ديكتاتورية من نوع خاص

TT

علق لي عدد غير قليل على مقالة الباب «رحلة مع ثلاثة كتاب»، لا سيما ما تناولته بشأن العلامة المؤرخ محمد بن أحمد بن إياس في كتابة العظيم «بدائع الزهور في وقائع الدهور» خاصة ما تضمنه من بعض الطرائف والأشعار الجميلة التي كانت تعكس في تقديري ثقافة هامة في ذلك الوقت، ومن ثم فقد آثرت أن أقتبس منه ما رواه بشأن واحد من أغرب الحكام في تاريخ الإنسانية، وهو الحاكم بأمر الله، الذي في تقديري كان من أكثر أنواع الديكتاتوريات غرابة، فلقد كانت فترة حكم هذا الخليفة الفاطمي الشيعي في مصر وما حولها، أحد أهم مصادر التندر في التاريخ السياسي العربي، بل لم يصادفني في قراءة التاريخ من هو أكثر منه اهتزازا وفق الروايات التي وردت في «ابن إياس»، فلقد كان الرجل في تقديري يعاني من أعراض للاضطرابات النفسية وعلى رأسها «البارانويا» وتقلبات المزاج وحالات من النرجسية الشديدة الممزوجة بجنون العظمة، ويورد ابن إياس في صدر صفحاته روايات كثيرة وعلى رأسها إصراره تغليظ العقوبات على كل المخالفين في الأسواق، بما في ذلك الاغتصاب الجنسي من خلال أحد عبدانه ويدعى مسعود، كما أن الرجل بدأ في مرحلة ما يدعى الانكشاف على السماء، بينما هو في حقيقة الأمر يتجسس على أمرائه من خلال خدامهم، فضاق المصريون به وبحكمه وما مثله من استفزاز لمشاعرهم الدينية، فكتب أحد المصريين بيتين من الشعر علقهما على كرسيه الذي كان يجلس عليه ليسخر من نبوته فقال:

بالجور والظلم قد رضينا وليس بالكفر والحماقة إن كنت أوتيت علم غيب بين لنا كاتب البطاقة ولكن هذه لم تكن النادرة الوحيدة لهذا الرجل، فيقال إنه كان يخطب في كل جمعة فيتفاخر بنسبه لآل البيت وهو ما استفز المصريين، لأن غالبيتهم العظمي لم تعتنق المذهب الشيعي، فوقف بعض المصريين رافعين لافتة كبيرة مدونا عليها أبيات من الشعر يستهزئون فيها من الخليفة فيقولون:

إنا سمعنا نسبا منكرا يتلى على المنبر في الجامع إن كنت فيما قلته صادقا فانسب لنا نفسك كالطائع وإن ترم تحقيق ما قلته فاذكر لنا بعد الأب السابع دع الأنساب مستورة وادخل بنا في النسب الواسع فإن أنساب بني هاشم يقصر عنها طمع الطامع ويقول ابن إياس إن الحاكم بأمر الله غضب غضبا شديدا إثر ذلك وأدرك أن المصريين باتوا يضمرون له الشر، وهنا كان أحد أهم الأحداث في تاريخ مصر فلقد كان صاحب أكبر حريق للقاهرة في العصر الإسلامي، فلو أن تاريخ الثورة المصرية استيقظت بوادره على حريق القاهرة في 1952، فإن الحاكم بأمر الله أمر بحرق القاهرة وأطلق عبدانه ومواليه يقتلون وينهبون الشعب المصري فاستجار الشعب بالعلماء والأعيان، والذين ذهبوا يتوسلون للحاكم ويؤمنوه على الرعية فأوقف الرجل التقتيل والحريق بعد أن حرق ثلث القاهرة، وهنا يدخل هذا الحاكم في مقارنة واضحة مع نيرون إمبراطور روما، فلقد تميز الاثنان بأنهما حرقا عاصمتيهما! ولكن مصائب مصر كانت أكثر من ذلك على مدار 25 سنة تحمل فيها المصريون هذا الحاكم العابث وفقا لابن إياس، فلقد كانت لمعتقداته الشيعية تأثيراتها المباشرة على قراراته السياسية والاجتماعية، فلقد كان الرجل يأمر بسب الخلفاء الراشدين من على المنابر، اقتناعا منه بأنهم سلبوا الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من حقه في الملك، ولكنه عاد ليمنع هذه العادة في مرحلة تالية بعدما بدأت الرعية تتأثر من مواقفه، وعلى أثر هذه الخلفية منع الرجل زرع الملوخية كما منع أكل القرع، وكانت أسبابه في ذلك مرتبطة بعدم اتزانه النفسي والسياسي والديني، فلقد كان الرجل على اعتقاد كامل بأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان يحب أكل القرع، ومن ثم وجب منع الرعية من أكله، كما أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تحب أكل الملوخية، كذلك فقد قام الرجل بمنع أكل الزبيب والعسل الأسود كما منع الناس من بيع السمك الذي لا قشر له، ونهى عن أكل الترمس، بل عاقب من كسر قراراته بالموت شنقا في بعض الأحيان.

ومع ذلك تحملت مصر العام بعد العام من هذه القرارات الهزلية التي تصل إلى مرحلة «الجنان» فكان من نوادره أنه جمع كل اليهود في حارة واحدة سميت بحارة «زويلة»، وفرض عليهم الإسلام الشيعي فرضا تحت تهديد السلاح، فاعتنق يهود كثيرون التشيع وعندما عدل الرجل عن رأيه، ارتد 7 آلاف يهودي لدينهم الأصلي، أما أقباط مصر فقد فرض عليهم لباسا محددا ومنع اختلاطهم بعامة المسلمين وقيل إنه قلب بعض الكنائس إلى جوامع، كما فرض عليهم أن يلبسوا صلبانا طولها ذراعا، فكان يهود مصر وأقباطها شأنهم في الغم والهم شأن إخوانهم المسلمين.

وقد طال جنانه أيضا نساء مصر، فقد منع الرجل النساء من السير في الطرقات أو النظر من الشبابيك أو الطلوع إلى الأسطح، وتنفيذا لهذه القرارات أمر صانعي الأخفاف من صنع الأخفاف للنساء، كما منع دخولهن الحمامات العامة، ويقال إنه سمع في إحدى المرات ضجيجا في أحد الحمامات العامة فعرف أن بعض النساء خلفن قراراته ودخلن، فأمر بسد الحمام تماما وترك النساء تموت في الداخل.

وقد تحملت مصر 25 عاما من حكم هذا الرجل، حتى ضاقت أخته به ذرعا وقررت الخلاص منه من خلال بعض المأجورين من العبيد، فتتبعوه وهو يختلي بنفسه وأجهزوا عليه قتلا من كل اتجاه، وقطعوا أرجل حمارته انتقاما منها لأنها كانت تحمله، وقد فرح الشعب بالتخلص من الرجل، وكعادة المصريين فلقد استعانوا بالصبر والزمن على حكم السوء في تاريخهم، فكتب أحد الشعراء حكما لكل زمان ومكان قال فيها:

ودهر قطعناه بضيق وشدة ونحن على نار قيام على الجمر صبرنا له حتى أزيل وإنما تفرج أيام الكريهة بالصبر

* كاتب مصري