الرحلة اللبنانية الصينية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لقد أتى إلينا التاريخ بقصص وأساطير لرحلات غير واقعية لشخصيات غير حقيقية فنستمتع بقراءتها ثم تجد طريقها إلى السينما العالمية لتخرج لنا في شكل أفلام، وقد تعرفنا جميعا على «الأوديسا» لهومير ورحلات السندباد ثم رائعة جولز فيرن «حول العالم في ثمانين يوما» ورحلات الأساطير اليونانية وغيرها، وقد بدأت أتذكر كل هذه الرحلات في شريط للذكريات الأدبية المتعاقبة عندما كنت في رحلة خاطفة إلى لبنان منذ أيام قليلة فدعاني أحد أقرب أصدقائي لغداء في منطقة جبلية صارمة وسط شلال يبعد عن سطح الأرض بقرابة ألفي متر، فكان الجبل مليئا بأشجار الأرز وغيرها، فضلا عن سهول ممتدة ووديان زاحفة وجبال شاهقة، فوجدت نفسي أسترجع بعض كتب علم الاستراتيجية وأتذكر دور التضاريس في حسم الحملات العسكرية، فوجدتني أستفسر عن الطائفة التي لها الغلبة هذه المنطقة الصعبة التي لا يمكن لأحد اقتحامها أو السيطرة عليها بسهولة، وما إذا كانت قد تعرضت لحالات احتلال من قبل طوائف أخرى إبان الحرب الأهلية، فشرح لي صديقي الخلفية التوبوغرافية للمكان وعلاقتها بالسياسة.

استغرقت في المنظر أمامي فرأيت السحب تلاعبنا والهواء يداعبنا والأشجار تغازلنا والضباب يرهبنا، وعند هذه اللحظة استرجعت على الفور «رحلة الألف ميل» والتي استطاع خلالها الجيش الشيوعي الصيني أن يفلت من قبضة قوات الحزب القومي «الكومينتانغ» باستخدام عوامل الطبيعة والتوبوغرافيا كساتر يحميه ليقيم الحكم الشيوعي في الشمال، فكل هذا تم من خلال رحلة حدثت على أرض الواقع قادها شخصية غير أسطورية هي «ماو تسي تونغ»، فهذه الرحلة تحدت بكل المعايير الوحوش الأسطورية والمصاعب الجغرافية، فلقد بدأت من منطقة الجنوب الشرقي للصين إلى الشمال الشرقي ثم الشمال، فقطع الجيش الشيوعي قرابة تسعة آلاف كيلومتر سيرا على الأقدام في قرابة ثلاثة عشر شهرا.

لقد كانت خلفية هذه الرحلة مرتبطة بفترة تاريخية هامة لدولة الصين، فلقد انتفض الشعب الصيني رافضا للأوضاع التي فُرضت عليه سواء من خلال مؤسسة الإمبراطورية الواهنة أو من خلال الظروف الصعبة التي أحاطت بالصين فردتها إلى أدنى مستوياتها، فالدولة الصينية كانت مستباحة استباحة كاملة من الغرب لأهداف تجارية وسياسية، فأصبحت سيادتها على أجزاء كثيرة من أراضيها محل شك، كما أن الفقر والفساد والضعف بدأت تصيب الدولة، فاندلعت الثورة فظهر «صن يات سن» على على اعتبار أنه الأب الروحي لها، ولكن سرعان ما دخلت البلاد إلى حالة من الفوضى السياسية بسبب أطماع أمثال «يوان شي كاي» والذي استأثر بالسلطة في أسرع وقت، وفي هذه الأثناء كان الفكر الشيوعي ينتشر في الصين كالنار في الهشيم، ولكن القوة السياسية الأساسية كانت لدى الجيش القومي الذي ورث قيادته الجنرال «شانغ كاي تشيك» من «صن يات سن» بعدما مات الأخير متأثرا بالسرطان، وقد فرضت ظروف الاحتلال والصعوبات الداخلية حالة تحالف ما بين الفصيل القومي والشيوعي، ولم يستمر التحالف مدة طويلة فبدأت التوترات تظهر ومن بعدها أخذ الصراع شكله المسلح بينهما.

مالت كفة الفصيل القومي «الكومينتانغ» تحت قيادة «شانغ كاي شيك» والذي بدأ يضيق الخناق على الشيوعيين وجيشهم الأحمر في عام 1934، وتفاديا للحصار الكامل فقد سعى الجيش الأحمر لكسره، وعندما رأى الزعيم الصيني «ماو» أنه ليس من مصلحتهم الدخول في صراع مفتوح مع قوات تفوقهم تم عزله عن القيادة، ولكنه سرعان ما عاد إليها بعد الهزيمة المنكرة للجيش الأحمر في «زيانغ» والتي قُضي فيها على أكثر من نصف تعداده بسبب الدخول في هذه الحرب المفتوحة مع عدو يفوقه في العدد والعتاد.

عند عودة القيادة «لماو تسي تونغ» بدأ الجيش الشيوعي في تغيير تكتيكاته ليتفادى الملاحقة والدخول في حرب مفتوحة مرة أخرى، فقسم جيشه إلى فرق مختلفة ليزيد من فرص نجاحها في التحرك الهادئ غير المرصود، وأتذكر جيدا أنني قرأت في أحد الكتب شعاراته التكتيكية في مواجهة العدو منها «عندما يهاجم العدو فإننا ننسحب، وعندما يعسكر العدو فإننا نضايقه، وعندما ينام العدو فإننا نهاجمه، وعندما يستجمع العدو قواه فإننا ننسحب». وهكذا استكمل «ماو» وجيشه رحلتهما الشهيرة كاسرين قبضة «الكومينتانغ» متخطيين الجبال والوديان والأنهار والغابات باتباع نمط غير محدد لمنع اقتفاء أثرهم، ونظرة واحدة للتبوغرافيا المرتبطة بهذه الرحلة تعكس بوضوح مدي صعوبتها، ففيها سلاسل جبال شاهقة تكسوها الثلوج طوال العام، وقد اضطر هذا الجيش لتخطي كل هذه الحواجز الطبيعية بجهود مضاعفة، ولكن ليس قبل أن تقطف الرحلة والطبيعة والحروب أكثر من تسعين في المائة من قوامه، فلقد بدأ الشيوعيون رحلتهم بقرابة تسعين ألف مقاتل، ولكن عندما وصلوا إلى مقصدهم فإن ما تبقى من هذا الجيش كان قرابة عشرة آلاف رجل.

إنها رحلة الإصرار والعزيمة لعقيدة آمن بها أصحابها فصمدوا من أجلها حتى وإن كان الزمن قد ألقى بظلاله على فرضياتها الفكرية وفرص نجاحها، ولكن القدرة على التحمل تظل العنصر الحاسم في هذه الرحلة، فسرعان ما بدأ «ماو» ينظم صفوفه في شمال البلاد بعيدا عن الملاحقة، ويستعد للحظة المناسبة للعودة للقضاء على غريمه القديم «شانغ كاي شك»، فلقد اعتمد الأول على المجتمع الريفي لتثبيت مبادئه وجمع الدعم اللازم لتقوية شوكة جيشه وتدريبه التدريب الأمثل، كما توصل إلى صيغة تعايش مؤقت مع الإقطاعيين في المنطقة حتى لا يستثيرهم ضده، فاستطاع من خلال التنظيم الحكيم والرؤية الثاقبة والقدرة جعل الزمن عنصرا يدفعه للأمام وأن يقوي قاعدته إلى أن جاء اليوم الذي بدأ يحارب الاحتلال الياباني لبلاده، ثم يجهز على قوات «الكومينتانغ» ويفرض على زعيمها «شانغ كاي تشك» الهروب إلى جزيرة «فورموسا» المعروفة بتايوان، وأن يعلن الديمقراطية الشعبية في الصين في أكتوبر (تشرين الأول) 1949، وهو ما يعكس حقيقة أساسية وهي أن الشعوب هي التي تصنع فرص نجاح قادتها، فالصين لم تكن دولة ديمقراطية ولكن الشعب احتضن ما تبقى من الجيش الشيوعي فصنع من خلاله أكبر دولة اشتراكية في العالم.

أيا كانت وجهة النظر حول الدور الذي لعبه الشيوعيون في الصين، فإن المرء لا يستطيع إلا احترام أصحاب هذه الرحلة وما تم إنجازه خلالها، وتحضرني هنا أول رسالة من الرسائل العسكرية لنابليون بونابرت والتي يقول فيها «إن أصعب ما يواجه الجيوش من عراقيل في مسيراتها والتي يصعب التغلب عليها هي الصحراء ومن بعدها الجبال ومن بعدها الأنهار العريضة»، ولكن الجيش الأحمر الصيني استطاع التغلب عليها جميعا مضافا إليها الأحراش والمستنقعات والمرض.

لقد تذكرت ونحن في رحلة الهبوط من الجبل الشاهق في لبنان الصعوبات التي واجهت أصحاب «رحلة الألف ميل» في الصين، خاصة وأنا أشاهد السحب تغطي الأشجار فيصبح من المستحيل السير في الطرق الوعرة، أو عبور منحدراتها التي هي أعمق من آفاقها ووديانها وغاباتها، هي كلها عوامل تكسر إرادة أي راغب في التغلب عليها، وتذكرت أيضا أن الأرض تحسم الأمر لصالح من يتمكن منها.

* كاتب مصري