«الرئيس» و«المشير».. البندقية والسلطة

من عبد الناصر وعامر.. إلى مرسي وطنطاوي

الرئيس المصري مرسي مع المشير طنطاوي خلال حفل تخرج في الأكادمية العسكرية بالقاهرة يوم 17 يوليو (تموز) الماضي (إ.ب.أ)
TT

على مدى ستة عقود هي عمر الجمهورية في مصر، شكلت العلاقة بين الرئيس والمشير سيناريو شديد التذبذب، شهد توافقا محدودا، بينما كانت نهايته غالبا تتشح بالصراع ما بين قطبي الدولة في مصر على فترات سياسية متباينة مرت بها البلاد في أوقات مختلفة، ما بين حرب عقب ثورة جيش، ثم سلام، مرورا بفترات ثبات أعقبتها ثورة أخرى.

تبدأ فصول العلاقة بين الرئيس والمشير بالصفحات الأكثر غموضا في تاريخ الجمهورية المصرية الحديثة التي دشنتها قوة سلاح العسكر، وظلت الدولة حتى وقت قريب تعتبر أن كل تقدم يُحرز هو جزء من تحقيق أهداف حركة الجيش في فجر 23 يوليو (تموز) 1952، وهي الحركة التي طالب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بتغيير مسماها إلى «ثورة»، وهي الثورة التي أعلنت الجمهورية وألغت الملكية.

وتولى وزارة الحربية منذ ذلك التاريخ، والتي تغيرت من «الحربية» إلى «الدفاع» عام 1977، ستة عشر قائدا، حاز خمسة فقط منهم رتبة «مشير»، كان أولهم المشير عبد الحكيم عامر، نهاية بالمشير محمد حسين طنطاوي الذي أحيل للتقاعد قبل أربعة أيام، وبين عامر وطنطاوي كانت علاقة رؤساء مصر بأعلى رتب الجيش تمر ما بين فترات هدوء تتبعها زوابع تنتهي غالبا بحالة من الغموض الكثيف.

وعلى الرغم من أن رؤساء مصر الأربعة السابقين على الدكتور مرسي جاءوا من صفوف الجيش، بداية باللواء محمد نجيب، والبكباشي جمال عبد الناصر، مرورا بالبكباشي محمد أنور السادات، وصولا للفريق محمد حسني مبارك قائد سلاح الطيران، إلا أن تلك الخلفية العسكرية لم تمنع الصدام بينهم وبين زملائهم العسكريين، الذين تولوا قيادة الجيش أثناء فترة حكمهم، بل إن هذا التقارب لم يستطع درء الخلاف بين الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، ورفيق دربه المشير عبد الحكيم عامر، الذي كان برتبة رائد صبيحة الثالث والعشرين من يوليو 1952، وتعرف على عبد الناصر قبل عشر سنوات من الثورة حين خدما معا في السودان إبان عهد الملك، إلا أن الخلاف بين عبد الناصر و«الرجل الثاني» تسلل بين الصديقين رويدا رويدا، فبعد الثورة مباشرة تولى اللواء محمد نجيب قيادة الجيش كقائد لمجلس قيادة الثورة حتى 1954 حين تم إبعاده وتحديد إقامته.. فقد وقف نجيب وقف منذ البداية ضد رغبة عامر في تولي قيادة الجيش بسبب قلة خبرته العسكرية، لكن بعد الإطاحة به وإحكام عبد الناصر زمام الأمور في مصر أمسك حسين الشافعي بقيادة الجيش، قبل أن يسندها ناصر لعامر في الحادي والثلاثين من أغسطس (آب) عام 1954 وحتى هزيمة يونيو (حزيران) 1967.

وطوال الفترة من 1954 وحتى بداية الستينات كانت العلاقة بين عامر وناصر في أوج ازدهارها، ولم ينغص صفوها إلا لوم ناصر لعامر بسبب أسلوب إداراته للمعارك في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، والتي خلفت شرخا صامتا في العلاقة بين عامر وناصر، عمق منه تدخل مصر في اليمن عام 1962، ومن قبل مشروع الوحدة بين مصر وسوريا في عام 1958، ثم أجهزت هزيمة يونيو 1967 على ما تبقى من ود بين الرجلين، وفي يونيو 1967 قصف سلاح الطيران الإسرائيلي جميع المطارات العسكرية المصرية، وأسفرت الحرب عن مقتل آلاف من الجنود المصريين عقب الانسحاب غير المخطط للجيش من سيناء والذي صدر ت أوامره من قبل عامر شخصيا.

وفى أعقاب هزيمة مصر في 1967 خرج عبد الناصر معلنا التنحي من منصبه، إلا أن المظاهرات عمت أرجاء البلاد مطالبة بعدم التنحي، وأصدر عبد الناصر بيانه الشهير في 30 مارس (آذار) من عام 1968 لمحاسبة المسؤولين عن الهزيمة، فكان هذا البيان بداية لمرحلة جديدة في الصراع بين عامر وناصر، ليتم الإعلان في 14 من سبتمبر (أيلول) من العام نفسه عن وفاة عامر «منتحرا» بسبب الهزيمة، إلا أن كثيرين من المحللين رجحوا وفاته بالسم، لينتهي أول صراع «صامت» بين الرئيس والمشير دارت حلقاته داخل الأروقة المغلقة وعززت من غموضه علاقة ود وصداقة بين عامر وناصر لم يشهد بلاط الحكم في مصر مثيلا لها من قبل، بل إن الرئيس عبد الناصر سمى أحد أبنائه عبد الحكيم تيمنا بعامر، بينما أطلق عامر على أكبر أولاده اسم جمال، لكن صراعات السلطة ومفارقات السياسة قتلت ما تبقى من دفء اجتماعي لم يفارق عامر وناصر، ويرحل ناصر عقب وفاة عامر بعامين في سبتمبر 1970 ليكتم الرجلان أسرارهما معا ويدشنا لعلاقة مغايرة تواصلت بعدهما عقودا أخرى.

عقب وفاة عبد الناصر حرص الرئيس الراحل أنور السادات الذي كان نائبا لناصر على تدشين علاقة جيدة بالمشير أحمد إسماعيل الذي عينه السادات رئيسا للمخابرات العامة قبل أن يعينه في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1972 وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة خلفا للفريق محمد فوزي، ليقود إسماعيل الجيش المصري في معركة التحرير، لكن هدنة الرئيس والمشير بين السادات وإسماعيل لم يقطعها شيء سوى انتفاضة الخبز في 18 و19 يناير (كانون الثاني) 1977، حينها كان المشير عبد الغني الجمسي، على رأس الجيش المصري خلفا لإسماعيل، وكانت الانتفاضة التي غطت مظاهراتها شوارع العاصمة المصرية وجميع المدن والأقاليم اعتراضا على زيادة حكومة الدكتور ممدوح سالم لأسعار عدد كبير من السلع الغذائية الأساسية حدثا فارقا في علاقة السادات بالجمسي الذي قَبِلَ على مضض نزول الجيش إلى الشارع لقمع الانتفاضة التي أطلق عليها البعض «ثورة الخبز»، وأكد الجمسي حينها أن «الجيش يؤيد حقوق المواطن المشروعة دون تخريب أو تدمير للمنشآت»، وهو ما خلف غصة وقفت في حلق السادات الذي عين كمال حسن علي خلفا للجمسي، قبل أن يُقتل على أيدي متطرفين إسلاميين في احتفالات أكتوبر 1981.

لكن الخلاف الأشهر بين الرئيس والقادة العسكريين في مصر كان بين السادات والفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان القوات المسلحة من عام 1971 وحتى ديسمبر (كانون الأول) 1973، ولم يكن الصدام بين السادات والشاذلي مجرد خلاف عادي، بل تطور إلى انتقاد لاذع وجهه الفريق الشاذلي للسادات لاحقا، وظهرت بوادر عدم التوافق بين الشاذلي والسادات داخل غرفة عمليات القوات المسلحة في يوم التاسع عشر من أكتوبر 1973 وأثناء استمرار العمليات العسكرية للقوات المصرية لتحرير سيناء، حيث كانت ثغرة الدفرسوار هي سبب الخلاف بين الشاذلي والسادات.. الدفرسوار، التي أطلقت على اسم الهجوم المضاد التي قامت به إسرائيل، واستغلت فيه ثغرة فصلت بين قوات الجيش المصري للدخول إلى غرب القناة، وبينما قرر السادات استمرار الهجوم وتطويره وعدم تراجع القوات، كان رأي الشاذلي سحب كتائب لسد الثغرة وإيقاف الهجوم الإسرائيلي.

ونتيجة لانتقاد الشاذلي تعامل السادات في ثغرة الدفرسوار إبان الحرب أعفاه السادات من مهامه وعينه سفيرا لمصر في لندن. الشاذلي، الذي توفي ليلة تنحي مبارك في 11 فبراير (شباط) 2011، انتقد اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل وأُبعد عن البلاد ليعيش في الجزائر حتى بعد اغتيال السادات، وفي عهد مبارك نُفذ ضده حكم قضائي صدر إبان حكم السادات بالحبس بتهمة إفشاء أسرار عسكرية، وقضى عقب عودته إلى مصر في عام 1992 عاما وشهرين في السجن، وصودرت منه كل الأوسمة والنياشين، واتهمه المدعي الاشتراكي حينها بالقيام بأعمال من شأنها المساس بالسلام الاجتماعي والوحدة الوطنية.

مبارك هو الآخر كانت له صفحاته الخاصة مع «المشير» وكانت الأكثر دراماتيكية، بدأت مع المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، وزير الدفاع المصري القوي في أواخر عهد محمد أنور السادات وبداية عهد مبارك حتى عام 1989، عندما أقيل من منصبه وعينه مبارك حينها مساعدا لرئيس الجمهورية، من دون أي مهام تنفيذية، حيث اعتبر كثير من المحللين أن سبب الإقالة هو انزعاج مبارك من شعبية المشير أبو غزالة المتزايدة خارج الجيش وداخله نظرا لإسهاماته في تطوير الجيش المصري ودخوله مع الأرجنتين والعراق في برنامج لتطوير صواريخ طويلة المدى، وهو المشروع الذي قيل إنه أغضب الغرب وكان مقدمة لإقالة أبو غزالة، لكن تقارير صحافية غربية حينها قالت إن سبب إقالته هو محاولته تطوير صناعة الصواريخ المصرية والحصول على التقنية الأميركية بطرق غير رسمية، إذ كشفت تقارير صحافية صدرت عام 1987 عن غضب الدول الغربية من برنامج تطوير صواريخ طويلة المدى بين الأرجنتين والعراق ومصر والمسمى بـ«كوندور2»، وهو ما حدا بمسؤولين غربيين لأن يخرجوا عقب إقالة أبو غزالة ليؤكدوا أن التعاون المصري – الأرجنتيني في مجال تكنولوجيا الصواريخ توقف. ليخلف أبو غزالة في وزارة الدفاع الفريق أول صبري أبو طالب، الذي سلم قيادة الجيش لاحقا للمشير طنطاوي.

ويبدو أن علاقة مبارك بـ«المشير» لم تنته بإبعاد أبو غزالة، فعلى الرغم من حرص مبارك على إبعاد الجيش عن السياسة في عهده فإن الأمور سارت على غير مراده، فالمشير محمد حسين طنطاوي منذ أن تولى قيادة الجيش المصري في عام 1992 لم يظهر إلا نادرا على الساحة السياسية، ولم يكن يظهر على شاشات التلفزيون إلا أثناء تخريج دفعات جديدة من كليات للقوات المسلحة يحضر حفل تخرجها الرئيس، أو أثناء حضوره للمناسبات العسكرية والرسمية كجزء من البروتوكول الرسمي للدولة، لكن مخطط التوريث الذي قيل إنه يهدف لتولية نجل مبارك الأصغر الحكم من بعده أغضب في ما يبدو المؤسسة العسكرية في البلاد وعلى رأسها طنطاوي، وبدأ يلوح في الأفق خلاف سياسي – عسكري بين مبارك وطنطاوي، امتد لتوقع محللين سياسيين انقلاب الجيش على مبارك إذا ما استمر مخطط التوريث، وهو ما جعل الجيش أيضا يؤيد ثورة الخامس والعشرين من يناير بقوة - بحسب مراقبين - وأصدر الجيش بيانه الأول بعد الثورة معلنا دعمه الكامل لـ«الحقوق المشروعة للشعب» حين كان ميدان التحرير يهتف «الشعب يريد إسقاط النظام».

وأخرجت ثورة 25 يناير، بعد 19 عاما من توليه قيادة الجيش، طنطاوي وبقوة إلى واجهة المشهد السياسي المصري ليصبح بين ليلة وضحاها حاكما للبلاد ويحاكم في عهده مبارك، الذي بدأت جلسات محاكمته في الثامن من أغسطس من العام الماضي، وانتهت بالحكم المؤبد ضده، ليوضع مبارك في السجن في عهد طنطاوي كحاكم فعلي للبلاد، بل يشهد طنطاوي وعنان في المحكمة التي نظرت قضية مبارك في اتهامه بقتل المتظاهرين السلميين، حيث قال طنطاوي في شهادته إن مبارك لم يأمر بقتلهم «صراحة» ولم يصدر منه أمر مباشر للجيش بذلك.

إلا أن سيناريو الرئيس والمشير استمر مع طنطاوي نفسه، وبحضور رئيس جديد من خارج أبناء القوات المسلحة، أطيح بطنطاوي هذه المرة هو ورئيس أركانه، الفريق سامي عنان، وعين الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزيرا جديدا للدفاع، ليبدأ سيناريو مفتوح للعلاقة القديمة بين جناحي الدولة السياسي والعسكري.

فالرئيس محمد مرسي، القيادي بحزب الحرية والعدالة، قبل أن ينصبه رسميا المستشار فاروق سلطان، رئيس المحكمة الدستورية السابق رئيس اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، رئيسا للبلاد في 30 يونيو الماضي، واجه انتقادات صارخة عقب توليه الحكم، فمرسي، الذي كان رئيسا لحزب الإخوان المسلمين السياسي في مصر، اتهم من قبل معارضيه بالضعف وعدم القدرة على انتزاع صلاحياته كاملة من المجلس العسكري، الذي رأسه طنطاوي، وأصدر إعلانا دستوريا مكملا قبيل تكليف مرسي يعطي العسكري صلاحيات واسعة تتعلق بالتشريع عقب حل مجلس الشعب المصري، كما أعطاه الحق في الموافقة على قرار رئيس الجمهورية بإعلان الحرب من عدمه، وكذلك قرار نزول القوات المسلحة إلى الشارع لمواجهة أي اضطرابات، لكن مرسي وبعد ما يقارب الشهر ونصف الشهر من توليه الحكم قلب الطاولة على الجميع وخالف كل التوقعات ليعلن استمرار سيناريو الرئيس والمشير في البلاد. وألغى مرسي الإعلان الدستوري المكمل، الذي أصدره المجلس العسكري، وأعلن إحالة طنطاوي وعنان وعدد من قيادات المجلس العسكري الـ19 للتقاعد، وعين اللواء عبد الفتاح السيسي وزيرا للدفاع بعد أن رقاه إلى رتبه فريق أول معلنا استرداد صلاحياته وبداية رسم لوحة جديدة في علاقته بالعسكر تفتح ربما سيناريو جديدا يتلقى فيه جنرالات مصر ولأول مرة الأوامر من رئيس مدني لم يخضع من قبل للقواعد والتقاليد العسكرية المتبعة. وليظل المشهد المصري بكل تعقيداته وتقاطعاته السياسة والعسكرية قابلا لمفاجآت، ربما تتكرر دروسها وعلاماتها في التاريخ، وربما تنتهج لنفسها سيناريو آخر في صراع البندقية والسلطة.