم له احتفال شعبي بمناسبة تنصيبه، توقف الرئيس الجديد طويلا على أعلى الدرج الداخلي بمعية رفيقة حياته فاليري تريرفيلر وعمدة باريس برتراند دولانويه. ولم يعرف مشاهدو القنوات التلفزيونية التي كانت تنقل الحدث مباشرة أسباب هذا الانتظار غير المفهوم. لكن السبب برز عندما انضم ايرولت إلى المجموعة واقفا إلى جانب الرئيس لينزلوا الدرج معا وليخرجوا بعدها لتحية الجمهور المتجمع في ساحة البلدية. وعندها تأكد للفرنسيين أن ايرولت سيكون رئيس الحكومة الجديد، الأمر الذي ثبت بإعلان أمين عام قصر الإليزيه نبأ تكليفه المهمة الجديدة. لكن ما إن أصبح الخبر رسميا حتى انقض اليمين على ايرولت وعلى هولاند على السواء، مخرجين إلى السطح قصة قديمة لتكون ممسكا سياسيا على رأسي السلطة التنفيذية «رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة».

في عام 1997، حكمت محكمة بداية على جان مارك ايرولت، بصفته رئيسا لبلدية نانت، بالحبس ستة أشهر مع وقف التنفيذ وبدفع غرامة قيمتها 30 ألف فرنك فرنسي (4.6 ألف يورو تقريبا). والسبب أن رئيس البلدية عمد إلى توقيع عقد مع رجل أعمال محلي قريب من الحزب الاشتراكي وتكليفه طباعة المجلة التي تصدرها البلدية. وخطيئة ايرولت أنه لم يطرح طلب استدراج عروض، بل تعاقد «حبيا» مع رجل الأعمال المذكور، الأمر الذي يعد مخالفة قانونية تعاقب بالسجن أو التغريم. غير أن هذه الحادثة لم تمنع رئيس الحكومة الجديد من الفوز في كل المنافسات الانتخابية ولا من ترؤس المجموعة الاشتراكية في البرلمان طيلة 15 عاما. وبموجب القانون الفرنسي، محيت هذه العقوبة من السجل العدلي لايرولت بسبب انقضاء عشر سنوات على حصولها، بحيث عاد ناصع البياض.

ولكن، لماذا هذه الضجة التي كان أمين عام حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، جان فرنسوا كوبيه، أول من أثارها؟ السبب يعود لهولاند نفسه الذي أعلن قبل انتخابه أنه لن يستعين بأية شخصية حصل بحقها حكم قضائي، وذلك من باب التأكيد أنه يريد «جمهورية منزهة عن العيوب». وإذن، فإن اليمين اعتبر تعيين ايرولت أول «انتكاسة» لحكم هولاند وأول انقلاب على المبادئ التي أعلنها.

غير أن الرئيس الجديد تجاوز هذه التحفظات التي يعرفها عن ظهر قلب، لأنه بحاجة إلى شخصية سياسية صلبة كالشخصية التي يتمتع بها رئيس الحكومة الجديد، تكون قادرة على قيادة دفة اليسار في الانتخابات التشريعية لتوفير الأكثرية النيابية التي يحتاجها وتستطيع التعاون مع كافة مكوناتها، وخصوا «التعامل» مع اليمين الذي لن يألو جهدا في عرقلة مشاريع العهد وأعمال الحكومة.

يقول بعض خصوم ايرولت إنه «بارد» وخطيب مرتبك، فضلا عن أنه خجول ومنغلق على نفسه. لكن كل هذه الانتقادات لم تثن هولاند عن تفضيله على الآخرين لأنه في البداية والمنتهى يسعى لرجل ينال ثقته المطلقة ويعمل لصالح الرئيس الجديد وليس لصالحه الشخصي.

خلال عهد نيكولا ساركوزي، نجح رئيس الحكومة فرنسوا فيون في أن يفرض نفسه رئيسا لكل حكومات العهد، وبذلك ضرب «مع ليونيل جوسبان» الرقم القياسي في شغل هذا المنصب طيلة خمس سنوات. وسر فيون أنه نسج علاقات وثيقة جدا مع نواب اليمين، مما يشكل نقطة التقاء مع رئيس الحكومة الجديد. فهل سيقتدي ايرولت بما فعله قبله شاغل قصر ماتينيون - مقر رئاسة الحكومة؟