الحرب البونية الأولى

د. محمد عبد الستار البدري

TT

لفظ «البونية Punic» مشتق من التحريف الروماني لكلمة «فينيقية»، وقد استخدم تاريخيا لوصف الحرب الأولى التي وقعت بين روما وقرطاج خلال الفترة من 264 - 241 ق.م، وهي أحد أهم الحروب الفارقة التي حسمت مستقبل العلاقات الدولية لقرون تالية، وكانت سببا مباشرا في تغيير معادلة القوة في العلاقات المتوسطية، وجاءت نتائجها لتفتح المجال أمام تسيد روما لهذا البحر وتحويله إلى بحيرة رومانية Mare Nostrum.

حقيقة الأمر أن روما كانت قد بدأت تثبت أركان قوتها في شبه الجزيرة الإيطالية وضمت حولها الكثير من المقاطعات وهضمت شعوبا ومدنا في المناطق المتاخمة وأدخلتهم جميعا في دائرة ثقافتها اللاتينية، وكل محاولات منافستها على الصدارة في شبه الجزيرة باءت بالفشل، وسرعان ما بدأت الدولة الرومانية تنظر خارج شبه الجزيرة الإيطالية، فكان في شرق المتوسط قوى مثل مقدونيا، وفي الجنوب الشرقي دولة البطالسة في مصر، ولكن أخطر ما كان يهدد روما وأحلامها في جعل البحر المتوسط بحيرة رومانية هو إمبراطورية قرطاج الكبيرة، فأصبح تقليم أظافر هذه الدولة أو القضاء عليها هدفا رومانيا استراتيجيا.

لقد بدأت قرطاج كمستعمرة صغيرة في تونس لقبائل من الفينيقيين من أصول ترجع لمدينة صور اللبنانية وذلك في القرن العاشر الميلادي، وقد أخذت هذه الدولة تتوسع تدريجيا مثلها مثل روما، خاصة غربا في شمال أفريقيا، وما لبست أن بدأت تمد نفوذها إلى جنوب إسبانيا وتبني مستعمراتها هناك، وهو أمر بدأ يحاصر النفوذ الروماني في الغرب، وكعادة الفينيقيين فإن التجارة كانت النشاط الأساسي لهذه الإمبراطورية، وهو ما استلزم أسطولا قويا يحمي هذه التجارة ويؤمن الدولة وخطوط الملاحة مع مستعمراتها الممتدة في غرب البحر المتوسط، مما وضعها في محك مباشر مع روما، التي بدأت تنظر لهذه القوة العظمي على اعتبارها مصدر خطر عليها.

حقيقة الأمر أن العلاقات بين الدولتين لم تكن في حالة توتر ممتد، بل العكس كان صحيحا حتى مرحلة زمنية محددة، فلقد عمدت قرطاج إلى فتح جسور الود والصداقة بمعاهدات تحالف واتفاقيات سياسية وتجارية متفاوتة، ولكن كل الساسة والعسكريين كانوا على إدراك كامل بأن الحرب آتية نظرا للتنافس الواضح بينهما، وقد بدأت طبولها تدق من خلال الصراع على النفوذ في جزيرة صقلية، فهذه الجزيرة كانت منطقة تماس ملاحي بين الدولتين، وقد أرادت قرطاج أن تنشر نفوذها هناك بعد أن أجبرت روما الملك الحاكم على تغيير ولاءاته لصالحها، وهو ما دفع الأولى لإرسال جيش استطاع أن يحقق بعض الانتصارات المحدودة للغاية، ولكن الرومان هزموا هذا الجيش هزيمة منكرة في معركة «أجريجنتم»، وكانت هذه هي بداية انحسار النفوذ القرطاجي بالجزيرة الذي تبعه فكر روماني جديد مصحوب بطموح أوسع.

لقد كانت روما متفوقة في الحرب البرية، فهي الدولة التي استطاعت فيالقها أن تنتصر على كل من حاول الوقوف أمامها في شبه الجزيرة الإيطالية، ولكنها لم تكن دولة بحرية، فأسطولها كان ضعيفا على عكس قرطاج التي تميزت بكونها دولة بحرية لديها أسطول قوي يصل حجمه لقرابة مائتي مركب مجهزة للحرب، ولكن مع هزيمة قرطاج في الجزيرة بدأت روما تغير من فلسفتها العسكرية، فبدأت تدخل البحرية في معادلة قوتها، فقامت ببناء أسطول كبير قادر على مواجهة أسطول قرطاج، وبالفعل استطاعت أن تلحق به بعض الهزائم البحرية، وسرعان ما تطور طموح روما لمحاولة إرسال حملة بحرية تحمل الفيالق الرومانية للقضاء على قرطاج في تونس.

بدأت هذه المواجهة في عام 256 ق.م. فدارت المعارك في تونس واستخدمت فيها الأفيال لضرب الصفوف الرومانية، ولكنها انتهت بهزيمة قرطاج، وسرعان ما تجددت الاشتباكات بين الطرفين في معركة تونس الفاصلة، التي استطاعت فيها قرطاج أن تلحق الهزيمة بالقوات الرومانية وهو ما غير من ميزان القوة، فاضطرت روما لسحب قواتها على وجه السرعة من خلال إجلاء بحري، ولكن لسوء حظها فإن السفن تعرضت لرياح عاتية أدت إلى إغراق أغلبيتها ومعها الجيش الروماني بشكل يكاد يكون كاملا.

وبهذا النصر، بدأ الطموح العسكري يداعب قرطاج مرة أخرى، فأرسلت جيشا جديدا لجزيرة صقلية مرة أخرى بقيادة القائد العسكري «هاميكلار باراكا» أحد أبرع جنرالاتها، الذي كان لذريته دور مهم في الصراع الدائر مع روما كما سنرى، وقد حقق هذا القائد بعض النصر، ولكنه لم يكن قادرا على الاستمرار في هذه الحرب لأسباب لوجيستية متعلقة بقطع خطوط الإمدادات وعدم استقرارها، خاصة أن الحرب كانت قد أنهكت قرطاج تماما، وهو ما دفع بعض قادتها للسعي لوقف هذا النزيف البشري والمادي، فأدت السياسة المتراخية لبعض قادتها إلى تفكيك الأسطول القوي للدولة، وهو ما استغله الرومان بشن حرب قوية هزمت ما تبقى من البحرية القرطاجية وأجبرت الدولة على طلب الصلح، فجاءت شروط السلام مجحفة كل الإجحاف لقرطاج، حيث تم الاتفاق على منح روما تعويضات عن الحرب تصل إلى مائة طن من الفضة مقسمة على سنوات، إضافة لتسليم سيادتها على صقلية وعدد من الجزر الأخرى بما جعل روما تتسيد غرب المتوسط، وكأن الهزيمة ليست كافية فقد تكالبت الظروف على قرطاج بعدما اضطرت لمواجهة جيوش المرتزقة التي كانت تحارب لصالحها عندما فشلت في دفع رواتبهم، فتأزمت أحوال قرطاج بشكل كبير.

ورغم تكالب كل الظروف على قرطاج، فإنها استطاعت أن تضمد جراحها وأن تتعافى بقوة في السنوات التالية، ولكن شبح المذلة كان قائما، فلقد وقعت روما في خطأ سياسي كثيرا ما تقع فيه الدول المنتصرة في الحروب، التي تسعى لمحاولة القضاء المبرم على كبرياء وخزينة بل وكيان المنهزم، غير مدركة أن في هذا السلوك بذرة الحرب القادمة، وقد شاهدنا ذلك في الحرب العالمية الأولى، كما لمسناه في كثير من الحروب التاريخية المعروفة، فكسر الكبرياء الوطني للمنهزم ليس بالضرورة نصرا سياسيا للمنتصر، فالمذلة القرطاجية كانت عالقة في ذهن الجميع، خاصة الضابط الشاب «هانيبال» ابن القائد «هاميكلار»، الذي كان عاقد العزم على تصحيح مسار الحرب السابقة والقضاء على روما ذاتها، في حملة فاصلة شهد لها التاريخ العسكري بأنها كانت من أعظم ما أنجز، كما سنتابع لاحقا.

* كاتب مصري