منطقة اليورو.. أمام العاصفة

أطاحت أزمتها بـ10 حكومات.. وباتت أمام مفترق طرق أحدها يؤدي إلى الانهيار

TT

في أعقاب انفراجة شهدتها منطقة اليورو العام الماضي، بعد إجازة حزمة الإنقاذ الثانية لليونان، عادت الأزمة لتشتعل من جديد، ومن أثينا أيضا لتهدد بإدخال أوروبا وربما العالم بأكمله في محيط من الفوضى، حسب العديد من خبراء المال والاقتصاد وحتى المسؤولين الحكوميين في عدد من دول العالم.

رئيس البنك الدولي روبرت زوليك قال إن أزمة الديون الأوروبية تشكل أكبر تهديد للاقتصاد العالمي، قبل أن يشير في تصريحات أول من أمس، إلى أن خروج اليونان من منطقة اليورو التي تعاني أكثر من نصف دولها من أزمة ديون قاهرة، لن يكون نهاية المطاف، بل ربما تتبعها دول أخرى مثل إسبانيا وإيطاليا. ويؤكد زوليك، أن الآثار ستكون مضرة جدا وستعيد إلى الأذهان انهيار بنك ليمان براذارز الأميركي في 2008. وجرت في 6 مايو (أيار) الجاري انتخابات في اليونان فازت فيها الأحزاب الرافضة للخطة الأوروبية، مما دفع الأزمة إلى حافة جديدة. لكن تلك الأحزاب لم تنجح في تشكيل حكومة مما دعا إلى إعادة الانتخابات الشهر المقبل. وتحبس أوروبا أنفاسها في انتظار الفائز في تلك الانتخابات، وما يخبئه نحوها.

وسارع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، الذي تخوف بلاده (غير العضو في منطقة اليورو)، من أن تمتد الأزمة إليها، إلى إبراز المخاوف البريطانية، من توسع نطاق الأزمة، بدق ناقوس الخطر، عبر دعوة دول اليورو (17 دولة أوروبية) إلى التحرك الفوري للحيلولة دون انفراط محتمل لتكتل العملة الأوروبية الموحدة، وذلك عبر بناء «جدار حماية مناسب» لحماية الدول الأعضاء الضعيفة. وقال إن «منطقة اليورو عند مفترق طرق.. فهي إما يتعين عليها إيجاد حل، أو النظر في انهيار محتمل». وأقر كاميرون أمس بأن تحذيراته يمكن أن تغضب بعض زملائه من القادة الأوروبيين لكنه شدد على أن من حقه الإعراب عن آرائه. وأضاف «أدرك أن الدول داخل منطقة اليورو قد لا تستسيغ النصيحة من دول خارجها خصوصا من دول مثل بريطانيا في ظل وجود ديون وصعوبات لدي تلك الدول».

ومن المنتظر أن يناقش زعماء الاتحاد الأوروبي هذا الشهر اتفاقية للنمو من المتوقع أن تتضمن صناديق للاستثمار في البنية التحتية وبعض المرونة فيما يتعلق بالوفاء بأهداف العجز بالميزانية للدول التي تعاني ركودا. وأعرب رئيس آلية الاستقرار المالي الأوروبي، كلاوس ريجلينج، عن اعتقاده بأن الأزمة التي تشهدها منطقة اليورو قد تنتهي خلال فترة من عامين إلى ثلاثة، مشيرا إلى أن تحقيق هذا الهدف يستلزم استمرار دول اليورو في تطبيق إجراءات التقشف والإصلاحات المالية. وحول تفكك العملة الأوروبية الموحدة، استبعد ريجلينج الأمر، مشيرا إلى أن الدول القوية والضعيفة لها مصلحة مشتركة في استمرار هذه العملة، وأكد أن «مخاطر تفكك اليورو، بغض النظر عن الدول التي تتحدث عنها، تساوي صفرا».

ومع اندلاع أزمة الديون في اليونان، في عام 2010، دخلت دول منطقة اليورو في منحدر خطير، وبات الخطر يهدد دولا أخرى، مثل البرتغال وإسبانيا وحتى إيطاليا، وصارت المنطقة الآن أشبه بمبنى يحترق من دون نوافذ للخروج، كما وصفها وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ مؤخرا. ويؤكد مراقبون أن اليونان في طريقها للخروج، من منطقة اليورو، ولكنها لن تكون النهاية.. بل البداية، لأن العدوى ستنتشر في دول أخرى في السلسلة.

ويرجع الخبراء أن تداعيات هذه القضية إلى الأزمة المالية العالمية عام 2008، وما تبعها من انعكاسات داخلية وعجز حكومات في سد العجز في ميزانياتها، والمبادرة إلى خطط تنموية لمواجهة التردي الاقتصادي. وبدأ الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي في وضع خطط إنقاذ للدولة المتعثرة، لمساعدتها كما وضعت تلك حكومات منطقة اليورو خطط تقشف منذ أكثر من سنة لتحل محل النفقات التقليدية التي كانت الدول الراعية الأوروبية تتكفل بتلبية الكثير منها ولا سيما في المجال الصحي والسكن والمساعدات العائلية والاجتماعية. وباتت الدول تعمد إلى تدابير مثل إصلاح أنظمة التقاعد وتخفيض المساعدات وتجميد الإعانات والمعاشات الاجتماعية والحد من نفقات الضمان الصحي.

لكن هذه الخطط أشعلت الشرارة بين مواطني هذه الدول مما أدى إلى الإطاحة بحكومات 10 دول، من ضمن 17 دولة خلال 15 شهرا.

ووسط الاضطرابات بالمنطقة، تتمتع فقط كل من ألمانيا وبولندا وبعض الدول الصغيرة مثل ليتوانيا وإستونيا والمجر ولوكسمبورغ باستقرار حكومي. وفي فبراير (شباط) الماضي أعلن إميل بوك رئيس وزراء رومانيا السابق عن استقالته للحفاظ على استقرار البلاد بعد أن اجتاحت رومانيا المظاهرات اعتراضا على سياسات التقشف التي طرحها في عام 2010، وكانت رومانيا وقعت على قرض بقيمة 20 مليون يورو مع كل من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، كما تعهد البنك الدولي بدفع الرواتب والمعاشات بعد أن تراجع الأداء الاقتصادي بأكثر من 7 في المائة، وفي 2010 رفعت الحكومة من ضريبة المبيعات من 19 في المائة إلى 24 في المائة كما اقتطعت ربع رواتب العمال لتضيق عجز الموازنة العامة للدولة.

وفي الانتخابات العامة في إسبانيا التي أجريت في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، تراجعت بشدة شعبية حزب العمال الاشتراكي الذي كان يدير أمور البلاد في ذلك الوقت، نتيجة الأزمة المالية العالمية في 2008 والتي أعقبتها أزمة الديون السيادية الأوروبية ليحصل على أقل من 30 في المائة من مقاعد البرلمان لأول مرة منذ عام 1977، وفي المقابل استفاد حزب الشعب المحافظ من هزيمة حزب العمال الاشتراكي وحصل على أغلبية مريحة في البرلمان.

ونشبت الأزمة المالية في إسبانيا نتيجة أعباء الديون طويلة الأجل، مما أدى إلى إفلاس العديد من الشركات الكبيرة وعليه ارتفعت معدلات البطالة بشكل حاد إلى أن وصلت إلى 22.9 في المائة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وتسبب ذلك في نشوب مسيرات احتجاجية واعتصام الآلاف بمدريد.

وبعد سيطرته على السلطة في إيطاليا لعقديين متواصلين تقدم سيلفيو برلسكوني رئيس الوزراء الإيطالي السابق باستقالته نتيجة انتقال عدوى أزمة الديون السيادية الأوروبية إلى إيطاليا وتطبيق إجراءات بخفض عجز الميزانية بنحو 75 مليار دولار، وخلف برلسكوني في رئاسة الوزراء المفوض الأوروبي السابق ماريو مونتي.

وفي ديسمبر من نفس العام كشف مونتي عن حزمة سياسات تهدف إلى تقليص المدفوعات وزيادة الضرائب، وأيضا أتى مونتي بعدد من الإجراءات التي لا تلاقي رضا شعبي مثل رفع سن التقاعد وذلك من أجل تقليص المصروفات الحكومية ومكافحة التهرب الضريبي ورفع معدلات النمو الاقتصادي حتى تستطيع الدولة أن تقلص من عجز الموازنة بحلول عام 2013.

وخضعت حكومة مونتي لضغوط أحزاب اليمين لإسقاط بعض البنود في حزمة تقليص المدفوعات وزيادة الضرائب على الثروات والدخل، وكانت سياسة التقشف الذي طرحها مونتي تتضمن زيادة في الضرائب وأعاد النظر في الضرائب المفروضة على الممتلكات والتي تتضمن المنزل الأول والتي كان ألغاها برلسكوني كوعد انتخابي في 2008، كما يعتزم فرض 1.5 في المائة ضريبة على الدخول التي كانت في السابق معفاة من الضرائب وكذلك على السجائر والغاز.

ويقول الدكتور أحمد غنيم أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة إن استقالات الحكومات في دول منطقة اليورو تعد شيئا طبيعيا نتيجة لعدم القدرة على تطبيق الإجراءات التي يحددها صندوق النقد الدولي لتقديم مساعداته مثلما حدث في تركيا والأرجنتين.

وأوضح غنيم لـ«الشرق الأوسط» أن «عملية الإصلاح تأخذ وقتا، وتطبيق سياسات التقشف وخفض الميزانية من الطبيعي أن تكون لها تأثيراتها السلبية على النواحي الاجتماعية، ولذلك لا تستطيع الحكومات تنفيذها نتيجة للرفض الشعبي، كما الحال في اليونان، فالحكومة بين شقي الرحى من تنفيذ الإجراءات الإصلاحية من جهة والرفض الشعبي لها».

وفي اليونان تحدد موعد آخر للانتخابات اليونانية في 17 يونيو (حزيران) القادم بعد فشل الأحزاب في الحصول على أغلبية لتشكيل حكومة ائتلافية في اليونان، في الانتخابات التي جرت في 6 مايو (أيار) الحالي والتي أجريت في وقت مبكرا عن موعدها المحدد وذلك من أجل أن تنفذ وتصدق على القرارات التي حددتها دول منطقة اليورو وصندوق النقد الدولي.

وكانت الأزمة السياسية في اليونان قد تفاقمت نتيجة أزمة الديون السيادية الأوروبية والأزمة المالية في اليونان وكان جورج بابندرو رئيس الوزراء اليوناني قد صرح أنه سيجري استفتاء شعبي على ما إذا كانت اليونان ستقبل اتفاقية الإنقاذ مع الاتحاد الأوروبي أم لا، إلا أن هذا الاستفتاء لم يجر.

وتصاعدت حدة الاحتجاجات والمظاهرات في اليونان، حتى إن بعضها تطرق إلى استخدام العنف، وكانت هذه الاحتجاجات نتيجة لحزمات متعاقبة من سياسات التقشف التي كان يمررها البرلمان اليوناني، وكانت الأولى في فبراير (شباط) 2010 بعد توقيع مذكرات مع البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي تضمنت قرض بقمة 80 مليون يورو، وتضمنت تجميد رواتب كافة موظفي الحكومة واستقطاع 10 في المائة من قيمة الحوافز.

أما الثانية كانت في مارس (آذار) من نفس العام والتي نفذت وسط مخاوف من إفلاس اليونان، فتقدم البرلمان اليوناني بقانون حماية الاقتصاد والذي كان من المقرر أن يوفر 4.8 مليار يورو، وكانت الحزمة الأخيرة في مايو (أيار) من نفس العام، والتي وصفها بابندرو بأنه لم يسبق لها مثيل، وكانت هذه الحزمة المقدمة تهدف إلى توفير نحو 38 مليار يورو خلال عام 2012، وفي اليوم التالي من موافقة البرلمان اليوناني على هذا المقترح في 4 مايو (أيار) اشتعلت الاحتجاجات في اليونان وسقط العديد من الجرحى والقتلى.

وأوضح الدكتور مصطفى ذكي خبير الاقتصاد الدولي أن تعامل الحكومات في الدول المتقدمة مع الأزمة الأخيرة في منطقة اليورو يتم بشكل في غاية المهنية ولذلك فإن تقدم هذه الحكومات باستقالتها يعتبر رد فعل طبيعي، وقال ذكي لـ«الشرق الأوسط»: «الاستقالة في هذه الحالات يعبر عن فشل هذه الحكومات في الحفاظ على استقرار الوضع الاقتصادي في منطقة اليورو، فأي تأثير صغير يحدث في أي من هذه الدول يؤثر على باقي الدول في المنطقة».

واستبعد ذكي أن تخرج اليونان من الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن نظرا لانتظارها مساعدات منه، لكنه رجح أن يحدث ذلك في وقت لاحق، كما استبعد ذكي أن تدفع الأزمة المالية في الاتحاد الأوروبي أن تقبل دخول أعضاء جدد أشهرهم تركيا التي تتمتع باقتصاد قوي نظرا لأبعاد سياسية أهمها أن غالبية الأتراك من المسلمين.

وفي آيرلندا تقدم براين كوين رئيس الوزراء الآيرلندي وزعيم حزب فيانا فيل 22 فبراير (شباط) من العام الماضي باستقالاته من رئاسة الحزب قبل أيام من إجراء الانتخابات العامة، وأنه سيستمر في عمله كرئيس للوزراء حتى إجراء موعد الانتخابات في 25 فبراير من نفس العام، وذلك لاستكمال التشريعات اللازمة لميزانية 2011، وجاءت هذه الاستقالة تحت وطأة ضغوط سياسية بعد محاولات مثيرة للجدل من أجل إجراء تعديلات وزارية وتولى إيندا كيني زعيم حزب فاين جايل رئاسة الوزراء خلفا لكوين.

في 6 فبراير من عام 2011 تم الكشف على أن آيرلندا حصلت على الجزء الأول من حزمة الإنقاذ المقدمة من صندوق الإنقاذ المالي الأوروبي تقدر بـ3.6 مليار يورو، وكان الصندوق قد اصدر سندات لهذه الغرض في يناير وفي 25 فبراير من نفس العام خسرت الحكومة الائتلافية ممثلة في حزبي فيانا فيل وحزب الخضر وتم استبدالهما بحزبي فين جايل (أقدم الأحزاب) وحزب العمال.

وتعتبر الأزمة المالية التي عصفت بآيرلندا والتي لها مسؤولية جزئية في دخول البلاد في مرحلة الكساد هي الأشد منذ ثمانينات القرن الماضي، وكان المكتب المركزي للإحصاءات بآيرلندا قد أعلن أن بلاده كانت أول دولة في منطقة اليورو تدخل في مرحلة الكساد، ففي سبتمبر (أيلول) من عام 2008 أعلنت الحكومة هناك عن دخول البلاد بشكل رسمي في مرحلة كساد وأعقبها بشهور قليلة ارتفاع كبير في معدلات البطالة، وأشارت إحصاءات إلى زيادة عدد الطالبين لإعانات بطالة في يناير من عام 2009 إلى 326 ألف مواطن.

وفي أبريل (نيسان) 2011 خفضت وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية من تصنيف ديون البنوك الآيرلندية إلى مستوى رديء، وفي 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 نظم اتحاد الطلاب في آيرلندا مسيرات احتجاجية في دبلن اعتراضا على اقتراحات قدمت لزيادة المصروفات الدراسية ووصفت صحيفة Irish Times هذه الاحتجاجات بأنها أكبر احتجاجات طلابية حدثت منذ أجيال، وفي 16 نوفمبر من نفس العام خرج آلاف الطلاب مع ذويهم من مختلف المدن في آيرلندا وتوجهوا في مسيرات إلى دبلن نحو مباني الحكومة وذلك وسط توتر من اقتراح شريحة ثالثة لرفع المصروفات الدراسية.

وفي هولندا تقدم مارك روت رئيس الوزراء الهولندي السابق باستقالته إلى بياتريكس ملكة هولندا في 22 أبريل الماضي بعد أزمة تقليص النفقات بالميزانية، مما أحدث نوعا من الفراغ السياسي في البلاد التي طالما ساندت السياسيات المالية للاتحاد الأوروبي وحاضرت اليونان حول ضبط سياساتها المالية.

والاقتصاد الهولندي يعد خامس أكبر اقتصاديات دول منطقة اليورو، واستطاعت هولندا أن تنجو نسبيا بشكل جيد من الأزمة مع وصول الدين المحلي إلى 65 في المائة من الناتج الاقتصادي ولكن الميزانية اصطدمت بالقواعد الجديدة للاتحاد الأوروبي والتي تقتضي من حكومات دول منطقة اليورو بأن يلتزموا بأن يكون عجز الميزانية أقل من 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.

وحكومة «روت» ظلت في الحكم لمدة 558 يوما فقط وكانت ثلاث حكومات هولندية فقط ظلت في الحكم لفترات أقصر في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وكان جان كيز دي جاجر وزير المالية الهولندي، الذي كانت له تصريحات لاذعة لمن وصفهم «بجناة الميزانية» - وكان يقصد اليونان، أخذ يطلق تصريحات تطمئن المتعاملين مع هولندا بأن الدولة لن تتخلى عن التزاماتها وستحافظ على سياستها المالية الصلبة وستخفض من عجزها وسيكون لها درب مستدام في السياسة المالية الحكومية. وصرح دي جاجر في وقت سابق، بأنه يجب أن تحرم اليونان من المساعدات الدولية إلا إذا ضبطت من سياستها المالية الداخلية، كما أنه رفض الاقتراحات حول أن الشلل السياسي الذي تعيشه هولندا في أن تصنف ضمن اضعف اقتصاديات أوروبا بعد أن كانت من أكثر دول الاتحاد الأوروبي تتمتع باستقرار اقتصادي.