الدولة الأموية والعباسية في السياسة الدولية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تناولنا في المقال السابق ظهور الدولة الإسلامية وقيامها بإرث الدولة الفارسية لتتبوأ مكانتها كدولة بارزة في نظام ثنائي القطبية مع دولة بيزنطة، وكيف قامت هذه الدولة بموجة ثانية من التوسع خلال الدولة الأموية (661 - 750م)، مما وفر لها تراكما من القوة أسهم في قيامها بمحاصرة القطب المنافس لها. لكن قبيل الانتقال لتركيبة القوة الإسلامية الدولية فإن حدثا مهما تجب معالجته، وهو أن الأمويين في سعيهم الحثيث لكسر الدولة البيزنطية لجأوا لتغيير استراتيجية إدارة الصراع عندما بدأت هذه الدولة تتوسع غربا، فبعد ضم الأندلس في عام 711 انقسمت بؤرة الصراع ما بين القطبين، حيث بدأت دمشق تسعى لمحاولة العبور لوسط وجنوب أوروبا مستخدمة الجبهة الغربية.

وعلى الرغم من التخطيط العسكري السليم فإن مصير الموجة الإسلامية الغربية توقف مثلما حدث مع «هانيبال» الشهير عندما عبر بقواته من قرطاج إلى شبه الجزيرة الأيبيرية في سعيه نحو روما في القرن الثالث قبل الميلاد. وقد كان السبب المباشر في كسر هذا المد الإسلامي نحو شرق القارة الأوروبية الهزيمة العنيفة التي لقيتها قوات القائد الأموي عبد الرحمن الغافقي في معركة «بواتييه» المعروفة في التاريخ الإسلامي بـ«بلاط الشهداء» عام 732؛ فتعد هذه المعركة حدثا فاصلا في التاريخين الإسلامي والأوروبي، ونقطة فارقة في مسيرة إدارة الصراع بين الدولة الإسلامية وأوروبا، فلم تمثل هذه المعركة نهاية المد الإسلامي في أوروبا فحسب، لكنها كانت أيضا علامة مهمة نحو تدشين سلطة مارد جديد لعب دوره المهم في حسم المستقبل السياسي للقارة الأوروبية من خلال إرساء بذور الإمبراطورية الكارولينجية (Carolingian Empire)، حيث كان بطل معركة بواتييه هو «شارل مارتيل»، أي جد «شارلمان العظيم» مؤسس هذه الإمبراطورية، والتي تحولت في ما بعد إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة، فوحدت مناطق وسط وغرب أوروبا بشكل منقطع النظير، فأصبحت القوة البؤرية التي ورثت في ما بعد دور الدولة البيزنطية في علاقتها مع الدولة الإسلامية.

وهكذا انحسر دور الدولة الأموية شرقا ولاقت مصير جيش قرطاج نفسه، لكن الفارق الأساسي هو أنه على حين فشلت الأخيرة في الحفاظ على وجودها العسكري في أوروبا ومن بعدها وجود دولتها ذاتها في شمال أفريقيا، فإن الدولة الأموية استطاعت الاحتفاظ بالأندلس وتثبيت وجودها هناك، لكن ذلك جاء على حساب التوغل شرقا، وبهذا فشل المسعى الأموي لتطويق القارة من الشرق والغرب، ووضع الضغط الاستراتيجي على الجانبين.

ومع ذلك فقد استمر الدور الأموي بكل قوة في السياسة الدولية، وتشير التقديرات إلى أن الدولة الأموية كانت تمثل أكبر كتلة سياسية مركزية شهدها العالم على مر العصور حتى ذلك الوقت، فقد بلغ حجمها قرابة 11 مليون كيلومتر مربع، أي قرابة ضعف حجم دولة روما التي وصلت في أشدها لما يقرب من 6.5 مليون كيلومتر مربع، أو ما يقرب من ثلث الإمبراطورية البريطانية والتي كانت أكبر إمبراطورية من حيث الحجم في العالم عندما بلغت قرابة 34 مليون كيلومتر مربع في القرن العشرين، لكن الملاحظ أن هذه الدولة شأنها شأن أغلبية الدول الإسلامية المتتالية، فقد كانت في مجملها دولة ممتدة (Contiguous)، وهو ما منحها قوة نسبية مقارنة بالإمبراطوريات التي ترتبط أطرافها من خلال البحر.

مع سقوط الدولة الأموية وتولي الدولة العباسية الحكم في ما بعد، فإن التوجه العام لم يختلف كثيرا، كما لم يتغير مشهد القوة على الساحة الدولية، فاستمر الوضع ثنائي القطبية إلى أن بدأت الإمبراطورية الكارولينجية تدخل المعادلة ليصبح نظاما ثلاثي القطبية، وذلك على الرغم من أن الدولة البازغة لم تدخل حلبة الصراع بشكل مباشر مع الدولة العباسية لعدم وجود خطوط تماس مباشر بينهما، ولم يتغير الوضع شيئا بالنسبة للعلاقة بين بغداد والقسطنطينية، وفي هذا الإطار فقد بدأت الدولة العباسية الفتية في تثبيت أركانها فزادت إجمالي رقعة الدولة بزيادات محدودة عن الدولة الأموية، لكن بعض الأمور الأساسية صارت ملحوظة، وعلى رأسها انتقال مركز الخلافة من دمشق إلى الكوفة ثم بغداد مباشرة، وهو التحرك الذي غير من مركز ثقل الدولة وجعل العاصمة بعيدة عن منطقة التماس العسكري مع الدولة البيزنطية.

لم يستمر الوضع على هذا النحو كثيرا، فعوامل ضعف الدولة العباسية بعد خلافة هارون الرشيد بدأت تنهش في قدرتها على التنافس الخارجي، بل مجرد التماسك على المستوى الدولي والذي بدأ ينهار تدريجيا لصالح مراكز الثقل السياسية والعسكرية التقليدية في الدولة الإسلامية، فاستقل ابن طولون بمصر، وظهرت دولة الأدارسة في المغرب، ثم الأغالبة في شمال أفريقيا.. إلخ.. ثم انفرط عقد القوة بسبب التأثيرات الخارجية على بلاط الحكم ثم ظهور دولة السلاجقة وضغطها الشديد على الخلافة العباسية، وهي أمور بدأت تضعف الدولة المركزية في حلبة الصراع الدولي. وعلى الرغم من انحسار الدولة المركزية فإن الهوية والثقافة الإسلامية خاصة السنية ظلت السائدة في مجملها لا سيما في الشرق، وسرعان ما بدأت دول مثل مصر وشمال الشام تأخذ على عاتقها مسؤوليات المواجهة، ليس فقط مع الدولة البيزنطية، ولكن مع المارد الجديد المتمثل في الدول الأوروبية المركزية التي بدأت قوتها تبرز خاصة فرنسا والدولة الرومانية المقدسة، فبدأ الصراع يأخذ منحنى جديدا.

وعلى الرغم من أن الكثير قد يعتبر أن الدولة العباسية زالت فعليا عقب الغزو المغولي لها وتدمير أواصرها وأساساتها على أيدي هذا الجيش في عام 1258، فإن حقيقة الأمر هي أن هذه الدولة لاقت مصيرا متدرجا مشابها لما حدث للاتحاد السوفياتي وهو ما يطلق عليه علماء السياسة عملية الانفجار الداخلي (Implosion)، فهي قبل أن تُحتل من المغول كانت تمر بمراحل من التفتت الداخلي على مراحل زمنية ممتدة تقرب من ثلاثة قرون، ما بين صراعات داخلية وخلافات داخل البلاط ومراحل من التحلل السياسي الملحوظ، ومن ثم فحتى بعد استعادة الدولة لقدراتها نسبيا فإنها استسلمت لمصيرها المحتوم على أيدي المغول.

وعلى الرغم من انهيار الكيان الجامع الشامل للكيانات الإسلامية المختلفة، فإن هذا الكيان البديل أخذ أشكالا مختلفة، فكان مبنيا على أساس رقع جغرافية متنوعة الثقل سعى كثير منها لاستضافة شبح الخلافة العباسية لتتحصن خلف شعاع من الشرعية، بالتالي نجد ظهور دولة مثل مصر التي استضافت الأسر الطولونية والإخشيدية ثم الخلافة الفاطمية ثم الدولة الأيوبية إلخ، كما حكمت إيران أسر سياسية قوية أهمها الدولة البويهية، ولهذا أصبحت دولتا مصر وسوريا بالأخص مكلفتين بمواجهة تحديين أساسيين غير تقليديين.

ويلاحظ في هذا الإطار أن الصراع الدولي انتقل من المركز إلى الأطراف على الصعيدين الإسلامي والأوروبي على حد سواء، فبعد أن كان بؤرته القسطنطينية انتقل الأمر إلى وسط وغرب أوروبا اللذين أصبحا يمثلان الثقل السياسي الجديد، بينما لعبت مصر وبدرجة أقل سوريا هذا الدور بدلا من الدولة العباسية، وقد شهدت الشام لأول مرة منذ معركة اليرموك والفتح العربي منطقة تماس بين القوتين الإسلامية والغربية، وانضمت لهما قوة دولية ثالثة هي المغول، فكان هذا مشهدا تاريخيا لم تشهده المنطقة من قبل بحيث تكون قاعدة إسلامية مهمة مثل الشام مركزا لتنافس ثلاثة لاعبين جدد يتفاعلون في النظام الدولي، لكن هذه سنة السياسة الدولية كما سيتضح.

* كاتب مصري