اليابان من الثورة للإمبريالية

TT

لقد مرت كثير من الدول البؤرية في التاريخ الحديث، بما يمكن أن نصفه بمرحلة الانتقال من الحالة الثورية إلى المرحلة التوسعية، كما لو أن هناك علاقة سببية بين التحول السياسي الحاد أو الثورة من ناحية والسعي لتوسيع رقعة الدولة أو مد نفوذها من ناحية أخرى، وقد حدث ذلك بشكل ملحوظ بعد الثورة الفرنسية في أوروبا، وبعد التوحد الألماني في القرن التاسع عشر ومرحلة التوسع التي تلته، وفي مصر مرتين، مرة بعد تثبيت حكم محمد على وتغيير النظام العثماني المملوكي القائم آنذاك، ثم مرحلة ما بعد ثورة 1952، وهذه مجرد نماذج تعكس كلها نمطا يشير إلى أن الدولة عندما تستمد قوتها الداخلية من خلال التغيير المطلوب تكاد كلها تتبنى سياسة خارجية أكثر قوة وحركة ونضارة وصلت في مراحل كثيرة للإمبريالية والاستعمار في القرن التاسع عشر، ولم تمثل اليابان استثناء لهذا النمط.

لقد بدأت اليابان ثورتها الصناعية في أعقاب ثورتها السياسية والاقتصادية، فكان التمازج بين الثورات الداخلية في المجالات المختلفة واضحا، وله انعكاساته على السياسة الخارجية لهذه الدولة الجزيرية، وهو ما أنتج سياسة خارجية تدفع نحو الانفتاح العنيف تجاه محيطها الخارجي، وذلك على الرغم من أن اليابان لم تكن تمتلك أسطولا بحريا يسمح لها بأن تتطلع لما هو أبعد من محيطها البحري، ولكنها على الفور لجأت لرفع قدراتها العسكرية وتطوير أسطولها البدائي والمتهالك، حيث تم رفع قدرات الجيش من خلال التدريبات على أيدي الخبراء الأجانب خاصة من الولايات المتحدة وألمانيا وغيرهما، أما الأسطول فقد ساهمت بريطانيا في دعم هذا الذراع العسكري، ولكن لم يدر بخلد الأطراف الأوروبية أن اليابان ستكون مرتكزا هاما للغاية بل ومصيريا في إدارة القوة في القارة الآسيوية.

وكعادة الدول القوية في هذه المرحلة الزمنية، فإن اليابان كانت لها أهدافها من وراء التوسع الخارجي شاركتها فيه أغلبية من الدول الغربية في ذلك العصر، وذلك أن اليابان كانت دولة فقيرة للغاية في الموارد الطبيعية، وكان من الضروري لها أن تفتح، ليس فقط أسواقا ولكن أيضا مصادر كثيرة من المواد الخام بما يضمن تدفقها بصورة مستمرة، خاصة الحديد والبترول الذي أصبح الاقتصاد الياباني يعتمد عليه من المستعمرات، كما أن هذه السياسة التوسعية سمحت لها بخلق أسواق لمنتجاتها الصناعية وتجارتها الخارجية، وهي بذلك دخلت نفس دائرة النادي الاستعماري الغربي بكل مقوماته ولنفس الأسباب.

لقد نظرت الدول الغربية لليابان نظرات ضيقة في أواخر القرن التاسع عشر باعتبارها منافسا تجاريا لهم في الصين وكوريا والمناطق المتاخمة، وظلت هذه النظرة على ما هي عليه ولكنها لم تصل لمرحلة القلق خاصة بالنسبة للولايات المتحدة، التي كانت أقرب الدول الغربية لليابان، وبالتالي كانت أكثرهم اهتماما بها لا سيما بعدما امتدت الأيادي البحرية اليابانية إلى ما بعد مناطق نفوذها التقليدية، ولكن روسيا لم تسترح لهذه القوة الصاعدة منذ البداية لأنها كانت قريبة وتكاد تتلامس مع مناطق نفوذها الشرقية بل وأراضيها أيضا في حالة ما إذا نجحت التحركات التوسعية اليابانية، أما بريطانيا فقد كانت تنظر لها على أنها منافس تجاري في الأساس وليس أكثر.

لقد كان من الطبيعي أن تبدأ اليابان الحديثة سعيها نحو التوسع الإقليمي من خلال نقاط جغرافية محددة، فكانت شبه الجزيرة الكورية والصين خاصة منشوريا هما الهدفان الرئيسيان لها في المراحل التالية إضافة إلى الجزر القريبة في المحيط الهادي، فبدأ التوسع الياباني على حساب الدول المجاورة بالحرب مع الصين في 1894 ثم احتلال جزر تايوان عام 1894، ثم احتلال جنوب منشوريا وأخيرا كوريا عام 1910، ولكن قوة الدفع الأساسية لليابان، التي وضعتها ضمن مصاف القوى الكبرى في شرق آسيا وأرسلت موجات من القلق في العواصم الأوروبية المهمة جاءت نتيجة الحرب الروسية اليابانية، التي انتهت في عام 1905 بهزيمة ساحقة لروسيا التي فقدت أسطولها في هذه الحرب واضطرت للتنازل لليابان عن مناطق نفوذها في شرق آسيا والتوقيع على اتفاق مذل للغاية.

واقع الأمر أن الدول الغربية خاصة الولايات المتحدة كانت على أتم استعداد لكي تسعى لاحتواء هذا التوسع السريع لولا وقوع حدثين هامين أثرا على هذا التوجه، الأول تمثل في اندلاع الثورة في الصين عام 1911 ودخولها مرحلة من الضعف الناتج عن حالة من الفوضى السياسية، وهو ما جعلها مطمعا لكل القوى، أما الحدث الثاني فكان اندلاع الحرب العالمية الأولي وانضمام اليابان لجهود الحلفاء في محاربة ألمانيا، وقد سمح هذان الحدثان لليابان باتباع سياسية توسعية غاية في الضراوة، ففرضت على الصين ما عرف بـ«الواحد والعشرين مطلبا» والذي بمقتضاه طالبتها بالسيطرة على مواردها الطبيعية من الحديد والفحم فضلا عن فرض مجموعة من مستشاريها على الحكومة الصينية، وقد تصدت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة لهذه المطالب وخففت من حدتها، فاضطرت اليابان للإذعان لضغوط الولايات المتحدة والغرب فيما بعد.

لقد استفادت اليابان كثيرا من جراء مساندتها لجهود دول الحلفاء في الحرب العالمية الأولي، فشاركت في مؤتمر فرساي الشهير للتسوية، وحصلت في مقابل جهدها الحربي على حق الانتداب على الأقاليم التي كانت بحوزة ألمانيا في المحيط الهادي، ولكن هذا لم يخف حالة القلق الغربي المتصاعد تجاه سياساتها التوسعية البحرية المتصاعدة وقتها، مما بدأ يضع ضغوطا قوية على العلاقات بينها وبين الغرب، وهو ما سعت لاحتوائه في إطار سياسة منمقة من توازن القوى من خلال ما عُرف بمؤتمر واشنطن، الذي تم بمقتضاه تسوية سباق التسلح في شرق آسيا ووضع كثير من الضوابط وإقرار مبادئ أخرى على رأسها احترام استقلال الصين.

لم تصمد الديمقراطية في اليابان أمام ضغوط الكساد الاقتصادي وحالة عدم التوازن في توزيع الثروات داخليا، فكانت النتيجة تعرض البلاد لانقلاب عسكري أدى لسقوط الدولة في أيدي مجموعة من العسكريين سيطروا على مقاليد البلاد، وجعلوا من الإمبراطور كيانا هامشيا رمزيا، وقد كان ذلك عاملا حاسما في كسر التوازن السياسي في شرق آسيا، فقد وضعت الحكومة العسكرية اليابانية البلاد في حالة تصادم مع القوى الخارجية فاحتلت منشوريا، وبدأت تتوسع في جنوب شرقي آسيا على حساب الدول الغربية دون مراعاة للتوازن المطلوب في إدارة العلاقات الدولية، وهي السياسة المتغطرسة التي انتهت بالهجوم على ميناء بيرل هاربر مما جر الولايات المتحدة في حرب ضروس مع اليابان أدى لهزيمتها شر هزيمة واستسلامها في الحرب العالمية الثانية بعد ضرب هيروشيما ونجازاكي بالقنابل الذرية، لتخضع للاحتلال شأنها في ذلك شأن الدول الأوروبية المنهزمة في الحرب العالمية.

وهكذا تحولت اليابان من دولة صناعية صاعدة إلى دولة إمبريالية ولكنها فقدت البوصلة السياسية شأنها في ذلك شأن كل الدول التي أشرنا إليها عاليه، والتي لم تستطع أن تراعي مبادئ توازن القوى الدولية، فدفعت ثمنا غاليا لقصر النظر السياسي لقادتها، وهو مرض لعين يصيب كثيرا من القادة لأسباب كثيرا ما تتعلق بحكمهم المطلق.

* كاتب مصري