عن أسباب غياب «السلام الإسلامي»

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لقد عكست المقالات الثلاث السابقة حول ظهور وخسوف الدولة الإسلامية في السياسة الدولية حقيقة أساسية وهي أن كافة الأجواء والعوامل كانت مهيأة لكي تتمكن هذه الدولة من أن تتبوأ مكانتها كقوة دولية متفردة أو بلغة علم السياسة فهي لم تستطع خلق نظام دولي أحادي القطبية تكون هي المهيمنة على مجرياته أو ما أصطلح على تسميته مجازا في قاموس العلاقات الدولية «بالسلام Pax» والمقصود هنا غياب «السلام الإسلامي Pax Islamica» أسوة «بالسلام الروماني» أو «السلام البريطاني أو الأميركي»، ولكن هذا لم يتحقق فلم تستطع الدولة الإسلامية احتلال هذه المكانة على الرغم من أنها بسطت سيطرتها على إمبراطورية فارس والتي كانت تعد المنافس الأول في القارة الأسيوية، ثم استقطعت أراضي كثيرة من دولة بيزنطة، ولكن شيئا ما لم يكتمل في هذه المعادلة الدولية، فقد حالت عدد من العوامل دون التسيد المنتظر.

وعلى الرغم من الامتداد العمري للدولة الإسلامية الموحدة وتوارثها وصعوبة التوصل لعموميات بشأنها، فإن هناك بعض العموميات التي قد تفسر هذا التناقض التاريخي بين القوة المفرطة لهذا الدولة والفشل الممتد في فرض الهيمنة الدولية أو «السلام الإسلامي» وهي على النحو التالي:

أولا: في التقدير أن مشكلة الاختلافات في مفاهيم الشرعية يمكن أن تعد أحد أهم الأسباب الأساسية التي ضربت القوة المتجددة للدولة الإسلامية وسببت الاقتتال الداخلي الذي تميزت به الدول الإسلامية المتعاقبة منذ الخلافة الراشدة، وتاريخ الدولة الأموية كان امتدادا للصراعات المستمرة مع القوى المناوئة للسلطة المركزية لهذه الدولة وعلى رأسها حركات الخوارج والشيعة والحركات الانفصالية الأخرى، ونفس هذه الفرق ثارت في وجه الدولة العباسية وهي في أوج قوتها فأضعفت من قدراتها على استمرار مواجهة القوى الدولية الأخرى، فلو أن الدولة الأموية استطاعت أن تدعم جيش عبد الرحمن الغافقي أثناء معركة «بلاط الشهداء» أو أرسلت جيوشا إضافية بعد هذه الهزيمة لكان التاريخ قد تغير ولدانت أوروبا لهذه الدولة، وهو ما لم يحدث لأن الدولة كانت تواجه المشكلات الداخلية خاصة في الكوفة والبصرة. وقد استنفدت هذه الحروب قوة الدولة الأموية، بل إنني أكاد أجزم أنه لا توجد دولة تنافست على القطبية الدولية وهي تعاني من حركات انفصالية شبه ممتدة بالقرب من مركز ثقل الدولة مثلما حدث مع الدولة الأموية وبدرجة أقل العباسية. كل هذا أفقد هذه الدول الزخم والقدرة على التركيز في الجهد الدولي.

ثانيا: واتصالا بما سبق، فهناك عدد من المشكلات الداخلية التي حجمت من قوة دفع الدولتين الأموية والعباسية وهو ما كان سببا أساسيا في تشتيت قدرة هذه الدول على المواجهة الدولية بالشكل المناسب، فلقد عانت الدولتان مما يمكن أن نصفه بعملية الامتداد الزائد أو الـOverstretching أي إنها امتدت بسرعة عالية وتأخرت عملية هضم هذه الأراضي وهو ما أضعف بطبيعة الحال السلطة المركزية للدول الإسلامية المتعاقبة، فلقد كانت الدولة الإسلامية كما ذكرنا آنفا أكبر تجمع سياسي تحت حكم مركزي شهده العالم وذلك في مدة وجيزة وصلت إلى نيف وأربعين عاما.

ثالثا: لعل من أهم عوامل إضعاف الدولة الإسلامية على مدار تاريخها كان تصميمها المستمر على أن تكون دولة قارية Continental State، مثل روسيا والإمبراطورية الرومانية المقدسة وغيرهما واللاتي تعتمد على نسق وراء الآخر من قوات المشاة والفرسان، والثابت هو أن الدولة الأموية والعباسية ومن بعدهما الدولة المصرية لم يتناسب حجم أساطيلهم الامتدادات الشاهقة لشواطئهم البحرية، فرغم دور معاوية بن أبي سفيان في إنشاء أول أسطول بحري في تاريخ الدولة الإسلامية فإن هذا الذراع العسكري الهام ظل في أغلب الأوقات يحتل المرتبة الثانية مقارنة بمنافسي هذه الدولة الكبرى، ولو أننا طبقنا نظرية عالم الجغرافيا السياسية الشهير «الفريد ثاير ماهان» والذي قدم أول نظرية حول دور القوة البحرية في صناعة التاريخ، فإننا سنجد الدول الإسلامية المتعاقبة قد فشلت في تطبيق أساسيات نظريته والداعية لضرورة خلق قوة بحرية تتناسب والقدرات التجارية للدولة الكبرى لتكون أساسا لفتح تجارة واسعة وممتدة تتناسب وقوتها وتضمن لها قاعدة صناعية داخلية خاصة في القرون الأربعة الماضية، ولكن هذا لم يحدث واكتفت الدول الإسلامية بالتجارة القارية، من أبواب الصين إلى الشام أو شمال أفريقيا، كما اكتفت دولة المماليك بتحصيل الرسوم على التجارة المارة بمصر دون السعي للتوسع الدولي المقارن، وعلى الرغم من أنها كانت من القوى الدولية الكبرى، إن لم تكن في أعلى مراتب القوة، فإنها لم تستطع أن تواكب القوى التجارية البازغة في مطلع القرن السادس عشر.

حقيقة الأمر أن الضعف البحري النسبي للدول الإسلامية كان بداية لمشكلة حقيقية واجهت هذه الدول خاصة دولة المماليك فقبيل انهيارها على أيدي الدولة العثمانية، فإن هناك حدثا هاما كثيرا ما تتغافله كتب التاريخ وهو معركة حاسمة وفاصلة دخلها الأسطول المملوكي قرابة الساحل الهندي وهي المعروفة بمعركة «ديو البحرية» عام 1509 والتي هزم فيها الأسطول المملوكي أمام الأسطول البرتغالي في صراعهما على طرق التجارة البحرية، وفي هذه المعركة تحديدا ضربت الدولة الإسلامية ضربتها البحرية الكبرى والتي لم تستطع أن تتخطاها، فهي المعركة التي فتحت المجال أمام السيطرة الغربية على طرق التجارة والملاحة الدولية، أما الدولة العثمانية فقد لاقت من جانبها هزيمة مماثلة عام 1571 في معركة «ليبانتو» البحرية في مواجهة التحالف الأوروبي ضدها وهي الهزيمة التي ختمت على فرص هذه الدولة في السيطرة على البحر المتوسط أو مد النفوذ البحري العثماني إلى القارة الأوروبية.

رابعا: واتصالا بما سبق، فقد فقدت الدولة الإسلامية قوة الدفع التي ولدتها الاكتشافات البحرية الدولية على أيدي الدول الأوروبية حيث لم تكن الدولة العثمانية قادرة أو مهتمة بالمنافسة على العالم الجديد وهي المهمة التي أخذتها على عاتقها إسبانيا والبرتغال ومن بعدهما هولندا وإنجلترا، فكان ذلك سببا في الخروج الحتمي للدولة العثمانية من الصراع الدولي، وهو ما أفقدها أيضا فرصة اللحاق بالركب الصناعي والحضاري الغربي فاكتفى ممثل الدولة الإسلامية في الصراع الدولي بأن يكون «دولة استهلاكية» من الطراز الأول، فاقدة القدرة على المنافسة، وهو ما قلص من فرصها الدولية خاصة أنها فرضت على ولاياتها حالة من التخلف والجهل الشديدين ساهما في حالة التأخر الاقتصادي والسياسي.

لقد كانت هذه مجرد اجتهادات للأسباب التي قد تكون أثرت سلبا على قدرة الدولة الإسلامية على المنافسة الدولية الممتدة أو فرض هيمنتها الدولية وهو الحلم الذي داعب عشرات من قياداتها وملايين من رعاياها على مدار أربعة عشر قرنا من الزمان.

* كاتب مصري