بسمارك والسياسة الدولية

د. محمد عبد الستار البدري

TT

تابعنا الأسبوع الماضي وصول بسمارك للقيادة في دولة بروسيا، وكيف بدأ ينظر لنفسه على أنه موحد المقاطعات الألمانية، وسط مصاعب مرتبطة برفض الملك البروسي أن يقبل تاجا يمنحه له الشعب اعتقادا منه أن الملك يهبه المولى عز وجل، إضافة إلى وجود تيار ليبرالي يكره بسمارك لأنه يراه ضد الفكر الحر ويسعى لتقوية السلطة الأوتوقراطية لملك بروسيا على حسابهم، ومع ذلك فقد تجاهل الرجل كل هذه المعوقات وأخذ يستجمع قواه في كل الاتجاهات لتحقيق هدفه المنشود وهو تحرير المقاطعات الألمانية من النفوذ الأجنبي تمهيدا لتوحيدها في إطار سياسة «الدم والحديد» الشهيرة.

كانت الفلسفة الأساسية لبسمارك هي أن يجعل الضغوط الدولية هي العامل الرئيسي في صهر الشعب الألماني سياسيا، وفي سبيل ذلك كان التخلص من النفوذ النمساوي هو أهم ما شغل باله، لأن النمساويين كانوا يسيطرون على مقاعد عديدة في الكونفدرالية الألمانية، وبالتالي كان لا بد من الدخول في حرب سريعة مع دولة النمسا لقطع نفوذها واستبدال النفوذ البروسي به، فافتعل الرجل بحنكة سياسية بارعة حربا من خلال السعي لانتزاع مقاطعتي «شلزويج - هولشتاين» من الدنمارك، وعندما سعت النمسا لضمهما لها كما كان متوقعا أعلن بسمارك على الشعب الموقف، وبدأ يستميل الرأي العام الداخلي الذي بدأ يطالب بالحرب والاحتفاظ بالمقاطعتين، وبالفعل عندما أعلنت الحرب أجهزت قوات بروسيا على النمسا في ما عرف «بحرب الأسابيع السبعة»، وأذاقهم بسمارك هزيمة قاسية ضمن من خلالها ضم المقاطعتين إليه، لكن عبقريته السياسية جعلته لا يفرض شروطا قاسية على النمسا لأن الهدف من الحرب كان قطع نفوذها في دائرة نفوذه هو، وليس القضاء على النمسا أو إذلالها خاصة أنه كان يسعى لجعلها حليفة له عندما تحين لحظة الحرب مع فرنسا، فكان من شروط الصلح إلغاء «الكونفدرالية الألمانية» واستبدال تنظيم ألماني خالص خارج النفوذ النمساوي بها، ومن ثم فإن هذه الحرب القصيرة وتسويتها الرقيقة سمحت له بعودة التحالف مع النمسا في غضون سنوات قليلة للغاية.

أدى الانتصار البروسي على النمسا وقطع دابر النفوذ النمساوي من المقاطعات الألمانية نهائيا إلى جعل بسمارك البطل القومي في بروسيا، وبدرجة أقل المقاطعات الألمانية، فهو الذي أعاد للروح الألمانية مجدها، وبدأ يُنظر له بنظرة مختلفة تماما، فأدرك التيار الليبرالي أن سياسة «الدم والحديد» سياسة صائبة للغاية، وأن الانتصار ما كان ليتم لولا فكر بسمارك وإصلاحاته العسكرية، وهو ما لمسه الرجل على وجه السرعة، ففتح باب حوار، وتحالف مع التيار الليبرالي الذي بدأ يقتنع بتوجهه، فبدأ يدعم سياساته في البرلمان الجديد للألمان.

كان ختم الثقة الذي حازه هذا الرجل بداية عهد جديد سعى خلاله بسمارك لاكتساب ثقة المقاطعات الألمانية الجنوبية والتي كانت ترفض الهيمنة البروسية وتخشى الدخول في وحدة أساسها قوة بروسيا، وقد لجأ الرجل لحيلة بارعة للغاية، حيث استطاع بدهائه أن يستدرج السفير الفرنسي في برلين ليقدم مطالب بلاده بنفوذ في مقاطعات الجنوب والاستحواذ على بعضها مقابل تسهيلات لبروسيا في الشمال، وقد كانت هذه الخطوة كفيلة بأن ترمي مقاطعات الجنوب في أحضان بسمارك حماية لنفسها من الهيمنة الفرنسية، وهو ما استغله بحرفية دبلوماسية غير عادية ليؤجج المشاعر ضد الفرنسيين ويبدأ مرحلة من الإعداد النفسي للحرب ضد فرنسا لتكون البؤرة التي تتكاتف حولها المقاطعات الألمانية بروح قومية جديدة. وبالفعل استطاع مرة أخرى أن يستدرج السفير الفرنسي في برلين لتقديم مطالب بلاده مكتوبة، لكنه حرفها وأمر بطبعها في الصحف الألمانية، وهو ما استنكرته فرنسا التي بدأت ميادينها تشهد ثورات عارمة ضد ألمانيا تطالب الإمبراطور نابليون الثالث بإحراق برلين، وبالفعل اندلعت الحرب البروسية الفرنسية عام 1870 كما رسم لها بسمارك، لكن الجيش الفرنسي لم يكن ندا للآلة العسكرية الألمانية وعبقرية «فون روون» «وفون مولتك»، فكانت النتيجة هزيمة فرنسية مدوية أدت لأسر الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث وإسقاط الجمهورية الفرنسية، وتم انتزاع إقليمي «الألزاس واللورين» من فرنسا، واستكمالا للمذلة تم إعلان الملك «فيلهلم» البروسي إمبراطورا لألمانيا الموحدة في حفل تنصيب بقصر فرساي بفرنسا، وذلك بعد أن استطاع بسمارك أن يقنع مقاطعة «بافاريا»، إحدى أكبر المقاطعات الألمانية، بالانضمام للوحدة الألمانية مقابل وضعية خاصة في الفيدرالية الجديدة التي بنيت على استقلال هذه الدويلات والمقاطعات مقابل الوحدة السياسة والنقدية في أيدي برلين من خلال نظام برلماني تمثيلي وبما لا يخل بسلطات الإمبراطور على مجريات الشؤون الخارجية والدفاع من خلال مستشارية الإمبراطورية الجديدة والتي قادها «بسمارك» بنفسه.

وهكذا استطاع الرجل أن يوحد ألمانيا ويجعل منها دولة تمحورت حولها السياسة الدولية على مدار قرن من الزمان، لكن عبقريته لم تنته عند حد الوحدة الألمانية، فدوره في صيانة هذه الوحدة من خلال سياسة خارجية أقل ما توصف به هو العبقرية كان محل تقدير كل الساسة الأوروبيين، فلقد كان الرجل مدركا تمام الإدراك المشاعر الفرنسية المناوئة لبلاده، وأنها لن تدخر جهدا لمحاولة انتزاع كرامتها السياسية من ألمانيا ومعها إقليما الألزاس واللورين، وبالتالي عمد إلى اتباع سياسة توازن قوى تصاغ بميزان من الذهب، فوضع بسمارك قواعد أساسية للسياسة الخارجية لبلاده، على رأسها مبدأ أنه في حالة ما إذا قامت الحرب في أوروبا فإن ألمانيا لا يجب أن تُواجه بجبهتين في آن واحد، وبالتالي ففرنسا لا يُسمح لها بالتحالف مع روسيا تحت أي ظرف، كما أن ألمانيا لا يجب أن تواجه تحالف ثلاث من الدول الكبرى الخمس في النظام الأوروبي، بالتالي فلا يجب السماح لفرنسا بأن تحارب بلاده مع حليفين أساسيين من الخمسة الكبار، وهو ما دفعه لمجموعة من السياسات التي حرمت فرنسا من تحالفاتها في حرب دبلوماسية شرسة استمرت قرابة عشرين عاما، فاستمالت ألمانيا روسيا من خلال تقديم الدعم المالي والمساعدة في عملية الإصلاح والتحديث، وهو ما ضمن علاقة قوية بين الدولتين، كما أنه فتح قنوات اتصال قوية مع بريطانيا ضمن خلالها بقاء لندن بعيدا عن الأحضان السياسية لباريس.

وقد استمر بسمارك في سياساته المحسوبة بدقة، وفتح المجال لبلاده لأن تكون لها مستعمراتها الخارجية من خلال استضافة مؤتمر برلين الشهير عام 1888 والذي تم بمقتضاه تقسيم القارة الأفريقية كمستعمرات على الدول الأوروبية، فاتحا بذلك الباب أمام حصول بلاده على نصيبها من المستعمرات الخارجية لدعم الحركة الصناعية والتجارية في الدولة الألمانية الصاعدة، وقد استمرت جهود هذا السياسي بكل قوة حتى بدأت الخلافات تدب بينه وبين الإمبراطور الألماني، والتي انتهت بعزله عن منصبه في عام 1890، وهو تاريخ حاسم بدأ معه في تقديري العد التنازلي للحرب العالمية الأولى، لأن الساسة الذين خلفوا بسمارك لم تكن لهم حنكته فسمحوا لروسيا بالخروج من دائرة النفوذ الألماني والارتماء في الأحضان الفرنسية، كما دخلت ألمانيا في سباق تسلح بحري غير مبرر مع بريطانيا أدى إلى تدهور العلاقات بينهما، مما شجع على اندلاع الحرب.

وفي التقدير أن نموذج بسمارك يعد من النماذج الفريدة للساسة في القرن التاسع عشر، كما أنه يمثل في تقديري نموذجا فريدا في قائمة الساسة الدوليين جمع الحسنيين السياسيتين، الأولى ممثلة في القدرة على بناء الدولة سياسيا وعسكريا واقتصاديا، والثانية بالقدرة على إدارة سياسة خارجية تراعي أهدافه الداخلية.. فبسمارك لم يسمح لنفسه بأن يدخل التاريخ كشخصية قامت ببناء الدولة من ناحية لتقوم بتدميرها بسياساتها المتهورة من ناحية أخرى.

* كاتب مصري