من آلام السكان الأصليين

TT

ينشد المغني «بروس ديكنسون» ليعبر عن مأساة السكان الأصليين في أميركا، فيقول «جاءنا الرجل الأبيض عبر السهول وأحضر معه الألم والتعاسة.. لقد حاربناه بقوة وحاربناه بعظمة وفي السهول أريناه جهنم.. لكن جاء منهم ما يفوق الكري (اسم القبائل) فهل سيأتي اليوم الذي نتحرر فيه؟». بكلمات قليلة وصفت الأغنية مأساة السكان الأصليين على أيدي الرجل الأبيض الذي ابتلاهم الله به، فلقد مثل بداية ظهوره سلسلة من الكوارث والمصائب، بدأت بالأوبئة وانتهت باحتلال أرضهم وتدمير ثقافتهم وهضمها ضمن الثقافة الكبرى للرجل الأبيض الجديد مثلما تم استعراضها في مقال الأسبوع الماضي، لكننا سنركز اليوم على بعض نماذج هذه الآلام والشخصيات التي أسهمت في صنع هذه الآلام.

أولا: لقد أتى الرجل الأبيض منذ قدومه بكارثة كانت أكبر من شهيته للأراضي والذهب، فلقد كان قدومه نذيرا بنشر أوبئة وأمراض في مجتمعات لم تكن تعرف بعضها بعضا من قبل، وبالتالي فشلت أجهزتهم في مقاومة المرض، فاستسلم الآلاف منهم لمصيرهم المحتوم بعد انتشار أمراض مثل الجدري والطاعون والزهري، وهي الأمراض التي حصدت نسبة كبيرة للغاية من السكان الأصليين، فلقد مثل انتشار هذه الأوبئة كارثة لا تقل بأي حال عن انتشار الطاعون أو «الموت الأسود» في القرن الرابع عشر في أوروبا، فلو أن هذا المرض حصد قرب ثلث سكان أوروبا فإن هذه الأوبئة كان لها دورها الكبير في حصد نسبة تقدرها بعض المصادر بثلث أو أكثر من السكان الأصليين، بل إن بعض المصادر التاريخية تؤكد أن مرض الجدري تسبب في هلاك أكثر من ثلاثة أرباع القبائل التي كانت تقطن مناطق متاخمة لولايتي نيويورك وماساشوستس.

من ناحية أخرى، فإن الآثار الجانبية المترتبة على هذه الأوبئة كانت عظيمة للغاية، فلقد أثرت بشكل كبير على الصحة العامة لهم، حيث تأثرت نسبة الخصوبة بشكل كبير مما أدى لتناقص المواليد أو النمو السلبي لهذه القبائل بشكل يكاد يكون منتظما، وهو ما أدى لنوع من التمازج المفروض على بعض القبائل في قبائل أخرى، وهو ما أفقد كثيرا منها هويتها ثمنا لهذا الاتحاد مع قبائل أخرى.

وقد أسهم في تعميق خطورة هذه الأوبئة أن هؤلاء السكان المساكين لم يعرفوا علاجا لها، فحاولوا مواجهتها بمزيج من العلاج الروحي والدعوات اعتقادا منهم أنها غضب من الآلهة تجسد في هبوط أرواح شريرة تقمصت المريض، وهو ما دفعهم لابتداع صلاة جديدة لمواجهة الأوبئة ومعها مصائبهم الجديدة المتمثلة في الرجل الأبيض وسلوكه، وكان من هذه البدع ما أطلق عليه «رقصة الشبح» التي كان الهدف منها مواجهة الرجل الأبيض وجشعه وأمراضه بالابتهال إلى الأرواح اعتقادا أن هذا سيزيح الرجل الأبيض.

ثانيا: كان التطهير العرقي والجريمة والعنف أبرز الوسائل التي استخدمها الرجل الأبيض ليحصل بها على أراضي السكان الأصليين، ولعل أفضل مثال يمكن أن يجسد هذا التوجه كان شخصية الرئيس الأميركي «أندرو جاكسون» الموجودة صورته على ورقة العشرين دولارا الأميركية، فالرجل كان مجرم حرب بمعايير اليوم وعلى يديه أريقت دماء آلاف من السكان الأصليين، ليس فقط عندما كان رئيسا ولكن عندما كان قائدا في الجيش الأميركي آنذاك، فالمعروف عن الرجل أنه كان يكره من سماهم «الهنود الحمر»، وقد بدأت رحلته مع التطهير العرقي خلال حملاته الشهيرة ضد السكان الأصليين الذين كانوا يقطنون ولايات ألاباما وفلوريدا وجزءا من جورجيا، فلقد استخدم الرجل أقصى درجات العنف ضدهم وكانت هزيمته لقبائل «الكريك» سببا في التوقيع على اتفاقية شهيرة عام 1814 تم بمقتضاها الاستيلاء على 23 مليون فدان من أراضيهم وضمها للولايات المتحدة، أي ما يقرب من نصف ولاية «ألاباما» وجزء من ولاية «جورجيا»، وقد دفع أكثر من 800 محارب حياته ثمنا للحفاظ على هذه الأراضي لكنهم استسلموا لبطش الرجل وعنفه.

لكن هذه لم تكن نهاية جرائم الرجل تجاه السكان الأصليين، فدوره في ما عرف «بحروب السيمينول» كان فجا، حيث حارب الإسبان في فلوريدا ومعهم قبائل متفرقة عرفوا باسم «السيمينول»، وكانت وحشيته في التعامل معهم واضحة للجميع، حيث تمكن من خلال هذه الحرب من تطهير فلوريدا من قبائل كثيرة وفرض على الإسبان التنازل عن هذه الولاية للولايات المتحدة في ما بعد؛ ومع ذلك فدور الرجل لم ينته عند هذا الحد، فعندما تم انتخابه رئيسا للولايات المتحدة فإن من أشهر قراراته ما عُرف بـ«قانون الإزالة» (Removal Act) عام 1830، والذي بمقتضاه تم تهجير ما يقرب من 46 ألفا من السكان الأصليين من أراضيهم الواقعة تحت سيادة الولايات المتحدة إلى مناطق أخرى في الغرب، مما أضاف 25 مليون فدان لبلاده من أراضي السكان الأصليين اغتصبت بالقوة وبعيدا عن القانون.

ثالثا: لعل من أكبر الجرائم المرتكبة ضد السكان الأصليين في الولايات المتحدة كانت المذبحة المعروفة بـ«الركبة المصابة» (Wounded Knee) في عام 1890، والتي تعد بكل مقاييس اليوم جريمة حرب، وقد سبقت هذه المأساة مشاكل واسعة مع أمة «السوو» (Sioux) منذ أن بدأ الرجل الأبيض يحاصرها ويتوسع في أراضيها ويخل بكل بنود اتفاقياته معها، فكانت النتيجة تحديد إقامة الهنود في مناطق محددة تعتمد على الحكومة الفيدرالية لتوفير قوت يومها، وهو ما بدأ يتضاءل مع مرور الوقت، كما بدأ الرجل الأبيض يؤمم الأراضي لصالح المستعمرين والباحثين عن الذهب والمغامرين، وقد رفض بعض «السوو» معاملة الرجل الأبيض لهم ونقضه المستمر للعهود، فقام رجل دين وقائد قبيلة يسمى «الثور الجالس» بحركة تمرد كتب لها النجاح المؤقت على غير العهد، فحقق نصرا كبيرا في معركة «القرن الكبير الصغير» (Little Big Horn) التي قضى خلالها على قوات الجنرال الشهير «جورج آرمسترونغ كاستر»، لكنه لم يكن من الممكن أن يستمر في مقاومته للمستعمر وقدراته وتفوقه في كل أوجه الحياة، وعندما استسلم القائد الروحي في إحدى البقاع التابعة لقبيلته حاول الجيش الأميركي أن يلقي القبض عليه، فأسفرت المحاولة عن مقتله وهروب فريق من أنصاره إلى جنوب داكوتا، وانضم بعضهم إلى فريق آخر من القبائل الهاربة بسبب جور الرجل الأبيض في منطقة عرفت باسم «الركبة المصابة»، حيث تمت محاصرتهم من قبل سلاح الفرسان للجيش الأميركي، فكانت النتيجة مذبحة بكل المقاييس عندما فُتحت النيران على المجموعة، فقتل ما يقرب من مائتين إلى ثلاثمائة فرد أغلبهم من النساء والأطفال في مذبحة مريعة لا سبب لها إلا صلف الرجل الأبيض في مواجهة السكان الأصليين، وذلك في سياسة إجبارهم على التنازل عن مزيد من الأراضي لصالح المستعمرين، ومما لا شك فيه أن هذه الجريمة الشنعاء ترقى اليوم لجريمة القتل الجماعي، ولكن بدلا من معاقبة قائد القوات الأميركية فقد تمت تبرئته وإعادته إلى رتبته وقيادته.

كل هذه مجرد مقتطفات من المعاناة التي ابتلي بها السكان الأصليون على أيدي الرجل الأبيض، لكنها تمثل مُدعاة للتفكر والتأمل للحقوق المهضومة لهؤلاء القبائل على مر الزمن، والتي تتعدى مجرد التعاطف المتمثل في فيلم تنتجه هوليوود أو احتفال بذكرى أو إعلان شهر يتذكرون فيه ثقافة السكان الأصليين.

* كاتب مصري