معركة سلاميس البحرية

TT

استعرضنا في مقال الأسبوع الماضي كيف خرج الفرس من معركة «ثيرموبايليا» بنصر عسكري مكلف للغاية، وأن هذا النصر أنهك قواهم واستنزف منهم الكثير، ومن ثم أصبح مستقبل هذا الجيش الفارسي في شبه الجزيرة اليونانية مربوطا بمستقل المعركة البحرية المنتظرة في خليج «سلاميس» جنوب اليونان، فلقد كان الملك زيركسس ملك الفرس واثقا من النصر البحري كما كان واثقا من أن قواته البرية ستسحق ما تبقي من المقاومة اليونانية، ولكنه كان يدرك تمام الإدراك أنه يحارب خارج أرضه وخطوط إمداداته تأتيه بالبحر ومن ثم ضرورة حمايتها وتحصينها، بالتالي فإن فرص نجاح حملته على اليونان لن تتأكد إلا بهزيمة الأسطول اليوناني المتحد والراسي في خليج سلاميس، خاصة أن المعارك والمناوشات التي جرت لم تكن حاسمة حتى ذلك الوقت.

لقد كانت القوات البحرية اليونانية تحت قيادة إسبرطة باعتبارها الدولة صاحبة التسيد العسكري في اليونان، ولكن دور أثينا كان حاسما فلقد كانت هذه الدويلة صاحبة أعلى الأسهم في الأسطول اليوناني تحت قيادة رجل حكيم يدعى «ثيمستوكوليس»، وقد ذهب الأثينيون إلى معبد دلفي للتعرف على النبوءة الخاصة بالمعركة، فجاءهم الرد على غير هواهم، فسألوا الكهنة مرة أخرى فأنبأوهم «بأن على الأثينيين أن يحتموا بأسوارهم الخشبية»، وقد فسر البعض هذه المقولة على أنها إشارة من الآلهة بضرورة أن تحارب اليونان الجيش الفارسي بالسفن لأن النصر سيكون حليفهم آنذاك فقط، لذا فقد اضطر القائد الإسبرطي أن يقبل بالضغط الأثيني للمضي قدما في معركة بحرية غير متكافئة، حيث إن قوات «زيركسس» كانت تصل إلى قرابة ألف سفينة، بينما وصل الأسطول اليوناني لقرابة أربعمائة فقط.

اقترح «ثيمستوكوليس» أن يتراجع الأسطول اليوناني إلى العمق ويسطر على مضيق «سلاميس» بشكل يعكس ضعفا أمام السفن الفارسية فيكون ذلك هو الطعم الذي يجر به الأسطول الفارسي لمعركة غير متكافئة له، فنشر سفنه على رأس المضيق وترك مجالا يمكن للفرس أن ينفذوا منه لتطويق السفن اليونانية، كما أنه قام بإرسال رسالة إلى «زيركسس» يبدى فيها استعداده لخيانة الأمانة والانضمام إليه في حالة ما إذا هجم على اليونانيين، وقد ابتلع زيركسس الطعم، وشن هجوما في غير صالحه، فلقد كان المضيق ضيقا بالتالي تلاشت أي ميزة عددية للفرس أمام ضيق المكان حيث أصبح من الناحية التكتيكية غير قادر على الانتشار والمحاصرة، وهو ما استغله اليونانيون استغلالا عبقريا، فلقد استغلوا العمق التكتيكي لهم بالمضي قدما صوب الأسطول الفارسي وكسر تشكيلاته وتدمير سفنه بهجوم رأسي مباشر كانت الميزة فيه لصالح السفن اليونانية التي كانت أكثر صلابة من ناحية وأكثر تمركزا وتجمعا من ناحية أخرى، فتفتتت القدرة الفارسية على المقاومة وتمزق أسطولهم إربا واضطر زيركسس للانسحاب الفوري يجر أذيال الهزيمة معه.

عند هذا الحد أصبح «زيركسس» أمام أحد خيارين، إما الاستمرار في سعيه لمحاصرة الأسطول اليوناني بعد هزيمته البحرية استعدادا لموقعة أخرى يكون قد فقد فيها ميزته العددية أو الانسحاب الفوري لتأمين خطوط تموين جيوشه حتى لا يبادر اليونانيون بهجوم يقطعون فيه الجسر البحري الذي يربط بين فارس وهذه الجيوش، وقد استقر رأي زيركسس على الأخيرة، فسحب الأسطول لحماية خطوطه الخلفية والتموينية، ولكن هذا الانسحاب لم يتوازَ معه انسحاب بري، فلقد آثر أن يترك قوة عسكرية تقدر بأكثر من مائة ألف في شبه الجزيرة اليونانية لتقوم بتصفية القوات البرية اليونانية، خاصة الأثينية والتي كانت تستعد منذ فترة طويلة لمعركة برية بعدما تم إخلاء المدينة من كل سكانها خوفا عليهم من البطش الفارسي، وهكذا أصبح مستقبل الحرب الفارسية اليونانية يعتمد على معركة جديدة لا تقل أهمية وهي معركة «بلاتيا» الشهيرة والتي هُزم فيها الفرس هزيمة ساحقة واضطروا للانسحاب من شبه الجزيرة اليونانية ولم يحاولوا دخولها مرة أخرى لمدة قرن ونصف من الزمان.

لقد أدت معركة «سلاميس» إلى تغيير نمط العلاقة بين فارس واليونان اللتين تمثلان القوتين العظميين في ذلك الوقت، حيث قضت هذه المعركة إلى جانب «بلاتيا» على فرص البروز السياسي الفارسي ونفوذه في شبه الجزيرة اليونانية، فلقد دمر اليونانيون في أقل من اثنتي عشرة سنة حملتين واسعتين للفرس بهدف السيطرة على اليونان، وهو ما أدى إلى إضعاف فارس وقدراتها العسكرية فضلا عن القضاء على أي فرصة لتهديد اليونان مرة أخرى باستثناءات قليلة، بالتالي صارت الفرصة مواتية للإسكندر الأكبر بعد قرن ونصف القرن من الزمان هذه المعركة بدء حملته لغزو فارس من نفس المنطلق الذي بدأ منه «زيركسس» حملته الفاشلة منها ضد اليونان.

لقد كان لمعركة «سلاميس» أكبر الأثر في تاريخ الغرب بصفة عامة، فلو أن زيركسس كان منتصرا فإنه كان من المتوقع أن تسيطر قواته على شبه الجزيرة اليونانية في غضون أشهر قليلة، وهو ما كان سيؤدي حتما إلى سعي الفرس لتدمير الثقافة اليونانية التي كانت تمثل من وجهة نظرهم منافسة غير مقبولة لهم، كما أنها كانت ستدمر المفاهيم السياسية والاجتماعية والفكرية المرتبطة بالثقافة اليونانية، تماما مثلما فعل زيركسس بجثة الملك ليونيدس في معركة «ثيرموبيليا» وهو ما كان ضد العرف السائد في ذلك الوقت من احترام ودفن جثة العدو الباسل، فلقد كانت الحرب بين فارس واليونان حربا شاملة كان المنتصر فيها سيضمن انتصار ثقافته وحضارته، والمتابع للتاريخ اليوناني وانتشار الثقافة اليونانية سيجد أنها مرت بأزهى عصورها عقب انتصار «سلاميس» و«بلاتييا»، فالقرنان الخامس والرابع قبل الميلاد كونا مرحلة الانطلاقة في شتى المجالات الفكرية والفلسفية والثقافية والأدبية، وهي حركة كثيرا ما نراها عقب المعارك الفاصلة مثلما حدث في العصر الإليزابيثي في إنجلترا عقب معركة الأرمادا، وفي روما بعد الحروب البونيقية والأمثلة متعددة. تعد معركة «سلاميس» في الاستراتيجية البحرية من أهم المعارك الفاصلة في التاريخ السياسي، فيضعها العسكريون في مرتبة معارك «ميدواي» و«ترافلجر» الخ، فهي معركة بسيطة ولكنها تحتاج لتكتيكات ومناورات عالية للغاية بحيث يمكن للفرقة الضعيفة أن تكسر التجمع البحري للمنافس وهو نفس التكتيك العسكري الذي اتبعه القائد «نلسن» في معركة «ترافلجر» الشهيرة ولكنه هاجم خصمه بخطين عموديين بدلا مع مجموعة خطوط مستقيمة مثلما فعل اليونانيون، وسيظل التاريخ يذكر هذه المعركة الهامة التي حسمت تاريخ العلاقات الدولية لقرون تالية، تماما مثلما استضافت اليونان معركة «أكتيوم» الشهيرة والتي حسمت تاريخ العلاقات الدولية في العهد الروماني لقرون تالية أيضا، أو معركة «نوارين البحرية» والتي حسمت استقلال الدولة اليونانية بهزيمة الأسطول المصري العثماني المشترك.. كما لو أن كثيرا من وقائع التاريخ تصنع بالسفن، وفصولا من المستقبل تكتب في البحر.

* كاتب مصري