الصين.. الجيل الخامس

ثلاثة أرباع القادة سيتقاعدون.. لكن مطالب الإصلاحيين لا تتوقف.. وتحذيرات من «ربيع صيني»

TT

بعد يومين من انتخاب الولايات المتحدة باراك أوباما لفترة رئاسة ثانية، تشهد ثاني أكبر الاقتصادات في العالم، تحولا كبيرا في قيادتها.

فالحزب الشيوعي الصيني، الذي تولى زمام حكم الصين منذ عام 1949، يعقد حاليا مؤتمره الثامن عشر، الذي يعقد مرة كل عشر سنوات، لنقل السلطة من الجيل الحالي من التكنوقراطيين إلى جيل خامس جديد من القادة، وسط اضطرابات اجتماعية متنامية، وفضائح سياسية، وغضب عام من الفساد وهوة متسعة بين الأغنياء والفقراء.

وكما هو معروف فإن نائب الرئيس الصيني شي جينبينغ، سيدير الدفة، عند استقالة هو جينتاو من منصبه كرئيس للحزب، قبل تقاعده كرئيس للبلاد في مارس (آذار) المقبل. ومن المقرر أن يخلف نائب رئيس مجلس الدولة، لي كتشيانغ، وين جياباو، كرئيس للوزراء.

ويعتبر التعامل مع نقل السلطة في الصين كحدث مستقل بذاته، أمرا مضللا، ففي الوقت الذي تجرى فيه الانتخابات الرئاسية الأميركية، رسم الاقتراع المفتوح ملامح السلطة في الصين، فقد أشير إلى صعود شي وترقي لي كتشيانغ في آخر مؤتمر عقده الحزب في عام 2007.

وسوف يشهد المؤتمر الوطني لهذا العام استقالة ثلاثة أرباع القيادة، حيث من المتوقع أن يتقاعد 14 من إجمالي 25 عضوا في المكتب السياسي للحزب، كما أنه من المقرر تقاعد سبعة من بين الأعضاء التسعة باللجنة الدائمة، قبل أن يختتم المؤتمر أعماله الأربعاء المقبل.

فوجئ العالم بأسره ومحبو الديمقراطية في الصين عندما طالب هو ديبينغ، ابن رئيس الحزب الشيوعي السابق، هو ياوبانغ، بتغيير في الصين عشية تسليم السلطة الذي يجري كل 10 سنوات، قائلا إن الشيوعيين بحاجة إلى التحرر من شرك ماضي الصين الإمبريالي وإرساء الحكم الدستوري.

واستمرت وسائل الإعلام في الإشارة إلى أن زمرة مؤثرة من سلالة النخب المؤسسة للصين تفضل التغيير السياسي والاقتصادي الأعمق، على نحو يدعم فكرة أن الصين في المستقبل يجب أن تمنح المواطنين مزيدا من السلطات لاختيار قادتهم وأن تسعى لحل شكاوى، على رأسها شكويان منذ أمد طويل من النظام الحالي.

حتى إن صحيفة «بيبولز ديلي»، الناطق الرسمي بلسان النظام الشيوعي الصيني، ذكرت في مقالة افتتاحية نشرت بها أنه «مع زيادة الوعي العام بحق المعرفة والمشاركة، إضافة لسيادة القانون، لم تصل الديمقراطية في الصين إلى المستوى الذي يتوقعه الكثيرون».

ويحذر عدد متزايد من كبار المستشارين داخل الحزب من أنهم إذا لم ينتهجوا هذا المسار، فقد يكون بقاء النظام في حد ذاته مهددا. ولم يتضح بعد إلى أي مدى يعتزم القائد الصيني المنتظر، شي جين بينغ، الانفصال عن الماضي.

وينعقد المؤتمر في ختام سنة شهد خلالها الحزب الواحد عدة نكسات وفي مقدمها فضيحة بو تشيلاي والمعلومات التي تم كشفها حول ثروة عائلتي هو جينتاو ورئيس الوزراء وين جياباو. وسيحاكم بو تشيلاي المعتقل حاليا سرا بتهم الفساد واستغلال السلطة وهو ضالع أيضا في جريمة قتل رجل الأعمال البريطاني نيل هايوود التي حكم فيها على زوجته غو كايلاي في أغسطس (آب) بالإعدام مع وقف التنفيذ. كما كشفت معلومات صحافية هذه السنة عن الثروات الطائلة لعائلات بعض القياديين الصينيين من بينهم رئيس الوزراء وين جياباو والرئيس المقبل شي جينبينغ.

وتواجه السلطات الصينية موجة من محاولات الانتحار حرقا يقوم بها تيبتيون تكثفت مع اقتراب المؤتمر، وخلال الـ48 ساعة الأخيرة انتحر أو حاول الانتحار حرقا ستة تيبتيين على الأقل على ما أفادت الحكومة التيبتية في المنفى. وفي مجال حقوق الإنسان لا تزال الصين تتعرض لانتقادات. وسيكون أول اختبار للحاكم الجديد معرفة ما إذا كان سيفرج عن المنشق المعتدل ليو جيباو حائز جائزة نوبل للسلام 2010.

وعلى الرغم من ذلك يضع كثيرون آمالا على شي جينبينغ، البالغ من العمر 59 عاما (ابن أول قائد شيوعي في الصين) الذي يعده الحزب الشيوعي الصيني منذ عام 2007 ليصبح زعيما للبلاد من الجيل الخامس خلفا لهو جينتاو كسكرتير عام للحزب الشيوعي الصيني. وتشي جينبينغ هو ابن أحد «أبطال الثورة» حيث قاتل والده إلى جانب ماو تسي تونغ مؤسس النظام. وهو يرث بلدا في حالة تحول كبير مصمما على الاحتفاظ بموقعه كثاني قوة كبرى عالمية. ولن يكون الرئيس الجديد طليق اليدين بل سيتعين عليه مثل سلفه البحث باستمرار عن التوافق مع زملائه أعضاء اللجنة الدائمة في المكتب السياسي أعلى سلطة في الحزب الشيوعي الصيني والتي سيتم تجديد أعضائها أيضا.

غير أن شي ما زال غامضا، على غرار السواد الأعظم من القادة الشيوعيين الصينيين اليوم. ومن المعروف بالنسبة لعامة الشعب أنه ابن لثائر من حقبة المسيرة الطويلة، هو شي زونغشن؛ وزوج مطربة شهيرة جميلة، هي بينغ ليوان. لم تمنع ندرة المعلومات الشخصية عن شي كثيرين من أن يأملوا في أن يصبح زعيمهم المقبل دينغ شياو بينغ العصر الحديث، الذي ربما يعد واحدا من أبرز الشخصيات في التاريخ المعاصر.

وبعد ثلاثة عقود من الإصلاحات الاقتصادية الهائلة واقتراب متوسط معدلات النمو السنوية من نسبة 10 في المائة، يقع الحزب الشيوعي الصيني تحت وطأة ضغوط من أجل إصلاح النظام الاستبدادي المبهم تفوق أي وقت منذ وقوع مذبحة ساحة تيانمن في عام 1989.

يعد الحزب الشيوعي هو الحزب السياسي المؤسس والحاكم لجمهورية الصين الشعبية. وعلى الرغم من وجود ما يسمى بـ«الجبهة الموحدة»، وهي ائتلاف من الأحزاب السياسية الحاكمة، فإنه، في واقع الأمر، يعتبر الحزب الشيوعي الصيني هو الحزب الوحيد في الصين الذي له حكومة مركزية ويفرض سيطرته على الحكومة والجيش ووسائل الإعلام. ويضمن الدستور الوطني السلطة القانونية للحزب الشيوعي، مع أنه بالنظر إلى الأصول اللينينية للحزب، فإنه يعتبر فوق القانون.

ولدى الصين ثمانية «أحزاب ديمقراطية» غير شيوعية تتبع القيادة الشيوعية، ولا تعارض الحزب الشيوعي على غرار أحزاب المعارضة في الدول الأخرى. ويعتبر الحزب الشيوعي الصيني أكبر الأحزاب السياسية في العالم، حيث يبلغ عدد أعضائه 82 مليون عضو (نهاية عام 2010). ويعتبر السواد الأعظم من المسؤولين العسكريين والمدنيين أعضاء بالحزب.

في نهاية السبعينات من القرن العشرين، نبذت قيادة دينغ شياو بينغ للصين نظام الاقتصاد الاشتراكي المخطط له من الطراز الماوي وتبنت الإصلاحات الموجهة للسوق. ونظرا للإيقاع السريع للتغيير، فإنه في أواخر الثمانينات من القرن العشرين، أصبحت الشكاوى من التضخم ومحدودية فرص العمل المتاحة للطلاب، فضلا عن فساد النخبة من الحزب، تتزايد بشكل سريع.

في عام 1989، وقت الحركة الديمقراطية الصينية، عبر المتظاهرون من الطلاب عن مطالبهم بإرساء الديمقراطية تحت قيادة الإصلاحي هو ياوبانغ - الذي أشعلت وفاته في عام 1989 الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية في ساحة تيانمن. وتمت إقالته من رئاسة الحزب في عام 1987 بعد ذيوع أخبار عن سماحه للطلاب في بكين بتنظيم مظاهرات احتجاجية مطالبة بإصلاحات ديمقراطية.

اندلعت تلك المظاهرات مجددا في عام 1989 بعد وفاته. وانتهت المظاهرات بالقمع العسكري، في حدث عرف وقتها وما زال يعرف على نطاق واسع حتى وقتنا هذا باسم مذبحة ساحة تيانمن أو مذبحة تيانمن. في ذروة التظاهرات، احتشد قرابة نصف مليون متظاهر هناك. استمرت الحركة لمدة نحو سبعة أسابيع. وفي النهاية، لجأ دينغ شياو بينغ وغيره من كبار أعضاء الحزب لاستخدام القوة من أجل قمع حركة الاحتجاجات. وقد عززت تبعات المظاهرات سلطة المتشددين الشيوعيين التقليديين. وبالنظر إلى أن الحزب الشيوعي الصيني سوف يظهر بمظهر الاتحاد أثناء المؤتمر الوطني، فقد شهدت الأسابيع القليلة الأخيرة صراعا حامي الوطيس على السلطة بين الفصائل الحاكمة، وعلى وجه التحديد بين «الأمراء» (أو أبناء وأحفاد النخبة الشيوعية) والكادرات الوظيفية وثيقة الصلة باتحاد الشبيبة الشيوعية، التي تعتبر قاعدة القوة للرئيس «هو».

يمر الحزب الشيوعي الصيني بمنعطف تاريخي خطير، تماما مثلما كان قبل 34 عاما عندما أطلق دينغ شياو بينغ سياسة «الانفتاح والإصلاح» في الاجتماع الثالث للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب في عام 1978. «لو كان رئيس الصين قد انتخب من الشعب، لكانت لدينا جمهورية»، هكذا تحدث باو تونغ، أحد أبرز المنشقين وأعلى المسؤولين مرتبة الذي سجن بعد المظاهرات المطالبة بإرساء الديمقراطية في مقابلة أجريت معه». وأضاف تونغ: «ما يطلق عليه الآن جمهورية أقرب إلى سلالة حاكمة إمبريالية منه إلى أي نظام حكم آخر».

ويعترف السواد الأعظم من الصينيين بفضل الحزب في انتشال مئات الملايين من المواطنين من الفقر وإنتاج طبقة متوسطة حضرية ضخمة، مما وفر أساس دعم للوضع الراهن. غير أن كثيرا من الأفراد ليسوا راضين عن كبار القادة والمسؤولين ممن يتمتعون بسلطة سياسية محكمة ويملكون ثروات طائلة ويوظفون سلطة لا تخضع لمراقبة أو فحص.

ويقول باحثون إن عدد «حوادث التجمهر» - مقياس رسمي محدد لعدم الرضا يشمل مظاهرات المواطنين العفوية - قد تضاعف منذ عام 2005. هذا وقد توقفت الحكومة عن الإعلان عن إجمالي معدل تلك الحوادث في عام 2006.

كتب يانغ جيشينغ، رئيس تحرير صحيفة «يانهوانغ تشونكيو»: «نحن ندرك الإنجازات ولكن يحدونا القلق حيال كيفية الحفاظ عليها. إن الكعكة ضخمة جدا، ثاني أكبر كعكة في العالم. لكنها مقسمة بشكل غير عادل. لو لم يتغير النظام، فدائما ما ستظل هناك حالة من الظلم».

سوف يكون لدى الجيل الخامس من قادة الحزب الشيوعي مجموعة من المشكلات المعقدة التي يتعين عليهم التعامل معها. لقد ورثوا أضعف نمو اقتصادي منذ عام 1999، حيث بلغت نسبة النمو 7.7 في المائة هذا العام. علاوة على ذلك، فإنه سيتعين عليهم أيضا التعامل مع حالة الغضب الشعبي المتزايدة من جرائم الاستيلاء على الأراضي والفساد. ومن ثم، فإن ثمة حالة مسيطرة من الخوف من أنه إذا لم يتم التخطيط للتغيير وتنفيذه بعناية، فربما تواجه الصين خطر حدوث انقلاب ثقافي يتخذ شكل ثورة والذي يمكن أن يعيدها قرونا للوراء.

إن المحللين منقسمون بشأن ما إذا كان الجيل الجديد من القادة سيكون أكثر انفتاحا على الإصلاحات أم سيلتزم بآراء سابقيه.

كتب الخبير الاقتصادي الصيني، هو شينغداو، أن أبناء وأحفاد النخبة الشيوعية، على الرغم من ذلك، يبدون أكثر تقبلا للإصلاح من أي فصائل سياسية أخرى، والتي تبدو على درجة من الحذر وتخشى من فقدان السلطة. إضافة إلى ذلك، فإنه حتى مع جذب المجموعة المحدودة من الإصلاحيين السياسيين المزيد من الأنصار المؤثرين، إلا أنها منقسمة إلى فصائل لا يمكنها أن تجمع على ماهية «الإصلاح» اللازم، ناهيك عن كيفية النهوض به.

وينظر إلى التحولات الجوهرية الهامة لتحقيق مطالبهم – على أنه نظام قانوني يتجاوز نطاق سيطرة الحزب الشيوعي، إضافة إلى انتخابات لها قواعد وخيارات حقيقية بين المرشحين - حتى بين الفئات الأكثر تطرفا بوصفها أحلاما بعيدة المنال، في أفضل الأحوال، على أنها جزء من مرحلة إصلاح ثانية.

علاوة على ذلك، فإن الرياح السياسية لا تأتي بما تشتهيه سفنهم. فقد قاد السقوط المذهل لبو شيلاي، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الذي تبنى فلسفة شعبية تتناقض مع آيديولوجية القادة من النخبة، درسا يتعلق بمخاطر تحدي الوضع الراهن. لقد بعث طموح بو الواضح والحملة الشعبية التي أطلقها بتحذير إلى كثيرين من داخل الحزب. لقد عمل النظام الذي أرساه ماو تسي دونغ لأعوام على إضفاء طابع مؤسسي على السياسة ومنع صعود شخصية أخرى تتمتع بالجاذبية ومثيرة للقلاقل وعدم الاستقرار. ويبرز الصمت الرسمي المحيط به مخاوف على مستوى عالٍ مفادها أن أي تصدعات في مظهر الوحدة للقيادة ربما تؤدي بالسلطة إلى التفسخ.

نتيجة لذلك، فإن قلة قليلة هنا هي من تتوقع أن يغير الحزب طرازه طواعية في أي وقت قريب. وحتى هؤلاء داخل النخبة ممن هم مستعدون لمناقشة تغييرات أكثر عمقا، بمن فيهم الجيل الثاني من «أبناء وأحفاد النخبة الشيوعية» لهم حصة في حماية امتيازاتهم الخاصة. كذلك، ليس من الواضح ما إذا كان هو على استعداد لتسليم سلطة جيش التحرير الشعبي لشي عند تخليه عنها.

أيا كانت صورة عملية انتقال السلطة، فإن شي ورث حزبا منقسما على نحو ينذر بالمخاطر وأنهكه الصراع الحزبي بين القادة أصحاب المصالح المتضاربة. وسوف يحتاج شي إلى حلفاء من داخل النخبة الحاكمة بالحزب لإتمام الإجراءات المطلوبة، نظرا لأن الصين تحكمها قيادة جماعية.